للبهجة ضرورة وحاجة في حياة الانسان. بهذه البهجة أو الفرحة يعيش الانسان حياته ويستمر فيها وبها يتحدى أيضا الانسان الزمن. هكذا نصحنا الأقدمون وحرصوا على أن يعلمونا كيف نسعى الى البهجة.. ونصنعها من أي شئ ومن كل شئ مهما كانت قسوة الظروف ومهما كان الحزن المكتوم وأيضا مهما كان الغضب العارم فيما نعيشه وما نراه وما نسمعه في حياتنا اليومية. ومن ثم فان محاولات «اقتناص تلك اللحظة» و«معرفة قيمة هذه النعمة» «البهجة» قبل فوات الأوان والتمسك بها لأطول فترة ممكنة لم تعد ترفا ولا تعتبر رفاهية قد تأتي اليك دون أى جهد أو سعى منك بل هو حق لك وواجب عليك البحث عنه والسعى اليه ومطاردته والاتيان به والاستمتاع به وان أمكن امتاع الآخرين به أيضا. وقراءتنا لتاريخ البشرية عبر القرون تكشف لنا عن أن الشعوب عاشت وبقيت وقاومت الموت والفناء لأن ارادة الحياة لديها انتصرت أو كانت لها الغلبة.. لأن هذه الشعوب وارادتها أيضا لم تستسلم لا لقسوة الأيام ولا لظلم التاريخ والجغرافيا ولا لهمجية الأعداء ولا لبطش الحكام. وقد نبهنا الأقدمون من خلال تجارب حياتهم: لكي تعيش الحياة يجب أن تحبها وتبتهج بها وتستمتع بما فيها ومن فيها وبالمثل لكي تبتهج بالحياة يجب أن تعيشها وتحياها بكل صغيرة وكبيرة فيها والأولوية بالطبع لأى صغيرة فيها. كما تكرر القول أيضا بأن هذه المعادلة ببساطة تتحقق باكتمالها وتكتمل بتحقيقها ولولاها لاكتفينا بالفرجة والابتعاد شيئا فشيئا عن حياتنا بتفاصيلها والشكوى من كل شئ حولنا.. وقد تتوالى الشكوى من الزمان ومن المكان ومن الانسان معا .. ومن أنفسنا بالطبع. ........ ومادمنا نتحدث عن البهجة فان الألوان بلا شك بتنوعها ودرجاتها وأطيافها وظلالها سواء في الطبيعة أو في الابداعات الانسانية لها سحر لا يقاوم ولها سر يحير ويبهر من يقف أمامها ويتأمل جمالها. «راح أمسك الفرشة وألون الدنيا» قالها الفنان العظيم حسين بيكار. بيكار بما تركه لنا هو «الطفل الذي لم يكبر» وأيضا السعيد دائما والمنطلق أبدا ب«علبة الألوان» وأستاذ «فن الرضا» و»صفاء التواضع» والعازف باستمرار على «نغم الحب والجمال». ولا شك أن لوحات بيكار وكلماته وتأملاته لألوان وظلال الدنيا والبشر تحمل بل تشع بهجة نحن في أمس الحاجة اليها بينما نبحث عن البساطة و»لحظة الصدق» و»مصالحة الذات». وبالتالي تكرار الزيارة لبيكار ولابداعاته وحكمه فيه سعادة لا توصف لمن يعرف البهجة ويقدر قيمتها. وقد سمعنا كثيرا في معترك حياتنا ورددنا كثيرا في صخب دنيانا أن «الصراحة راحة» مثلما سمعنا ورددنا أيضا «والعادة سعادة». نعم تلك العادة تحديدا التي تعكس الاختيار وتجسد القناعة وتؤكد الاستغناء والاستكفاء ومن ثم فان تكرار ذاك الاختيار وتلك اللحظة مهما كانت بسيطة وعابرة هي «عادة» يجب التمسك بها وعدم الاستغناء عنها مادامت أنها تسعدك وتشعرك بأنك أسعد انسان في الدنيا. وفي سياق اهتمامنا بالألوان في حياتنا اعتدنا القول ان هذا الشخص ليس له طعم ولا لون .. كما أن السؤال المعتاد والمتكرر لدى الاخوة العرب هو «ايش لونك؟!». ولذلك لفت انتباهي ما ذكر حتى الآن عن الرواية الجديدة للكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي وأن بطله تسكورو تازاكي «من ليس له لون» (هكذا يوصف تحديدا في اسم الرواية). والرواية اسمها «تسكورو تازاكي عديم اللون وعن سنوات رحلته مع الحياة والبشر». والكلمة الانجليزية المستخدمة في العنوان هو المرادف لكلمة الحج (سنوات حجه) بمعنى المسيرة أو رحلة البحث عن المعني وما شابه ذلك. وحسب وصف الناشر فان الرواية تحكي قصة أو قصص شاب وما يعيشه من أحلام وكوابيس وتجمع ما بين ماضيه وحاضره. وأنها رواية حب وصداقة وقلوب تنكسر. والرواية التي ستصدر بالانجليزية يوم 12 أغسطس القادم صدرت في اليابان العام الماضي وبلغت مبيعاتها في الأسبوع الأول أكثر من مليون نسخة. وبالطبع عشاق موراكامي ( صاحب رواية «كافكا على الشاطئ») ينتظرون عملا جديدا لكي يعيشوا عالما حالما عايشوه من قبل وأبهرهم من قبل. وذكر في الأيام الأخيرة أن غلاف الكتاب يبدو بسيطا لأنه يحمل ثلاث دوائر ملونة ومتداخلة الا أن حسب ما أعلنه الناشر الأمريكي فان من يشتري الكتاب سيجد معه مجموعة «ستيكرز» ملصقات صور صغيرة تتضمن أشياء وتذكارات من الرواية ذاتها وبالتالي من سيقتني الكتاب سيكون في امكانه أن يضيف ما يشاء من «ستيكرز» للغلاف ربما خلال قراءته الرواية أو ربما بعد الانتهاء منها. فحرية الاختيار متروكة له وبالتأكيد ستعكس ما بقى في الذاكرة أو ماذا يريد القارئ أن يبقى في الذاكرة. وهنا نحن نتحدث عن لحظة طفولية في «لصق الصور» وعن لحظة بهجة قد يراها البعض طفولية وطائشة (فلتكن) تصنعها في تلوين الغلاف وأنت تقرأ وتحلم مع موراكامي حلمه.. أو حلمك الذي كان غائبا عن بالك وكان في حاجة الى «شرارة» أولدتها رواية موراكامي مثلما فعلت من قبل رواياته السابقة. موراكامي الذي قيل عنه انه يستطيع أن يقنعك بكلماته بأن ما تراه من حلمه هو حلمك أنت أيضا، وانك أنت ربما قد أوحيته بهذا الحلم المبهر. ولا يمكن أن نتحدث عن البهجة والحلم وسحر الكلمات وألوان البشر دون أن نلتقي بجابرييل جارثيا ماركيز. ونقرأ له في احدى مقالاته:«دأب كثير من قرائي على سؤالي عن العلاقة بين كتبي والموسيقى. أنا نفسي سبق أن قلت بمنتهى الجدية ان «مائة عام من العزلة» هي عبارة عن أغنية شعبية من أربعمائة صفحة وأن «الحب في زمن الكوليرا» هو رقصة بوليرو في ثلاثمائة وثمانين صفحة. وأعترف في أكثر من مقابلة صحفية بأنني لا أستطيع أن أكتب ,استمع الى الموسيقى في نفس الوقت لأن تركيزي ينصب على ما أسمعه أكثر مما أكتبه. وفي الحقيقة أعتقد أنني استمعت الى الموسيقى بقدر يفوق ما قرأت من الكتب..» ثم يستكمل حديثه عن الموسيقى في أعماله بالقول: «والآن لم يعد يدهشني على الاطلاق أن يأتيني موسيقي موهوب ليقول لي انه يجد بعض عناصر التأليف الموسيقي في « الكولونيل لا يجد من يكتب اليه». وهو أكثر أعمالي بساطة. وقد كتبته في أحد فنادق الفقراء في باريس في ظروف شديدة القسوة بينما كنت أنتظر وصول خطاب يحمل شيكا لم يصل مطلقا. وكان عزائي الوحيد في تلك الأوقات هو الموسيقى من مذياع مستعار. بيد أنني في حقيقة الأمر أجهل تماما أيا من قوانين التأليف الموسيقي ولا أستطيع على الاطلاق أن أكتب قصة ببنية موسيقية متعمدة» وبما أن ماركيز ساحر السرد والحكى لا يمكن الملل منه يستكمل كلامه: «أنا أعتقد أن العمل الأدبي هو أداة للايحاء تماما كالموسيقى. ولذلك فان أي خطأ في الايقاع من الممكن أن يضيع سحر التأثير. ولهذا السبب فانني أولي لذلك من الاهتمام ما يجعلني لا أجرؤ على تسليم عمل للمطبعة قبل أن أقرأه بصوت مرتفع لأكون واثقا من انسيابيته» أما الكاتب التركي أورهان باموق ففي كتاب له بعنوان «ألوان أخرى» يضم بين صفحاته مقالات له يكتب تحت عنوان «لكي تكون سعيدا»: أن تكون سعيدا، هل هذا أمر مبتذل؟ كثيرا ما تساءلت عن ذلك. والآن أفكر في ذلك طوال الوقت. ورغم أنني كنت أقول دائما أن الناس القادرين على السعادة أشرار وأغبياء، فمن وقت الى آخر أفكر أيضا في هذا: لا، أن تكون سعيدا ليس ابتذالا، بل يحتاج الى استخدام العقل». ثم يستعرض باموق تفاصيل تفاصيل رحلته المعتادة مع ابنته الصغيرة الى الشاطئ.. وهنا تظهر وتتأكد مفهوم ما ذكرته من قبل «العادة سعادة». اذ يكتب: «عندما أذهب الى شاطئ البحر مع ابنتي التي تبلغ أربع سنوات «رؤيا» أصبح أسعد انسان في العالم. ماذا يريد أسعد انسان في العالم أكثر من ذلك؟ انه يريد بالطبع أن يستمر في كونه أسعد انسان في العالم. ولهذا فهو يعلم أهمية أن يفعل نفس الأشياء كل مرة، وهذا ما نفعله، دائما نفس الأشياء» ........ انها رحلتنا اليومية والمعتادة مع الألوان والموسيقى والكلمات والمعاني ومن خلالها وكالعادة نبحث عن البهجة والسعادة والحلم والرضا وكل ما يجعلنا نشعر بأننا بشر وننتمي الى العائلة الانسانية بأشكالها المتعددة وألوانها المختلفة والمتميزة. عندما سئلت الكاتبة غادة السمان عن اللون المفضل لديها جاءت اجابتها «قوس قزح» ثم أضافت:«أحب الألوان كلها شرط أن أجدها في مكانها الذي يروق لي. أحب الليلكي (البنفسجي) مثلا شرط أن يكون لونا لسيارتي لا لبشرة حبيبي .. وأحب الأخضر، في عينيه لا في شعره!.. وأحب البرتقالي لغير بشرته وأحب الأزرق ، شرط ألا يكون لونا لشفتيه..أحب الأبيض والأسود لثيابي مع وردة حمراء واحدة صغيرة..» نعم انها التفاصيل في نهاية المطاف.. تلك التفاصيل الصغيرة والدقيقة والحميمة والعجيبة التي تجعل لحياتنا لونا ولأيامنا معني ولوجودنا قيمة .. ولانسانيتنا بصمة!!