يأتى الرئيس السيسى إلى منصب الرئاسة ومصر تواجه أخطر أزمة فى تاريخها الحديث، فهى أزمة مركبة تتشابك فيها التحديات الداخلية فى الاقتصاد والأمن وتفشى الفساد وانهيار التعليم وسط فراغ فكرى يلمؤه خطاب التطرف، هذا مع استمرار تفاقم الأزمات المزمنة مثل مشكلة الانفجار السكانى والتلوث فى مصادر المياه خاصة نهر النيل، ثم تشابك ذلك كله مع تحديات خارجية تطوق العالم العربى من كل اتجاه وبزوغ تهديدات وجودية جديدة مثل قضية سد النهضة مع إثيوبيا، وفى كل هذه الأجواء لا يوجد ما يدعو إلى شيء من الاطمئنان سوى وجود رئيس قوى ذى ارادة حديدية يعرف ما يريد لبلده ويملك شجاعة اتخاذ القرار . وسط كل هذه التحديات تظهر قضية الطاقة ودعم الطاقة كواحدة من أعقد وأصعب ما يواجه الرئيس وحكومته، ولن تستطيع مصر أن تبدأ فى استعادة عافيتها، إلا بمواجهة هذه القضية المتفاقمة.. وقد بدأت بالفعل حكومة محلب فى التعامل الحذر مع هذه القضية بعد أن تجاهلتها رغم خطورتها البالغة الحكومة السابقة عبر العقود الثلاثة الماضية سواء قبل الثورة أو بعدها.. بدأ اهتمامى بموضوع دعم الطاقة منذ أن كنت سفيرا فى واشنطن فى الثمانينيات والأعوام الأولى من التسعينيات، وأجد من واجبى أن أتحدث عما جرى بشأنه لأنه يكمن فى جذور المشكلة التى نواجهها اليوم، وأبدأ من تلك اللحظة التى أصدر فيها الكونجرس تشريعا يقضى بإعفاء مصر من الديون العسكرية (7.1 مليار دولار) دون أى قيد أو شرط، وكان من بين ما نص عليه هذا التشريع مطالبته للدول الدائنة الأخرى لمصر بأن تعفى مصر أيضا من نصف ديونها على الأقل، وكلف الكونجرس وزير الخارجية جيمى بيكر بدعوة الدائنة لمصر للاجتماع لهذا الغرض فى باريس قبل نهاية العام 1990 وعقد هذا الاجتماع بالفعل وأعلنت الدول الدائنة فى هذا الاجتماع استعدادها للاستجابة لمطلب الكونجرس الأمريكي، إلا أنها اشترطت أن يتم إعفاء مصر من نصف ديونها فى إطار برنامج اصلاح اقتصادى تتفق عليه مصر والدول الدائنة وصندوق النقد الدولى والبنك الدولي، وكانت وجهة نظر هذه الدول أنه ما لم يتم الاعفاء فى اطار برنامج للاصلاح الاقتصادى فإن إلغاء الديون سيذهب سدى ولن يجنى منه الاقتصاد المصرى شيئا، حيث سيظل دعم الطاقة يمثل نزيفا دائما ومتفاقما فى الاقتصاد المصري، وتقدمت الدول الدائنة مع صندوق النقد والبنك الدولى بمشروع اتفاق للاصلاح الاقتصادي، ينص على الغاء دعم الطاقة فى بداية تنفيذ البرنامج.. وكان الرئيس الأسبق مبارك متخوفا من إلغاء دعم الطاقة وكان يخشى من ردود الفعل، متذكرا ما حدث عام 77 وكان هو أثناء هذه الأحداث نائبا للرئيس.. وكان عليه أن يواجهها فكانت النتيجة أن عدلت مصر عن قرارها بخفض دعم الطاقة ومن هناك كانت خشيته هذه المرة أيضا من قبول مشروع الاتفاق وما ينص عليه من إلغاء دعم الطاقة، إلا أنه أمكن اقناعه أن الأمر مختلف فى هذه المرة لأننا كنا فى وضع اقتصادى أفضل كثيرا، حيث ألغينا الديون العسكرية وانزاح عنا هذا الهم الثقيل (7.1 مليار دولار)، كما ألغت الدول العربية ديونها وكانت تبلغ حوالى ستة مليارات دولار وأمكن الحصول على معونة من صندوق مساعدة الدول المتضررة (حوالى خمسة مليارات دولار).. وبالتالى كانت لدينا وسادة معتبرة نستند إليها كما أمكن تعديل مشروع الاتفاق، بحيث أصبح إلغاء الدعم يتم على مرحلتين وليست مرحلة واحدة، كما كان هناك إغراء إلغاء نصف ديون الدول الدائنة الأخرى (أربعة مليارات دولار) والأهم هو إغراء التوصل إلى برنامج للاصلاح الاقتصادي، وللتاريخ فإن الرئيس بوش الأب كان مساندا لنا فى تليين موقف كل من الصندوق والبنك وكان ذلك عام 1991، وبالتوصل إلى هذا الاتفاق زالت العقبة الرئيسية فى المفاوضات، وتم اقرار الاتفاق بواسطة مجلس إدارة صندوق النقد الدولى فى اجتماع يوم 17 مايو 1991، ونص الاتفاق على أن يتم إلغاء نصف مديونية الدول الدائنة وأغلبها من الدولى الأوروبية من خلال ثلاث شرائح: الشريحة الأولى والثانية كل منها 15% ثم الشريحة الثالثة 20% على أن ترتبط كل شريحة باتخاذ اجراءات محددة لتنفيذ برنامج الإصلاح. -وتم اقرار هذا الاتفاق واعتمده مجلس إدارة الصندوق وما ان انتهى تنفيذ البرنامج حوالى عام 95 أو 96 حتى أصبح الاقتصاد المصرى فى وضع ممتاز وانتهى عهد عجز الميزانية . فى نفس الوقت الذى تم فيه التوصل إلى إلغاء الديون وانصلح حال الاقتصاد واختفى عجز الميزانية وألغى دعم الطاقة وتقبل الناس ذلك عن طيب خاطر وتوقف النزيف فى الاقتصاد المصرى عدنا من جديد فى أواخر التسعينيات إلى سياسة دعم الطاقة، وتزامن ذلك مع ظهور الغاز كمصدر جديد للثروة تصورنا أننا سنتعامل معه بسياسة رشيدة وأنه لو كان هناك، ما استجد لتقديم دعم فإن هذا الدعم سيكون مقصورا على أصحاب الدخل المحدود، ولكن ما تبين بعد ذلك أننا سرنا فى سياسة أقل ما توصف به أنها سياسة تبديد الطاقة الجديدة التى ظهرت وظهر الجشع والفساد الذى كان حريصا على الدعوة إلى دعم الطاقة بحجة مساعدة الطبقات ذات الدخل المحدود وما كان ذلك إلا حجة أو ذريعة لتسويق فكرة العودة للدعم الذى يذهب أغلبه (80% على الأقل) لجيوب أصحاب الشركات كثيفة الاستخدام للطاقة. ولأنه لم يجر أى استثمار فى بناء شبكة مواصلات عامة محترمة فقد تزايد اقبال الناس على شراء السيارات الخاصة فاكتظت الشوارع وازداد تلوث البيئة.. ثم جاء الفساد واستشرى أكثر وأكثر ولم يكن هناك أى تفسير أو تبرير لأن تبيع مصر منتجاتها من الغاز بأسعار أقل كثيرا من الأسعار العالمية سوى الفساد وبارونات الفساد واستمر النزيف فى الاقتصاد القومى وفى الميزانية وعاد عجز الميزانية بعد أن كان قد اختفى ولم تفعل مصر كما فعلت بلاد مثل إيران والنرويج من الاحتفاظ بثروتها من الغاز وعدم تبديدها تحسبا ليوم تحتاج فيه إلى هذا الاحتياطي، وها نحن اليوم وقد نضب الغاز بعد أن بعنا بهذه الأسعار المتدنية نحاول استيراده ولكن بأسعار أضعاف ما كانت مصر تبيعه به.. ولم يكن هناك من حسيب أو رقيب.. فاتفاقات بيع الغاز اعتبرت اتفاقيات سرية ولم تكن تعرض على مجلس الشعب وعندما اتسع الخرق على الراتق كما يقولون بدأ رئيس الدولة آنذاك ينبه إلى أن دعم الطاقة قد وصل إلى أرقام غير مسبوقة ففى خطاب له يوم 29 أكتوبر 2007 ذكر أن دعم الطاقة وصل إلى خمسة وخمسين مليار جنيه أى أكثر من ميزانية الصحة والتعليم مجتمعين..وأصبح حوالى مائة مليار جنيه فى عام 2010 وهو مبلغ متكرر بطبيعة الحال سنوياً أما الآن فدعم الطاقة قد وصل إلى مائة وخمسين مليار جنيه سنويا.. فلا غرو إذن أن تكون الدولة مدينة بما قيمته تريليون وتسعمائة مليار جنيه دينا داخليا وأكثر من خمسين مليار دولار دينا خارجيا. ومن الواجب الآن أن يجرى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تدرس ما حدث طوال الفترة الماضية بدءأ من إلغاء الديون عام 1991 والتوصل إلى اتفاق للإصلاح الاقتصادى حتى الآن.. لن تكون هناك أى جهة مستعدة لمساندة مصر ما لم يكن هناك برنامج واضح ومقنع للإصلاح الاقتصادى حتى تكون الدول الداعمة واثقة من أن ما ستقدمه من دعم لن يذهب فى بالوعة العجز بل سيؤدى إلى إصلاح الاقتصاد وقصره على مستحقيه. سيكون الاشقاء مستعدين للمساعدة فى ضوء برنامج تلتزم به الدولة للخروج من هذا النفق المظلم الذى دخلت إليه بقدميها منذ أكثر من عشرين عاما. لمزيد من مقالات عبدالرءوف الريدى