بعد جريمة داعش على مقابر المسيحيين فى الموصل وتدمير شواهدها وتكسير صلبانها، وقبلها كانوا أجبروا المسيحيين على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو المغادرة بعد ترك كل أموالهم ومتعلقاتهم، وقاموا بتخريب عدد من الكنائس وأحرقوا النيران فى كنيسة أثرية تأسست قبل ظهور الإسلام بأكثر من قرن. وبعد أن تردد أن الجريمة لم تكن مقصورة على إرهابيى داعش وإنما شارك فى النهب أيضاً بعض السكان المسلمين، لم يعد من الممكن بعد كل هذا الاكتفاء بالكلام عن أن الإسلام براء من هذه الجرائم، وأن السماحة الإسلامية تدينها، وأن هذا يسئ إلى الإسلام والمسلمين..إلخ، لأن هذا الكلام يُقال منذ عقود عندما كان إجرام الإرهابيين المتطرفين تحت راية الإسلام فى بداياته، ولكن الكلام لم يمنع استفحال جرائمهم، بل إنهم يزدادون غلواً، بل إن الجرائم فى كل بلد تبدأ من قمة التصعيد الذى وقع فى بلد آخر، وكأنهم يخشون أن يوصموا من "إخوانهم" بأنهم متقاعسون! انتهى إخوان مصر وحلفاؤهم إلى العدوان على أكثر من 60 كنيسة فى يوم واحد، فجاءت داعش فى العراق وأضافت اختراع تخريب المقابر! وليس هناك ما يُرجِّح أن يكون المستقبل أفضل للمسيحيين. لقد انحدرنا إلى درك صار فيه التهاون مع الجرائم التى تحدث تواطؤاً فى الجُرْم، ومن التهاون الشديد أن يَطرح أحدٌ الآن حلولاً من عينة إرسال قوافل للتوعية أو تأسيس مواقع على الإنترنت أو برامج فى التليفزيون تقوم بعرض الفقه الحنيف، أو أن تُعقَد جلسات حوار مع هؤلاء الإرهابيين لإقناعهم بصحيح الدين! لقد استغرقت هذه الثرثرة سنوات تبددت دون إنجاز، بل لقد استغلها الإرهابيون فى لم شملهم وجمع سلاحهم وتحصيل الدعم القادم لهم من قوى معادية تسعى لوأد أى إمكانية لتطور هذه البلاد! وقد تجاوز هذا الموقف ما يمكن أن يقوم به الأزهر والمؤسسات الدينية الأخري، بل إنه تخطى جدل السياسيين الذى يبدد الطاقات ويُضيِّع الممكنات، لأن القضية صارت أوضح من أن يناقِش أحد مبدأ استخدام القوة ضد من يرفع السلاح ولا يتردد ثانية واحدة فى استخدام أقصى عنف ضد العزل وضد عقيدتهم وضد رموزهم الدينية وضد دور عبادتهم، بل إنه يلغو بعقيدة مُفَبرَكة يخلط فيها السياسة بأقوال مستمدة من خارج الزمن، ولا يحترم الدستور والقانون وانجازات البشر فى حقوق الإنسان وتطورات ذلك فى الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية! ما هذا الصمت الرهيب من جامعة الدول العربية فى وقت يتأكد فيه كل يوم أن بعض دولها متورطة فى تمويل هذا الإرهاب؟ هل وُضِعت هذه القضية على جدول أعمال الجامعة؟ هل هناك نية أن تُوضَح؟ ما هى الأسباب المانعة لذلك؟ هل صارت الجامعة غطاءً لمثل هذه الجرائم؟ أليس المسيحيون العرب مواطنين لهم حق أن توليهم الجامعة بعض الاهتمام؟ لماذا لم يفكر الأمين العام للجامعة أن يقود مظاهرة، مع رؤساء الوفود والسفراء فى الجامعة، يعلنون إدانتهم لهذه الجرائم وتضامنهم مع الضحايا المسيحيين؟ ألم يستلهم الفكرة وهو يرى ملك السويد فى مظاهرة تضامن مع الشعب الفلسطينى فى غزة؟ ألا يشعر بالحرج أن الجامعة مُكَبَّلة أكثر من عرش السويد؟ هل نستكين إلى أن الجامعة صارت تابعة للقرار الخارجى من الدول العظمى حسب مصالحها كما حدث عند الغزو العراقى للكويت وفى الحالة السورية؟ لقد صمت الجميع طوال الاضطهاد المنظم الذى تعرض له المسيحيون فى السودان تحت حكم الإسلاميين حتى لم يكن هنالك مفر من الانفصال؟ فهل يصير انفصال المسيحيين فى الدول العربية هو الخلاص الوحيد تحت نظم متطرفة أو فاشلة أو عاجزة وفى ظل هذه السياسة التى تتبناها الجامعة؟ حتى إن الجامعة لا تبدى جهداً جاداً فيما يتعرض له المسيحيون فى ليبيا هذه الأيام، وكان منهم ضحايا مصريون جرى قتلهم على الهوية بدم بارد! طيب، القوى العظمي، فى هذه اللحظة، ولحسابات تخصها، صامتة عما يحدث للمسيحيين فى العراق وسوريا وليبيا وفى غيرها، فلماذا تسكت الجامعة؟ وما هى حساباتها؟ أليس هناك احتمال أن تغير هذه القوى موقفها عندما ينضج الموقف ويجأر المسيحيون بطلب النجدة؟ هل تلحق الجامعة بذيل الركب عندئذٍ؟ وماذا إذا كان موقف القوى الخارجية غير معلن كما حدث فى السودان؟ إذا كانت الجامعة تسعى ولا يصيبها النجاح لكان لها عذر، لكنها لا تتحرك! الغريب أن الأقليات خارج العالم العربى هي، غالباً، التى تنتفض وقد ترفع السلاح لتحقيق مصالحها أو لرفع الظلم عنها، أما لدينا فإن العدوان يأتى دائماً من الأغلبية ضد الأقلية، ومن أجل أن يجردوهم مما تبقى بعد أن صمتت الأقليات طوال السنين على القهر! بل ومن الغرائب الأخرى أن ممثلين للأغلبية يتحدثون عن النعيم الذى تعيش فيه كل فئات وطوائف الشعب، ويرفضون وصف “الأقلية”، ويحدثونك عن مؤامرات إسرائيل والغرب الاستعمارى فى زرع التطرف! فهل ننتظر حتى ينجح المتآمرون فى زرع فتنة التطرف فى صفوف المسيحيين برفع السلاح أو بالمطالبة بالانفصال؟ أم أن الرهان قائم على مثل حكمة البابا تواضروس الذى عَلَّق على جريمة العداون الهمجى على الكنائس المصرية بأن الإصابة كانت فى الحجر وأن المسيحيين لا يضيرهم أن يُصَلِّوا فى الشارع؟ طيب، للبابا تواضروس شخصيته وفكره الخاص، كما يحكمه تاريخ وطنى طويل للكنيسة التى يرأسها، كما أن لديه تراثاً وطنياً جامعاً مع الأغلبية الساحقة من المسلمين، فهل هذا متاح فى كل الدول العربية؟ لمزيد من مقالات احمد عبدالتواب