تشير الكثير من الملابسات المرتبطة بعملية الإعداد للانتخابات البرلمانية إلى أن محاولة إعادة تنظيم الحياة الحزبية ومواجهة حالة السيولة السياسية لن تكون سهلة رغم تزايد الميل نحو بناء تحالفات وائتلافات سياسية كبري، فلا تزال حركة الجماهير وأسس المجتمع التقليدى وثقافته تفرض إيقاعها على مسار التفاعلات. لتبدو مشكلة التمثيل السياسى والمجتمعى مدخلاً ملائماً لتفهم صعوبات الإصلاح وبناء نظام سياسى واجتماعى قادر على معالجة التشوهات والاختلالات السياسة والشروخ المجتمعية التى بدت أكثر وضوحاً بعد 25 يناير، وعاكسة للأولويات حتى يمكن التقدم نحو عملية ديمقراطية سريعة وحقيقية. فحالة السيولة السياسية والمجتمعية الراهنة تمثل قيداً على عملية البناء وتسهم فى إيجاد بيئة غير محفزة أو قادرة على مواجهة التحديات المرتبطة بهيكل الدولة المصرية ودرجة التطور المجتمعي، مثل: طبيعة علاقة الدولة بالمجتمع، والثقافة المجتمعية السائدة، وضعف البناء السياسي، وتشتت الجماعة السياسية المصرية، فضلاً عن ذلك يبدو المجتمع المدنى المصرى بكل تنظيماته ومنظماته غير قادر على تنظيم قوى المجتمع وتعظيم قدراته على المشاركة وتحديد اتجاهاتها وتشكيل تحالفاتها، كما أن غلبة الطابع الأهلى ومنظومة قيمه وطبيعة أدواره ومسئولياته، فضلاً عن تعاظم التوظيف الدينى والسياسى للمنظمات الأهلية، قد أسهمت جميعها إلى حد كبير فى تراجع وانكماش المجال المدنى لمصلحة المجال السياسي. إن حركة الجماهير منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن تعبر عن غياب الأصل وبروز عدم قدرة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى عن استيعاب القوى الاجتماعية والتيارات السياسية، ومن ثم ضعف التناسق بين البناء السياسى والبناء الاجتماعي. كما تشير حالة الاستقطاب إلى أشكال واتجاهات متعددة من الانقسامات، فهناك استقطاب ما بين قوى وتيارات إسلامية وبين قوى وتيارات مدنية، وهناك استقطابات فرعية داخل هذه التيارات، وهناك ثوار وفلول، وإذا ما أضفنا غياب التوافق والافتقاد لمفهوم موحد للتغيير والإصلاح وسط حالة السيولة الشديدة سياسياً واجتماعياً لبرزت نتيجة أساسية مفادها أن الحركات الثورية والأحزاب والائتلافات الشبابية قد استندت وتوافقت على الرفض والاحتجاجات بأكثر من استنادها على مضمون التغيير واتجاهاته، الأمر الذى أعطى للإخوان المسلمين ومن يدعمهم ميزة نسبية بقدرتهم على تقدم الصفوف والسيطرة على مسار التفاعلات والوصول إلى الحكم ومن ثم تهميش باقى القوى السياسية والمجتمعية، ليكون خروج الجماهير مرة أخرى يوم 30 يونيو تعبيراً عن إصرار المصريين على بناء دولتهم الحديثة وتأكيداً لمطالبهم التى خرجوا من أجلها يوم 25 يناير. ورغم إيجابية إعادة الاعتبار للجماهير ومشاركتهم، كما بدت فى الكثير من اللحظات الحاسمة على مدى الثلاث سنوات والنصف الماضية، إلا أنها كشفت فى الوقت نفسه عن واقع مأساوى لجماعة سياسية غير قادرة على تجاوز نتائج حالة الركود السياسى التى فرضها نظام مبارك. فمن الواضح أن خروج المصريين وإسقاطهم حكم الإخوان (30 يونيو 3 يوليو) الذى لم يدم سوى عام كان تعبيراً حقيقياً عن ضريبة كان لابد من دفعها سياسياً ومجتمعياً لإعادة تأسيس الدولة المصرية وفقاً لمقومات الدولة الحديثة العصرية التى تستند إلى مبدأ التطور والتقدم المستمر فى إطار عملية ديناميكية تهدف إلى الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى الإنتاج، وتوفير بناء مؤسسى مستنداً إلى مجموعة من القيم والآليات الثقافية والاجتماعية والسياسية الداعمة لدولة القانون والمواطنة. فقد أكدت الوثيقة الدستورية التى تم الاستفتاء عليها يومى 14 و15 يناير 2014 عند مقارنتها بدستور 2012 الذى صاغه الإخوان والتيار الداعم لهم حجم الفارق الذى أحدثته التعديلات الدستورية حتى يصبح إطاراً ملائماً لعقد اجتماعى جديد يدعم حقوق المواطنة ودولة القانون ويحفظ للدولة هويتها التاريخية والعصرية. ولذا تبدو أهمية اللحظة الراهنة المرتبطة بالإعداد للانتخابات البرلمانية وقدرة هذه اللحظة على إفراز برلمان قوى ممثلاً لفئات وشرائح المجتمع وعاكساً لمتطلبات الإصلاح والبناء وملبياً لاحتياجات المجتمع والدولة، فالقضية لا تقتصر على استكمالها بناء مؤسسات وسلطات الدولة وإنهاء المرحلة الانتقالية، ولكن جوهر القضية والتحدى يرتهن بالقدرة على توفير بيئة محفزة لدعم العملية الانتخابية من كل الأطراف المسئولة عن إدارة العملية وأيضاً من جانب القوى السياسية والحزبية التى تظهر ممارساتها الكثير من الضعف وعدم القدرة على بناء سياسى قوى يستند إلى نظام وممارسات حزبية حقيقية تدفع عملية الديمقراطية وتحدد شكل وطبيعة النظام السياسى فعلياً. وهنا يمكن الإشارة إلى نقطتين أساسيتين: النقطة الأولي: وجود نخبة حاكمة وقوى سياسية وحزبية مؤمنة بعملية الإصلاح وتمتلك المصداقية والشرعية لدى جموع الشعب، لتمكنها من اتخاذ الإجراءات المناسبة وتدفعها نحو التغيير، لا سيما تجاه قضايا مثل: الحرية السياسية بكل أبعادها، وقضية العدالة الاجتماعية، وقضية المواطنة. اما النقطة الثانية: القدرة على تحويل الدستور إلى واقع عملى قابل للتطبيق والممارسة، فهناك العديد من القوانين التى يجب إصدارها من خلال القوى السياسية التى ستصل إلى البرلمان، وهو ما يعكس أهمية المرحلة الراهنة وماتشهده من بناء تحالفات سياسية. وهكذا، يبدو أن عملية الإصلاح والبناء لن تكون سهلة أو قصيرة، فاستعادة هيبة الدولة وتوفير مقومات النهوض سوف تمثل أولوية للقيادة المصرية، وخاصة أن اختيار الرئيس عبد الفتاح السيسى يؤكد انحياز شرائح كبير من المجتمع إلى أولوية الأمن والاستقرار والمحافظة على الدولة ومواجهة الشروخ المجتمعية، وربما تأتى هذه الأولويات على حساب التقدم فى عملية ديمقراطية سريعة وخاصة مع استمرار حالة السيولة السياسية والمجتمعية الراهنة. وهو ما يلقى بقدر كبيرة من المسئولية على القوة السياسية والحزبية والمدمية لاعادة تنظيم المجتمعين السياسى والمدنى ، لمواجهة حالة السيولة كسبيل لدفع العملية الديمقراطية. لمزيد من مقالات د.أيمن السيد عبدالوهاب