ربما يكون مشهدا متكررا فى حياتى وحياة كل المصريين، إلا أننى استقبلته هذه المرة من منظور مختلف تماما: فلقد كنت أسير بأحد الشوارع، وسمعت نباحا شديد الوطيس صادرا عن مجموعة من كلاب (شديدة الضلال) ربما يزيد عددها على الخمسة أو الستة أو يزيد، ولأننى أعلم تمام العلم أن القافلة دائما تسير و أن الكلاب تنبح - هكذا علمونا فى الأمثال - فإن ما لفت انتباهى بحق هو ذلك الإصرار الذى انتاب هذه المجموعة من الكلاب وهى تهرول نحو هدف مجهول، أحمد الله عز وجل أنه لم يكن يتمثل فى شخصي؛ ظللت أترقب الموقف بحذر بالغ من طرف خفي، فاكتشفت أن الهدف كان كلبا (آخر) يمر على مبعدة برفقة صاحبه، والذى أمسك زمامه بسلسلة أنيقة؛ وكان أكثر ما لفت انتباهى بصراحة هو عدم تفوه ذلك الكلب المهذب بصوت واحد على ضخامة جسمه أمام هذا الفاصل المتواصل من (ردح) كلاب الشوارع! ولا أعرف سببا لتداعى مشاهد رأيتها رأى العين فى شوارع أوروبا فى مخيلتى كلما من الله على بزيارة لهذه البلدان؛ فكم رأيت كلابا بصحبة بشر تسير فى الشوارع بين الناس بهدوء، بل كم رأيتها تسير دون صاحب أساسا ولكن سلوكها ظل منضبطا؛ فلم أسمع لها نباحا، ولم يحدث أن استفزتها كثرة البشر! سألت نفسى سؤالا حائرا: لماذا تتصرف هذه المجموعة على هذا النحو؟ ولماذا يتمالك هذا الكلب نفسه؟ فإذا كان الأمر مرتبطا ارتباطا شرطيا بالغريزة الحيوانية وحدها بما يبرر تصرفات هذه الحفنة المارقة من (الكلاب)، فإن هذا الارتباط سرعان ما يتهاوى بل وينمحى تماما أمام رد فعل ذلك (الكلب)المهذب.. فما السر إذن و ما الفارق، اللهم إلا إذا لم يكن ذلك كلبا أصلا؟ الأمر وبنظرة سطحية قد يبدو تافها، لكنه فى صميم جوهره ينم عن اختلاف ربما يحمل فى طياته حلا لكثير من مشكلات البشر وليس الحيوانات فحسب! ظل الأمر يراودنى إلى أن قابلت صديقة ألمانية فسألتها بتحرج شديد خوفا من أن تتهمنى بالتفاهة بصراحة، ولكنها لخصت الأمر فى كلمة واحدة مقتضبة وهى تبتسم ابتسامة حملت معانى عدة كان أهونها السخرية:(التعليم Education) هكذا أوجزت! و هل تعلمون (الكلاب) فى بلادكم على نحو منهجىأيضا؟ قالت: (نعم، ففى ألمانيا وتحديدا على قناة تدعى Vox مثلا هناك برنامج يطل على الناس أسبوعيا لتعليمهم كيف يدربون كلابهم على تطويع الغرائز(الحيوانية) ليكسبونها سلوكا يؤهلها للتعايش مع بنى البشر؛ كما أن هناك مكاتب وشركات متخصصة فى هذا المجال)! فما بالك لو أن من بين الناس بشرا غير مؤهلين للتعايش مع بقية البشر؟ وكأن هذه المجتمعات التى نراها و ننبهر بها وبإنجازاتها هى ليست وليدة طرح فى كتاب بعينه أو نظرية سياسية أو اقتصادية، وإنما هى حيز مكانى و زمانى قرر أن يهذب انفعالات و(غرائز) الحيوانات قبل البشر! و من ثم فعندما تجد المهزوم فى مباراة من المباريات الرياضية يبدأ بمد يده (وهو يبكى من مرارة الهزيمة) ليصافح خصمه عن طيب خاطر؛ وعندما تجد تظاهرة تبدأ بميعاد وتنتهى (سلميا) بميعاد؛ وعندما تجد أهل الميت يحضرون مراسم دفنه بوقار يعتصره الحزن والألم دون (مرمغة فى الأرض ونواح وعويل)؛ وعندما تجد رجلا يتعفف عن أن يتحرش بامرأة شديدة الجمال؛ وعندما .. وعندما.. فاعلم أن هؤلاء قد اكتسبوا سلوكا عرف كيف يمكنهم من السيطرة على (انفعالاتهم وغرائزهم)البشرية العادية! وعلى الجانب الآخر، عندما تجد أناسا (تحشر) الأطباق بصنوف طعام لن تقوى على التهامها مهما بلغ بها حد الجوع؛ وعندما تجد قائدى مركبتين راحا ينهالان على بعضهما بعضا بالضرب والسباب بأقذع صنوف الشتائم لمجرد احتكاك (بسيط) بين المركبتين؛ وعندما تجد (كلابا) تنهش عرض فتاة فى (قارعة الطريق) بحجة أن زيها قد استثار (غرائزهم)؛ وعندما تجد دولة قررت أن تقيم مباريات كرة القدم دون جمهور (لسنوات) خوفا من أن ينقض الناس على بعضهم بعضا يتقاتلون فى (لمح بالبصر)؛ وعندما تجد (المستشفيات) قد تحولت إلى ثكنات عسكرية لتأمين (المرضى) بداخلها؛ وعندما.. وعندما.. فلا تتعجب حينئذ من سلوك (الكلاب الضالة) فى هذا البلد! وأذكر لقاء جمع يوما بين الإعلامى عمرو أديب والأميرة فريال كريمة الملك فاروق، حين أراد أن يعرف المزيد عن حياة العائلة الملكية داخل دهاليز القصور؛ فسألها بحميمية: اخبرينى مثلا، عندما كان الملك يجالس أبناءه فيغضب من تصرف لا يعجبه فيصيح فيهم بصوت مرتفع كيف كانوا يتصرفون لتحاشي...؟ فاستوقفته الأميرة(الراحلة) قبل أن يكمل سؤاله أساسا متهكمة، متعجبة، متسائلة:(الملك (يزعق)؟ لا يا أستاذ عمرو، الملك عمره ما يزعق)! هذا هو الفرق!