لا يكتمل الحديث عن الإصلاح التشريعى بدون التطرق إلى قضية ترتيب الأولويات. نفهم بالطبع أن يكون لدى مختلف القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية أولويات ترى أنها أهم أو أسبق من غيرها. لكن نحن هنا نتحدث عن أولويات (وطنية) جديرة بأن ننحاز إليها برغم اختلافنا حول قضايا أخري. المطلوب من الدولة أن تقيم التوازن بين مختلف مطالب ومصالح هذه القوى بقدر ما يجب على هذه القوى نفسها أن تتنازل عن جزء من مصالحها من أجل الوطن. نحن اليوم مطالبون بإقامة توازن تشريعى دقيق وحاسم بين متطلبات تشجيع القطاع الخاص وتحفيز الاستثمار وبين ضرورات مساهمة هذا القطاع فى دفع الضرائب الواجبة للدولة وتَحَمُل دوره فى المسئولية الاجتماعية من خلال مشروعات خيرية للمجتمع وحركة تبرعات للنفع العام. هذا أمر معروف فى كل الدول الناجحة فى العالم. وحين بادر رئيس الدولة بالتبرع بنصف ثروته وكذلك بنصف راتبه الشهرى معلنا التزامه بالحد الأقصى للأجور داعيا الأثرياء والقادرين إلى فعل الشيء ذاته لم تخلْ ردود فعل المخاطبين برسالته من فتور وتشكيك فى جدوى المبادرة. كان مفهوما ومتوقعاً أن تثير مبادرة الرئيس نوعا من الإحراج أو الإرباك لبعض الأشخاص أو القوى أو القطاعات. والواقع أن مبادرة الرجل بالتبرع بنصف ثروته لن تحل بالطبع أزمتنا الاقتصادية. لكن الأكثر أهمية فى هذه المبادرة أنها تستنهض الدور الاجتماعى والخيرى لكيانات القطاع الخاص ورجال الأعمال والموسرين. من هنا تتجلّى أولوية تشريعية يجب ترجمتها من خلال إصدار قانون عصرى بهدف تشجيع المشروعات غير الربحية وتحفيز حركة التبرعات ودعم العمل التطوعي. هذا قانون مطلوب فى وقت تؤكد فيه أدبيات التنمية الحديثة ضرورة تكامل ادوار مثلث الدولة والقطاع الخاص والمجتمع الأهلى وتتحدث فيه تقارير دولية اقتصادية عن أن مصر واحدة من خمس دول يتهددها الإفلاس. ويمكن للدولة من خلال مثل هذا القانون أن تقدم للمتبرعين العديد من المحفزات التى تتجاوز خصم التبرعات الخيرية من الوعاء الضريبى للمموّل. هناك ألف وجه لتوظيف الأعمال الخيرية والتبرعات فى دفع حركة التنمية فى المجتمع والنهوض بالوطن. فمن غير المعقول أن 90% من جامعات دولة مثل تركيا هى جامعات أهلية لا تستهدف تحقيق الربح وأن جامعة هارفارد الأمريكية تعتمد على وقفية تتجاوز الخمسة والثلاثين مليار دولار هى حصيلة تبرعات خريجى الجامعة ورجال الأعمال والموسرين، بينما فى مصر لدينا طوفان الجامعات الخاصة اللاهثة إلى تحقيق الربح وهى تتكاثر بصورة مريعة ومريبة. أما الجامعات الأهلية التى تعتمد على وقفية مصدرها التبرعات أو الاكتتاب الشعبى فليس لدينا إلا واحدة أو اثنتين. لننظر إلى تبرعات الملياردير الأمريكى بل جيتس وغيره، بل ولننظر إلى تبرعات عائلة بن محفوظ فى السعودية وهى تقدم نموذجا ناجحا لمعنى المسئولية الاجتماعية لرأس المال. وأعرف أن للمهندس نجيب ساويرس مشروعات ومبادرات خيرية عديدة وناجحة. المطلوب اليوم هو استنهاض همم كل المصريين. ثمة أولوية تشريعية أخرى لضبط التوازن العادل بين اعتبارات حرية التجارة وضرورات حماية المستهلك والرقابة على الأسواق. فالمؤكد أن قصور وتواضع قوانين حماية المستهلك وغياب آليات فاعلة وذكية ونزيهة لوضع هذه القوانين موضع التنفيذ اليومى هو سبب تدهور صحة المصريين والأمراض التى تفتك بهم منذ أربعين عاماً وعجز موازنة الدولة عن تطوير مرفق الصحة العامة بسبب ما يتطلبه من نفقات هائلة. كان ومازال بوسعنا أن نتدارك ذلك بمواجهة شجاعة لمظاهر الإهمال والرخاوة والفساد فى منظومة حماية المستهلك والرقابة على الأسواق. ثمة جهد ملحوظ لجهاز حماية المستهلك ولجنة الرقابة على الأسواق هذه الأيام. المطلوب أن يصبح هذا الجهد منهج عمل دائم ومستمر وليس نوبة نشاط مؤقت سرعان ما يختفي. أصبحنا فى الواقع نحتاج إلى (تثوير) قانون حماية المستهلك وليس (تطويره) فقط. نجاحنا فى تثوير قانون حماية المستهلك يتوقف بالأساس على فاعلية آليات تطبيقه وجدية القائمين على هذا التطبيق. حكى لى ذات يوم صديق ومستشار مرموق أنه أمر بإغلاق مطعم سكندرى كبير لأنه كان يقدم لمرتاديه لحوم حمير (نعم لحوم حمير). لكن صاحب المطعم استغل صلاته كما حرّض عماله على التجمهر والشكوى من الضرر الذى سيلحق بهم بسبب إغلاق المطعم. وانتهى الأمر إلى تعديل القرار ليصبح فقط إغلاق وتشميع (الثلاجة الداخلية المخصصة لحفظ لحوم الحمير) بينما بقى المطعم مفتوحاً لاستقبال زبائنه وكأن شيئاً لم يكن. أما الغرامة فأمرها سهل لمطعم كان يربح الكثير على حساب الحمير! واضح إذن أن جزءا من مشكلتنا هو الاعتقاد بأن النصوص القانونية ولو كانت من مرتبة دستورية ومهما كانت الجزاءات أو العقوبات المقترنة بها ستقضى على مواطن الخلل فى حياتنا. أعظم قوانين العالم لن تساوى شيئاً إن لم يتوافر لها آليات تطبيق تتسم بالفاعلية والذكاء يتولى أمرها مسئولون وموظفون يتسمون بالجدية والنزاهة ويؤمنون بقيمة اسمها المصلحة العامة. المنظومة القانونية لحماية المستهلك والرقابة على الأسواق مثال حى على هذه المعضلة. قانون الحد الأقصى للأجور مثال اخر لا يقل دلالة. فكيف سيتم تنفيذ هذا القانون بدون وسيلة الكترونية تجعل كل ما يحصل عليه الموظف الحكومى من دخل (أياً كان مسماه) يسجل مركزيا تحت رقم معين وتتيح لجهات الرقابة فى الدولة أن تطلع على على كل ما تريده من معلومات؟ الأمر فى النهاية منوط بآليات التطبيق ونزاهة وشجاعة المسئولين عن إنفاذ القانون. هنا بالتحديد نحتاج لثورة تشريعية. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم