نشرت الأهرام بتاريخ 28 يونيو 2014 مقالًا للدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف بعنوان «خطابنا الديني» وقد تألف هذا المقال من شقين: الأول رد على مقال سابق للدكتور جابر عصفور، والآخر هجوم كاسح على ما أسماه فضيلته «الخطاب الديني لوزارة الثقافة» وقد تركز هذا الهجوم على كتاب وحيد صادر هذا العام عن مكتبة الأسرة، وعلى مقتطفات مجتزأة من مقالات ثلاث نشرت في العددين الأخيرين من مجلتي «فصول» و «الفكر المعاصر». ولما كان كل ما أشار إليه فضيلة الدكتور شومان هو من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكان قد صدر قبل تولى الدكتور جابر عصفور وزارة الثقافة، فقد أصبح من الواجب توضيح موقف المؤسسة بهذا الصدد. وقبل حديثنا عن كتاب مكتبة الأسرة فإنه تجدر الإشارة في هذا السياق بداية إلى ثلاث نقاط جوهرية: 1- إن مكتبة الأسرة التي وصف الكاتب إصداراتها بأنها «تحمل من الفجور اللا ديني ما لم يسبق له مثيل في تاريخ الخطابات الدينية في أي بلد من بلاد الإسلام!» لا تطبع إلا كتباً سبق طباعتها، والكتاب الذي أشار إليه فضيلته إذا كان قد رآه يحمل مقدمة الطبعة السادسة، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1989. 2- إن مكتبة الأسرة لها لجنة عليا من كبار المتخصصين يختارون كتبها ويوقعون بالإجماع بالموافقة على نشرها، وليس من بينهم موظف واحد من وزارة الثقافة بمن فيهم كاتب هذه السطور، وإن كان بها ممثل من الأزهر الشريف، وقد كان ممثل الأزهر بهذه اللجنة هو الدكتور محمود عزب رحمه الله مستشار فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الطيب، واسمه مطبوع ضمن أعضاء اللجنة في مقدمة الكتاب. 3- إن مكتبة الأسرة هذه وليس الأزهر الشريف هي من نشرت الأعمال الكاملة للأفغاني، ومحمد عبده، ورفاعه الطهطاوي، وغيرهم سابقًا، وسوف نذكر ما نشرته من كتب إسلامية هذا العام في حينه، وأن هيئة الكتاب حتى في نشرها العام ما زالت توالي نشر آخر مؤلفات كبار علماء الأزهر الأجلاء. أما ملاحظاتنا على اقتباساته وقراءة فضيلته للكتاب الذى ترفع عن ذكر اسمه، وهو كتاب « الخلافة الإسلامية « للمستشار سعيد العشماوى فيمكن إجمالها فيما يلى: أولاً: إن كتب مكتبة الأسرة التى تنشرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبدعم من أموال دافعى الضرائب من المصريين، هذه الكتب قد نشرت على سبيل المثال عددًا من الكتب المهمة. ثانيًا: إن الهدف الأساسى الذى وضع من أجله الدكتور محمد سعيد العشماوى كتابه عن الخلافة الإسلامية كان يريد تقديم رؤية تاريخية وقراءة جديدة لقضية الخلافة فى الإسلام فى العصور المختلفة لمواجهة « الشعارات التى تتنادى بها جماعات الإسلام السياسى، والتى شرعت فى وضع فقه للخلافة يقوم على تزييف الواقعات وتحريف الحادثات وحذف ما لابد من ذكره، وحشر ما لا سبب لوجوده .. وهى تلفق فكرًا ولا تقدم فقهًا». ثالثًا: قد يختلف فضيلة الدكتور عباس شومان مع المستشار العشماوى فيما قدمه من اجتهادات وما ساقه من أدلة ونصوص واقتباسات أورد مصادرها .. لكن العمل فى النهاية قدم رؤية المؤلف واجتهاداته، وهى ككل اجتهادات قابلة للأخذ والرد .. وكل كلام يؤخذ منه ويترك .. رابعًا: إن النصوص التى اقتبسها وذكرها فضيلة الدكتور عباس شومان قد انتزعت من سياقها الذى وردت به فى الكتاب، فبدت كما لو كانت هجومًا وإساءة للنصوص الدينية، بينما التأويل السليم لها يربطها بسياقها فى النص الذى وردت به، وهو ما يعطى معنى مختلفًا عما مال إليه فضيلة الدكتور شومان . ولكى نوضح ذلك سنضع الاقتباسات التى أوردها فضيلته بالسياق الذى أوردها المؤلف فيه لتتضح الصورة على نحو مغاير تمامًا لما رآه الدكتور شومان . أورد الدكتور شومان أن الكتاب ذكر أن القرآن لا تزال توجد فيه حتى الآن الأخطاء النحوية واللغوية، بينما أورد المؤلف وهو ينتقد ترك الأمويين للحجاج يغير فى القرآن «، وأنه قصد إظهار جرأته على القرآن ليس إلا، والدليل على ذلك أنه مازالت توجد حتى الآن بعض الأخطاء النحوية واللغوية، والتى لابد أن تكون قد وقعت من النساخ ولم يصححها الحجاج « ( راجع نص المستشار العشماوى ص 236 ، 237 ) . أورد الدكتور شومان أن المؤلف ذكر « أن الإسلام فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد تحول إلى صيغة حربية وعسكرية منذ غزوة بدر « بينما أورد المؤلف بنصه ص 171 « يرى بعض المؤرخين أن الإسلام تشكل فى صيغة حربية عندما بدأت أول سرية للمسلمين على قوافل تجارة قريش فيما بين الشام ومكة، ويرى آخرون أن الاتجاه العسكرى فى الإسلام بدأ من غزوة خيبر ... بينما يرى فريق ثالث ( من المؤرخين ) أن الشكل الحربى للإسلام والنزعة العسكرية فيه قد ظهرت بجلاء فى حروب الصدقة التى أعلنها أبو بكر أول الخلفاء .. « فالحديث عن آراء المؤرخين وليس تقريرًا من المؤلف . ذكر فضيلة الدكتور شومان أن المؤلف ذكر « أن الرسول كان يحكم بوثيقة جاهلية وليست إسلامية « لكن المؤلف ( ص 129 135 ) كان يتحدث عن هزيمة النبى للقرشيين فى موقعة بدر، وأنه رأى بثاقب بصره أن هذه الموقعة ستتلوها وقائع وأن قريشًا سوف تنتقم، لذلك رأى مجابهتها بعقد حلف مع قبائل يثرب لكى يواجه بهم أهل مكة، وأن هذا الحلف سجل» الصحيفة» التى أورد العشماوى نصها وعلق عليها «بأنها تكاد تكون فى مضمونها وسياقها وألفاظها وعباراتها وثيقة عربية (شبه جاهلية)، وليست إسلامية «وأشار إلى أن بعض المؤرخين ينكرون هذه الوثيقة ،وأن بعضهم يرى أن تعديلاً لحق بها..وعلق المؤلف بأنه لو كانت الصحيفة قد حررت بمعرفة النبى، وبذات النص وهو أمر يشك فيه البعض فإنها تكون وثيقة عربية قبلية تضمنت الأسلوب والنهج السابق على الإسلام، لأن الإسلام لم يكن قد أسفر بعد عن قواعده التنظيمية..». ذكر فضيلة الدكتور شومان أن المؤلف ذكر أن الإسلام «قد فرض على الناس إتاوة أو خراجًا أو رشوة يسوؤهم أداؤها ويذلهم دفعها» بينما كان المؤلف(ص 166) يتحدث عن العرب وطبيعتهم قبل الإسلام حين كانت»تكره أن تعطى إتاوة لشخص أو قبيلة أخرى على تقدير أنها إذا ضربت عليهم فلذلة فيهم أوخضوع منهم.. وقد عارضت كثير من القبائل بعد إسلامها دفع الصدقة للنبى وتمنعت من ذلك، وجادلت فيه، وأنها حين لا تقدم فى ذات الله طواعية واختيارًا لفقير أو مسكين أو معوز، فهى إتاوة أو جزية أو خراج أو رشوة يسوؤهم أداؤها ويذلهم دفعها ولو للنبى ذاته «. ذكر فضيلة الدكتور شومان أن المؤلف أورد «أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته عندما حاربوا يهود خيبر كانوا ظالمين معتدين لأن أهل خيبر لم يكونوا قد عادوا النبى والمؤمنين، ولا أساءوا إلى النبى أو إلى الإسلام بشىء» بينما النص الذى أوده المؤلف (ص171) يذكر فيه «ويرى بعض المؤرخين.. ويرى آخرون أن الاتجاه العسكرى بدأ منذ غزوة خيبر، وذلك أن أهلها لم يكونوا من المشركين أهل مكة الذين عادوا النبى والمؤمنين وأخرجوهم من ديارهم، كما أنهم(أهل خيبر) لم يكونوا قد أساءوا إلى النبى أو إلى الإسلام بشىء» والمعنى هذا أن المؤلف يناقش أقوال المؤرخين فى قضية متى بدأ الاتجاه العسكرى فى الإسلام. أورد الدكتور شومان أن المؤلف ذكر عن أبى بكر الصديق أنه» قد خلط بين حقوق النبى وحقوق الحكام وأحدث زيوغًا فى الخلافة وحيودًا فى الحكم، واغتصب حقوق النبي وانتشر الجشع والفساد وظهرت القبلية والطائفية، وفرض على جميع المسلمين فى عصره ضريبة وإتاوة وجزية هى الصدقة التى كانت خاصة بالنبى وحده، لقد أخذ أبو بكر من حقوق النبى ما ليس له، واغتصب من سلطات الرسول ما لا ينبغى أن يغتصبه وأكره المؤمنين علي ما ليس من الإسلام فى شىء، وأنشأ فى الواقع دينًا جديدًا غير دين النبى». وهنا خلط الدكتور شومان بين نصين للمؤلف أولهما (ص 165) يصف فيه العرب قبل الإسلام بأنهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب. ولم تكن لها سابقة فى التوحد فى شبه جزيرة العرب تحت حكومة واحدة، حتى عصر النبى.. لم تتوحد قط فى شكل سياسى واحد، ومن ثم لم يكن عندها نموذج للحكم إلا المُلك من جانب ورياسة القبيلة من جانب آخر.. وقد كان من نتيجة الفهم الغائم والخلط الشديد والاهتزاز المتصل بين طابع الملكية وروح القبلية أن حدث زيوغ فى الخلافة وحيود عن الحكم يبدو جليًا فى اغتصاب حقوق النبى، واشتداد نزعة الغزو، وانتشار الجشع والفساد وظهور القبلية والطائفية» فالحديث هنا عن العرب وقبل الإسلام وفى بداية عهد العرب به وليس عن الصديق أبى بكر. وثانى النصين (ص 168) وهو عن الصديق» فقد ساء بعض المؤمنين ما فعله أبو بكر فى حروب الصدقة ورأوا فيه أنه بذلك يأخذ من حقوق النبى ما ليس به، ويغتصب من سلطات الرسول ما لا ينبغى أن يغتصب ويكره المؤمنين على ما ليس من الإسلام فى شىء وأنه فى الواقع ينشئ دينًا جديدًا غير دين النبى» فالحديث هنا عن رأى بعض العرب الذين أضرتهم حروب الصدقة وليس عن رأى المؤلف فى الخليفة الأول أبى بكر الصديق الذى ذكره بكل إجلال وإكبار فى غير موضع. وإذا انتقلنا من الكتاب إلى حديث الدكتور شومان عن مقالات مجلتي الفكر المعاصر وفصول التي أشار إليها بقوله «وعلى هذا الدرب درب الغلو اللا ديني سارت مجلات وزارة الثقافة»، فسنجد أن فضيلته هو من سار على ذات الدرب من اقتطاع السياقات ولى عنقها. فقد اجتزأ من افتتاحية مجلة الفكر المعاصر عبارة «أن الإسلام دين علماني والحضارة الإسلامية لم تزدهر إلا بفضل علمانيتها» ومن الواضح أنه لم يقرأ المقال الذي يشير إليه، أو أنه قرأ واقتطع الكلام من سياقه الواضح، فكاتب المقال، وهو رئيس تحرير مجلة تهتم بنقل الأفكار ومناقشتها، يقول هذا الكلام في سياق حديثه عمن يجهلون المعنى الحقيقي للعلمانية، وهم في الوقت ذاته يجهلون أن هناك دراسات تقر بأن الإسلام دين علماني... إلى آخر العبارة التي تشير فقط إلى وجود دراسات فى هذا المجال ولا تتبناها، ولا حتى تفضلها، لكنها تقف عند ذكر عناوين أساسية لها، وهو الأمر الذى يميز، أو يجب أن يكون كذلك، الثقافة الحقة التى تواجه نفسها بأفكارها والأفكار المضادة لها. ولو قرأ كاتب مقال الأهرام أو استكمل القراءة لعلم يقينًا أن ما هو مكتوب فى المقال يؤكد سماحة الإسلام ويدل على كونه الدين العميق الذى لا يقف عند حدود الظواهر. أما الحديث عن إسماعيل أدهم ووصفه بكونه عبقرى زمانه في مقال داخل العدد فهو مقتطع كذلك من سياقه الذى يعلى من سماحة المجتمع الذى يطبق المبدأ الإسلامى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وإن كان ذلك يضاف إليه أن الحديث عنه كان فى سياق طريقة الرد التى اتخذها المجتمع المصرى، حيث الرد على الفكر بالفكر. وقد مثل المقال على ذلك بوقائع طه حسين وكتابه فى الشعر الجاهلى، ثم إسماعيل أدهم ومقاله المشار إليه، وقد نشرت المجلة فى العدد نفسه رد فريد وجدى على إسماعيل أدهم. وهو مقال بعنوان «لماذا هو ملحد» لتبين كيف يحاور الإسلام الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة فى سماحة ورقى. إن الفكرة الأساسية للمقال تدور حول الفكر الليبرالى والدعوة إلى مناقشة الأفكار لا مواجهتها بالعنف المادى أو حتى عنف التكفير، وما الثقافة التى يتحدث عنها وكيل الأزهر مهاجمًا سوى الوعى بالفكر ونقيضه، غير أنه اختار أن يكون الفكر أحاديًا، واختارت مجلة عالم الفكر عرض جوانبه كافة. وقد طبق الدكتور شومان طريقته ذاتها فى القراءة المجتزأة عند تعرضه لمقال منذر عياشى المنشور بالعدد الأخير من مجلة فصول وعنوانه (القرآن إعجاز أم إبلاس)، والذى وصل فيه لنتيجة مفادها حتمية كون القرآن كلامًا إلهيا، ولا يعدو العنوان عن كونه جاذبًا للقراءة، ينقد المصطلح البشرى (الإعجاز) ولا ينتقد الوعاء الأساسى له (القرآن). والحق أن فكرة إعجاز القرآن تعود إلى المعتزلة، أما فكرة «الإبلاس» فترجع أساسًا إلى العلامة محمود محمد شاكر الذي حاول أن يجد سببًا لتفسير تأثير النص القرآني على متلقيه. وهو ما بدا فى قوله فى المقال إن «اختراع مصطلح الإعجاز لوصف القرآن (من حيث هو كتاب إلهى المصدر)، إنما جاء لتغطية أمور عدة...»، وأن فكرة التحدى الإلهى هى فكرة جاهلية، فالذات الإلهية أسمى من أن يتم تحديها، وأما استشهاده (أى منذر عياشى) بكلمات الوليد بن المغيرة، ونقده لها بأنها غثاء، فكل من يعلم شيئا يسيرًا عن تاريخ الإسلام يعلم أن هذا الوليد من أشد الناس عداء للإسلام، وإنما كلامه كان الحق الذى يراد به باطل، وإنما أوضح صاحب المقال كيف أنه استخدم الحق بصورة توحى بضعفه ليطعن فيه، ولو قرأ وكيل الأزهر باقى الكلام، ولم يقف عند حدود الخطوط التى وضعها من أطلعه عليه تحت كلمات بعينها لربما وصلت إليه الفكرة كاملة، ولربما علم أن الثقافة هى وعى كامل بحدود النصوص وأعماقها، وليست مجرد وقوف عن ظواهرها. وليس لنا في النهاية من قول إلا اللهم اهد المسلمين إلى سماحة الإسلام. رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب لمزيد من مقالات د. أحمد مجاهد