«أنا سعيد من الداخل، لدى ضمير مطمئن وعقل غير مطمئن». بهذه الكلمات وصف بابلو نيرودا الشاعر التشيلي الكبير نفسه . نيرودا الشاعر والمناضل والمفكر والدبلوماسي كان عاشقا ولهان للحياة. وقد حرص نيرودا على تأكيد هذا الأمر كاتبا في مذكراته: «أنا أمضي أعمل بالمواد التي أملكها والتي هي أنا.اني ألتهم كل شئ: المشاعر والمخلوقات والكتب والأحداث والمعارك. ولو أستطيع لأكلت الأرض كلها ولشربت البحر كله». ومنذ أكثر من أسبوعين تم الاعلان عن اكتشاف 20 من القصائد المجهولة وغير المطبوعة لهذا الشاعر العملاق. وقال من اطلع عليها: «انها تتمتع بقيمة عظيمة» لذلك يعد اكتشافها «حدثا أدبيا ذا أهمية عالمية» و«أكبر اكتشاف في التاريخ المعاصر للأدب المكتوب باللغة الاسبانية». وقد ذكر أيضا أن ست قصائد منها من شعر الحب أما الباقي فهي «عن عناصر مختلفة من عالم نيرودا». وهذه القصائد تم العثور عليها في صناديق مخطوطات وكتابات لنيرودا كانت موجودة في مؤسسة نيرودا بتشيلي ولم يطلع أحد عليها من قبل. ومن المنتظر أن يتم طبع هذه القصائد واصدارها في نهاية هذا العام في أمريكا اللاتينية وخلال العام القادم في اسبانيا. ولم يتحدد بعد موعد صدورها باللغة الانجليزية. نيرودا الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1971 أكمل كتابة مذكراته عام 1973.. نفس عام وفاته في سبتمبر (وكان في ال69 من عمره ) بعد صراع ومعاناة مع السرطان. وكان نيرودا قد شهد بعينيه في العام نفسه اغتيال الحلم والأمل في وطنه تشيلي مع الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديمقراطي والرئيس سلفادور الليندي. ومذكراته «أعترف بأنني قد عشت» في طبعته العربية تقع في أكثر من 500 صفحة وهي ترجمة وشرح د. محمود صبح. وتحوي المذكرات بين صفحاتها حياة غنية ومثيرة ومشوقة عاشها نيرودا وهو الذي عشق الحرية والمرأة وكان لديه وله بالوطن وولع بالانسانية.وقد ولد الشاعر العظيم عام 1904 في تشيلي وكان اسمه نيفتالي ريكاردو رييس باسوالتو. وماتت والدته بعد شهرين من ميلاده. وعندما كان في ال17 من عمره (عام 1921) نشرت له أول قصيدة. وقد اختار الشاب الموهوب اسم بابلو نيرودا كاسم له لأنه كان معجبا بكاتب من التشيك اسمه جان نيرودا. وفي عام 1923 طبع أول ديوان له باسم «شفقيات» نيرودا هو الذي كتب: في عناقك أعانق كل الوجود الرمل والوقت وشجرة المطر وكل ماهو حي يعيش كي أحيا أنا لا أحتاج مسافة كي أرى الأشياء فيك أنت أرى الحياة كلها. ولا شك أن هذه القصائد ال20 الجديدة ومعها ارث نيرودا المتنوع والمتميز (اذا قرأناه من جديد) سوف تزيد من معرفتنا بالشاعر التشيلي وتسلط الضوء على جوانب عديدة ربما نجهلها في عالمه المبهر. ومن يدري ربما ونحن أمام سطر ما من قصائده قد تتكشف لنا حقائق كانت خافية لنا في حياتنا. وقد نبدأ في أن ننظر حولنا بنظرة مختلفة وبرغبة متجددة في ألا تفوتنا ونحن في خضم الحياة ومشاغل الدنيا لحظة صدق لم نتذوقها من قبل وأيضا لحظة انطلاقة ولحظة اكتشاف ولحظة سلام مع النفس ولحظة رضا عنها لم نعشها من قبل. هذه هي متعة القراءة وقيمتها ومعناها ومغزاها. أن نكتشف ما هو مجهول بالنسبة لنا سواء كان قصيدة أم عالما لا نعرفه أو بحرا تفادينا السباحة أو الغوص فيه أو كان أفقا رأيناه بعيدا فآثرنا السلامة ولم نجتهد للسير نحوه أو الاقتراب منه. وبما أننا بدأنا شهور الصيف ومعها شهر رمضان الكريم. فنحن لدينا الفرصة(هكذا أرى وهكذا أقترح) لكى نغوص أكثر في الكتب وما فيها من أنهار للمعرفة وبحار للعلوم في محاولة منا لكى نكتشف الجديد والمجهول وحياتنا وأنفسنا وعلاقاتنا مع الخالق عز وجل وأيضا مع خلق الله. ومن ثم نبدأ من اليوم رحلتنا أو رحلاتنا في طريق يبدأ ولا ينتهي ويجب ألا ينتهي مع «ثمار المطابع» الكتب ومن يكتبونها ومن يقرأونها ومن يعشقونها. ويجب التذكير أولا وقبل أي شئ «نحن لم نعلن بعد وفاة الكتب» يقولها علنا وبصوت صارخ اليوم الملايين من القراء للكتب المطبوعة وللنسخ الورقية في كل أرجاء المعمورة. يقولونها وهم يقلبون صفحاتها بشغف ويلتهمون بعيونهم كلماتها بل يشعرون بأنهم أسعد خلق الله وربما أعقلهم أيضا. وهؤلاء الملايين على امتداد العالم وتحديدا في الدول المتقدمة تكنولوجيا واقتصاديا يعرفون أيضا أن هناك طوفانا من «مرثيات» تكتب وتقال بكل اللغات تنعي مقدما وتتنبأ بزوال عالم الكتاب والكاتب والكلمة.. بل تهلل أحيانا بقدوم وسائط ووسائل «التفكير الرقمي» و«القراءة الذكية» و»الطبعة الالكترونية». بل الأخطر كأنها تطالب وفي أقصى سرعة بتجاوز «المعرفة الورقية» و»كتابة وقراءة ما بين الدفتين». وكأن الكتاب كما عرفناه وقرأناه و»أخذناه في حضننا» «انتقل الى عالم الأموات» وبالتالي يجب اقامة الجنازة له وأيضا اكرامه .. ب«دفنه»!! وهذا لم يحدث بعد وغالبا لن يحدث في القريب العاجل أو ربما الآجل أيضا. ونعم « القراءة ضرورية للحياة كالتنفس ». وهذه حقيقة يقولها ويفسرها ويشرحها الكاتب الأرجنتيني الكندي آلبرتو مانغويل في كتابه الممتع «تاريخ القراءة». في هذا الكتاب القيم ( 384 صفحة) يصحبك المؤلف في جولة تاريخية وابداعية وجغرافية وأيضا اجتماعية لرصد كل ما له صلة بالقراءة والقارئ والكتابة والكتاب. وبما أن القراءة «مفتاح فهم الحياة» نجد المؤلف يروي كل ما صادفه من حكايات عن عشق الكتاب والقراءة في كل بقاع العالم. يحكي مانغويل في الكتاب عشرات الحكايات منها قصة تعود الى القرن العاشر بطلها أبا القاسم اسماعيل ،كبير وزراء فارس، كان خلال رحلاته لا يفارق مكتبته التي كانت تضم 117000 كتاب، لذا كانت مكتبته تنقل في قافلة من أربعمائة جمل، مصنفة حسب الحروف الأبجدية. ولا شك أن قراءة هذا الكتاب سيفسر ويبرر لك لماذا عشق الانسان القراءة وأغرم بالكتاب ولايزال عاشقا له ومغرما به رغم مرور مئات السنين على ميلاد المطبعة واصدار الكتب ورغم تكاثر كل أنواع الترفيه الأخرى. وكلما حاولنا «قراءة القراءة» فاننا نكتشف أن ما نسعى اليه دائما أن نجد لحظة الصدق سواء كانت بعيدة أو قريبة منا..وسواء كانت تلك اللحظة مجرد حلم يراودنا أو أمل يلح علينا ولا يتركنا نستسلم للواقع ومعه وبعده «نبرر حالنا» و«نحلل سكوتنا» و«نبقى كما كنا دائما». ولحظة الصدق هذه وان وجدناها أو بتعبير أدق ان عثرنا عليها أو اكتشفناها غالبا ما نتمنى أن تطول أو أن نعيش معها لفترة أطول.. وبالتالي اذا حدث ما يحدث دائما فافترقنا فان ما نتمناه دائما هو أن نلتقي من جديد في لقاء قريب أو عاجل وأن يكون هذا اللقاء أكثر صدقا وأكثر عمقا وأكثر اندماجا في تفاصيل حياتنا وفي سلامنا مع أنفسنا. ويكون هذا اللقاء (مع لحظة الصدق) اضافة وتأكيدا لسلام نعيشه ونعايشه مع أنفسنا، سلام لا يتلاشى ولا يتشوه رغم مرور الأيام ورغم زيادة خبرتنا في ألاعيب الحياة وعبثها أحيانا. أما الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش فيكتب عن لقائه الأول مع الكلمات (وقد ظل هذا اللقاء محفورا في الذاكرة) وأيضا عن اقترابه من النهر والسماء في كتاب عنوانه «في حضرة الغياب» فيقول « يا لها من لعبة! يولد العالم تدريجيا من كلمات. هكذا تصير المدرسة ملعبا للخيال.. فتركض اليها بفرح الموعود بهدية اكتشاف. لا لتحفظ الدرس فحسب، بل لتعتمد على المهارة في تسمية الأشياء. كل بعيد يقترب وكل مغلق ينفتح.اذا لم تخطئ في كتابة نهر، فسيجرى النهر في دفترك. السماء أيضا تصبح جزءا من مقتنياتك الشخصية اذا لم تخطئ في الاملاء». ثم يستمر درويش في ملاغاته للحروف ودهشته بتركيبة الجمل والأفكار:«الحروف أمامك، فخذها من حيادها والعب بها كالفاتح في هذيان الكون. الحروف قلقة، جائعة الى صورة، والصورة عطشى الى معنى. الحروف أواني فخار فارغة فاملأها بسهر الغزو الأول. والحروف نداء أخرس في حصى متناثر على قارعة المعنى. حك حرفا بحرف تولد نجمة، قرب حرفا من حرف تسمع صوت المطر، ضع حرفا على حرف تجد اسمك مرسوما كسلم قليل الدرج» وبالطبع تبهره اللعبة برمتها وينظر الى الكلمات ككائنات وأيضا الى مصيره الأبدي مع الكلمة فيكتب درويش «ستسحرك اللعبة حتى تصبح جزءا منها. وستقضي العمر في الدفاع عن حق اللعبة في استدراجك الى المتاهة. تقرأ ولا تفهم ما تقرأ، فتقرأ أكثر مستمتعا بقدرة الكلمات على الاختلاف عن العادي. الكلمات هي الأمواج. تتعلم السباحة من اغواء موجة تلفك بالزبد. وللكلمات ايقاع البحر ونداء الغامض: فلتأتين الى بحثا عما لا تعرف ناداك الأزرق. وأنقذك الحظ وحرس الشاطئ من انقطاع أكيد مع صوت الكلمات. لكن قنديل البحر ما زال يحكك دون أن تتوب عن حب البحر، ودون أن تعلم أن البحر هو مصدر الايقاع الأول. فكيف يسجن البحر في أحرف ثلاثة، ثانيها طافح بالملح؟ كيف تتسع الحروف لكل هذه الكلمات؟ وكيف تتسع الكلمات لاحتضان العالم؟ ويبقي في نهاية المطاف التحدي الأكبر مع القراءة والكتاب.. كيف تقرأ السطور وما بين السطور؟ كيف تقرأ لتكتشف وتتبين و«تغربل» وتختار وتختلف وتتفق وتتيقن مما كان لديك وأيضا تتخلص مما كان يقلقك ويحيرك. وأيضا كيف تقرأ الكلمات وتفهمها وتتفهمها وتعيد نظرتك اليها وتعيد نظرتك لنفسك وتحاسب نفسك وتثرى معرفتك وتعمق تجربتك الانسانية وتواصلك مع الخالق ومع خلق الله .. وتسير مع الأيام و«تبسط شراعك» وسط الرياح وتبحر وسط أمواج البحر العاتية وتحلق نحو الأفق الممتد. والأمر الأهم دائما ألا يأخذك جمال اللفظ بعيدا عن جوهر المعنى. وألا يبهرك الشكل فتنسى المضمون. وفي كل الأحوال مثلما كانت المدرسة وكانت الشوارع وكانت المكتبة هكذا الكتاب ينبهك للعبة الانسانية ويعرفك ب«جريان النهر» و»أمواج البحر» ويطلعك على «فنون السباحة» و«قدرة الكلمات على احتضان العالم» وأهلا بالكتاب «خير جليس لنا» في كل زمان وفي كل مكان .. و«خير رفيق لنا» اختارناه قبل اختيارنا للطريق .. ومعه سرنا في طريقنا نحو المعرفة والحكمة والايمان والمحبة والسعادة والجمال والحق والخير.. ومعه نبدأ من اليوم في أخذ خطواتنا معا على امتداد الأسابيع المقبلة خلال الشهر الكريم..