تاريخ القراءة.. يالها من فكرة! عشرات الانطباعات الاستباقية تتحفز وأنت تطالع هذا العنوان، ستشفق مقدما على الكاتب الذى «ورط» نفسه فى التصدى لهكذا تيمة. تتساءل عن المنهج الذى اختاره لتتبع ذلك الأثر، المتناثر بتناثر القراء ذواتهم، فى سياقاتهم الخطية والطولية، وتقول إن لكلِّ منا تاريخه الخاص مع ذلك الأسر المحبب.. فتجد الكاتب متفقا معك تماما على أن: «التاريخ الحقيقى للقراءة هو فى الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة»، قابضا بذلك على مدخله الشخصى لذلك البهو الواسع.. ومدخلك أنت أيضا. من تاريخه الخاص والأقدم يبدأ الكاتب الأرجنتينى «ألبرتو مانغويل» تتبعه لتاريخ القراءة انطلاقا من طفولته القرائية، وقت كان يقيم العلاقات بين الصورة وحروف الكلمة التى تعنيها وهو ابن الرابعة، تدرجا لقراءة كل ما تقع عليه عيناه من قصاصات ومطويات وحتى إعلانات الشوارع، واستغلالا لمنحة وجود مكتبة ضخمة لدى والده الدبلوماسى، ثم العمل أوائل المراهقة بمكتبة «بجماليون» كمنظف للغبار عن الكتب، الوظيفة التى لم تشبع فضوله تجاه الكتب، لكنها قادته للصدفة العظيمة، يوم أن اختاره مواطنه الأديب الكبير «خورخة لويس بورخيس» للعمل كقارئ خاص له، بعد أن خبا نور عينيه.. فأعاد أرشفة وربما تكوين انطباعاته عن قراءاته السابقة والتالية، بعد مشاهدة ردود أفعال بورخيس وتعليقاته على ما كان يقرؤه الشاب مانغويل، وربطه بقراءات نثرية وشعرية وتاريخية أسبق.
«فى البداية أصدرت أحكاما متسرعة على القصص التى كان بورخيس ينتقيها فنثر «كيبلينج» بدا لى مرتكزا على عكازين، ونثر ستيفنسون طفوليا، ونثر جيمس جويس غير مفهوم. غير أن الأحكام المسبقة المتسرعة استبدلتها بالتجارب، وبدأت القصص تبعث فى نفسى الفضول للتعرف على قصص أخرى كانت بدورها متشبعة بذكريات تعود إلى نوعية رد فعل بورخيس، ورد فعلى انا الآخر عليها».
دون أن يفارق، تماما، حكايته الشخصية كقارئ، يذهب مانغويل فى كتابه إلى تاريخ القراءة، أو بمعنى أدق أحد تواريخ القراءة، لأن «تاريخا واحدا من تواريخ القراءة الذى يعتمد على نيات معينة وسيرة حياة شخصية لا يمكن أن يكون إلا تاريخا من جملة تواريخ كثيرة»، وفى سرده هذا يمزج الكونى بالشخصى والعام بالخاص، مقتربا بالعلاقة بين القارئ والكتاب إلى المستوى الجسدى الموصول بالحواس «العين تجمّع الكلمات على الصفحة، والأذن ترجّع صدى الكلمات المقروءة، والأنف يشمّ رائحة الورق والصمغ والحبر والورق المقوّى أو الجلد، والأنامل تتحسس الصفحات الناعمة أو الخشنة، والتجليد الناعم أو القاسى، وحتى حاسة الذوق تشارك فى العملية عندما يرفع القارئ إلى فمه الأصبع الموجودة على الصفحة».
يتتبع مانغويل فى القسم الأول من كتابه مسارات فعل القراءة وقوفا عند جانبه التشريحى البيولوجى، موردا العديد من خلاصات، وجدالات العلماء البصريين والسيكولوجيين واللغويين، كذلك، منتهيا إلى أن القراءة ليست عملية يستطيع المرء تفسيرها بالاعتماد على نموذج آلى، ومن ثم تصبح مهمة القارئ هى بحسب الحسن بن الهيثم «إيضاح ما قد تفصح عنه الكتابة من كلمات وظلال». ويشرح الكاتب أشكال القراءة، كقراءة الظلال، وقراءة الصور، وكيف تطلق للقارئ مساحاتٍ من الحرية والتأويل، انتقالًا إلى طقوس القراءة، وما الذى يرتبط بالقراءة الوحدانية أو المنفردة، وكيف كانت القراءة الصامتة بدعة جديدة أدهشت القديس أوغسطينس فى القرن الرابع للميلاد، وهو يلاحظ القديس أمبروسيوس، أسقف مدينة ميلانو وهو يقرأ بعينيه بينما قلبه يستقبل المعانى. ويتطرق مانغويل كذلك لمكان القراءة وكيف تستهوى القراءة فى الفراش أفرادا عديدين مثل الروائية الأمريكية «إيدث وارتون» التى كانت تعد غرفة نومها المهرب الوحيد من التزامات القرن ال 19، حيث كانت تستطيع أن تقرأ وتكتب فى فراشها بكل هدوء، ومثلها الكاتبة «آنى دلارد»، والكاتب مانغويل ذاته، الذى استغل الحديث عن القراءة الوحدانية فى الفراش لاستعراض أشكال الأسرة وغرف النوم فى القرون المختلفة، وكيفية تعليق الستائر فى الغرف وبين الطبقات.
هذا الاستعراض الشائق، الذى يتخلل فصول الكتاب كافة، حتى لتظن أن تلك الحاشية أو ذاك الاستطراد هو موضوع الكتاب أصلا، هو السمة التى جعلت كتاب مانغويل يبدو ككتب عديدة، أو أنه كتاب مصغر للكون، يسرد تاريخ هذ الكون، انطلاقا من تاريخ القراءة، ومرورا بعمليات الإدراك، وظروفها، وطقوسها المحيطة، والمرور بالطبع على اختراع الطباعة وعمليات إنتاج الكتاب، بتدرجاتها من الحضارة البابلية، والفرعونية، والسومرية وغيرها.
فى كل ذلك وبصورة أجلى فى القسم الثانى من الكتاب المعنون ب«سلطة القارئ» يظهر الكاتب، ولا أقصد هنا مانغويل، ولكن عشرات الكتاب الذين استدعاهم هو، عبر كتاباتهم وآرائهم ومكاتباتهم وردود أفعالهم التى شكلت عصب وعظام تاريخ القراءة، ومررهم من خلال عدسته هو كقارئ، من أمثال «بورخيس، وريلكه، وكارل ماركس، ونكوصا بالزمن حتى هوميروس ومن قبله، أفلاطون وسقراط، وأرسطو، مرورا بأغسطينس، وفرجيل، وكافكا» وغيرهم، وهؤلاء أمسك بهم الكاتب فى مواضع عديدة ضمن فروع القسم الثانى مثل: القارئ الرمزى، والمترجم القارئ، والكاتب كقارئ، والمتولع بالكتب، وغيرها انطلاقا من رؤية مانغويل لأن» النظر إلى الكاتب كقارئ، أو إلى القارئ ككاتب، أو إلى الكتاب كإنسان، أو إلى الإنسان ككتاب، أو إلى العالم كنص أو إلى النص كعالم كل هذه الأشياء ليست سوى أوصاف مختلفة لفعل القراءة».
نهاية كتابه يتخيل مانغويل فى «الصفحة الأخيرة» أن ثمة، ضمن الكتب التى لم يكتبها ولم يقرأها، كتابا عظيما اسمه «تاريخ القراءة»، هو يتصور أنه فى أحد أقسام مكتبته الشخصية، ويصف غلافه، وملمسه، وشكل عنوانه، ويروح يصف أقسامًا ومحتويات وفهارس افتراضية، ورسومًا داخلية وأعمالًا واقتباسات ضمنية، كأن كل هذه الأشياء، اقتراح لكتاب كبير ربما عليه أن يكتبه أو على الآخرين كتابته كسيرة أخرى لتاريخ الكتابة، ذلك الشديد التعقيد والتشابك حتى على مستوى كتاب مانغويل» الذى يعتبره هو على تشعبه فصل فى سيرة، أو تاريخًا واحدًا ضمن تواريخ عديدة.
إن عملًا كهذا الذى أنجزه «ألبرتو مانغويل» فى سبع سنوات، يكفى أن يكون الكتاب الأوحد لكاتبه، رغم أنه ليس كذلك، فهو الذى ينبه فى مواضع عدة منه، أنه مجتزأ مما يصح أن يطلق عليه تاريخ الكتابة، يفرغ علينا حصاده العقلى على مدى حياته قاطبة، منذ مسه سحر القراءة فشعر أنه: «أصبحت إنسانًا جبارًا»، ويقدم لنا مئات، ضمن آلاف سيره الذاتية كقارئ «يجب أن يكون للقارئ ألف سيرة ذاتية»، مجيدًا دائمًا لعبة وصل الموضوعات والتواريخ الذاتية للأشياء بموضوعه الكبير الواسع، اللاهوت مؤنسنا، وحواديت العهدين الجديد والقديم، والقرآن الكريم، وشروح اللسانيات، وجدليات العلوم البصرية، ونمائم أروقة البلاط الملكى من انجلتر لليابان، لزمن الإسكندر الأكبر، وعراق ما قبل الحرب ومنحوتات سوريا القديمة، وفهارس مكتبة الإسكندرية، ونظرة أمه وجدته إلى استبدال مانغويل الحياة بالقراءة، وعشرات المواضيع الأخرى يتلوها هذا الكاتب ضمن التاريخ الأسطورى للقراءة بنفس واحدٍ، دون حشرجة أو لهاث، تاركا إياك أيها القارئ مع مئات الاقتراحات للكتب والموضوعات التى لم تقرأ بعد، وضمنها اقتراح موازٍ بكتابة فصلك الخاص فى تاريخ القراءة، محفزا إياك بهذه العبارة التى اختتم بها آخر سطوره من أجل أن تبدأ أنت:
«أضع الكتاب على الطاولة جنب سريرى، كى أستطيع أن أقول لنفسى اليوم أو غدا أو بعد غد: «إنه لم ينته».