بالرغم من الحديث المتكرر عن عمق العلاقات المصرية الخليجية، فان الأمر الذى لاشك فيه أن هذه العلاقات لم تشهد مثل هذا الزخم والاهتمام والدعم كما شهدته منذ ثورة الثلاثين من يونيو التى جسدت قولا وفعلا مساندة دول الخليج وفى مقدمتها الإمارات لمصر خلال التقلبات التى تلت هذه الفترة. هذا الاهتمام لم يتوقف عند مستوى المسئولين الرسميين أو الجهات الحكومية فقط، ولكنه تعداه ليشمل مراكز الابحاث وصنع القرار التى سعت بدورها لترجمة هذا الاهتمام الرسمى، الى واقع بحثى وأكاديمى يهدف ليس فقط لمحاولة فهم ودراسة ما حدث فى مصر خلال الثلاث سنوات الماضية منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير وما تلاها، ولكنه يسعى أيضا لاستشراف المستقبل وما يحمله من أفاق وتوقعات سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى وحتى الثقافى، الأمر الذى يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن الاهتمام بالشأن المصرى لم يعد يقتصر على الداخل فقط ولكنه تعداه ليصبح موضع اهتمام متابعة ودراسة من المسئولين والنخب السياسية فى منطقة الخليج. ومن هنا كانت أهمية ورشة العمل المغلقة التى عقدها مؤخرا مركز الامارات للسياسات تحت عنوان "مصر: الواقع الراهن ومستقبل التحولات" بالعاصمة أبو ظبى بمشاركة نخبة من أبرز الخبراء والباحثين المصريين من مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وفى مقدمتهم أحمد السيد النجار، وعدد من أساتذة العلوم السياسية والخبراء من الامارات ودول مجلس التعاون. الندوة التى عقدت على مدار يومين شهدت تسع جلسات تناولت طيفا واسعا من القضايا والموضوعات المتعلقة بمصر، بدءا من تحولات المشهد السياسى قبل ثورة يناير وحتى ثورة الثلاثين من يونيو وأولويات النظام السياسى بعد الانتخابات الرئاسية وسيناريوهات المستقبل بين المصالحة والعنف، أما وضع الاقتصاد المصرى فقد كان محور اهتمام كبيرا خلال هذه الورشة نظرا للدور الهام الذى لعبته دول الخليج فى تقديم دعم مالى سخى لمصر خلال الفترة الماضية، والدور الذى يتوقع أن تلعبه خلال الفترة القادمة من خلال الاستثمارات المتوقع أن تضخها، حيث خصصت جلستان لمناقشة وضع الاقتصاد المصرى ومتطلبات نهوضه واتجاهات السياسات التنموية، وقد تناولت الجلستان تفصيلا أوراقا بحثية عن توصيف الاختلالات الجوهرية فى الاقتصاد وكذلك النموذج الاقتصادى المطلوب داخليا وخارجيا فضلا عن الابعاد الجيو اقتصادية للاستثمارات الخارجية المتوقعة فى مصر، الى جانب أبحاث عن مجالات تطوير القطاعات الخدمية والبنية التحتية وسياسات الهيكلة واعادة تنشيط القطاعين العام والخاص ومبادرات تصحيح أوضاع العدالة الاجتماعية. كما خصصت كذلك جلسات لمناقشة المجتمع المدنى والسياسات الثقافية والملف الدينى وأخرى للسياسة الخارجية المصرية فى الاطارين الدولى والاقليمى، من حيث علاقاتها بالقوى الدولية والقوى الاقليمية مثل ايران وتركيا، فضلا عن استشراف علاقاتها بمحيطها الافريقى. وكان لعلاقات مصر بمحيطها العربى نصيب وافر من البحث والدراسة حيث خصصت جلسة لمناقشة السياسة الخارجية المصرية فى الدائرة العربية ناقشت تجديد دور مصر العربى وتحولات السياسة المصرية ازاء القضية الفلسطينية واسرائيل، أما الجلسة الاخيرة فقد خصصت لمناقشة أفق العلاقات المصرية-الخليجية، والمقومات الاستراتيجية لهذه العلاقات من منظور مصرى وأخر خليجى. وقد اتضح جليا سواء من خلال كلمات المعقبين ومداخلاتهم أو من المناقشات التى تلت عرض الاوراق البحثية المقدمة مدى المتابعة الدقيقة للشأن المصرى، ومدى الالمام الشامل بالجدل الدائر حول ضرورة بلورة رؤية شاملة للتعامل مع قضايا مصر الخارجية وعن أهمية الحراك الاجتماعى ووجود طبقة متوسطة قوية كركيزة هامة لاعادة بناء المجتمع، فضلا عن الحاجة الملحة لوضع استراتيجيات للتعامل مع الشباب خاصة غير المسيس منهم، فضلا عن مناقشة الدروس المستخلصة من السنة التى أمضاها الاخوان فى الحكم. كما عكست فى بعض جوانبها تساؤلات بعضها بدا قلقا على الوضع الاقتصادى وما اذا كان يوفر بيئة آمنة للاسثمارات الخليجية، خاصة فى ظل المشاكل المزمنة التى يعانى منها، ومحاولات لاستيضاح ملامح السياسة الخارجية المصرية بعد سنوات من ابتعادها عن الشأن العربى والاقليمى خلال فترة حكم الرئيس الاسبق. وهنا لابد أن نشير الى أنه رغم حداثة عمر هذا المركز الوليد الذى تأسس فى شهر نوفمبر الماضى، باعتباره مركزا بحثيا مستقلا يركز اهتمامه بالدرجة الاولى على دولة الامارات وعلاقاتها الخارجية وعلى منطقة الخليج العربى وتفاعلاتها الاقليمية والدولية، ويهدف الى تقديم تحليلات استراتيجية وأوراق بحثية لصانع القرار الى جانب عقد الملتقيات وورش العمل لاستشراف السياسات فى المحيط الاقليمى والدولى وتأثير ذلك على منطقة الخليج، قد أسهم بجهد مشكور فى لفت الانظار الى أن ما شهدته مصر منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى الان ينبغى أن يكون محلا لدراسات معمقة، وهو أمر ليس بجديد على المركز الذى خصص من بين وحداته الخمس التى تركز على دول مجلس التعاون الخليجى وايران وتركيا واليمن، وحدة للدراسات المصرية تهدف لدراسة كل ما يتعلق بتطور الاوضاع فى مصر من جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث أعدت هذه الوحدة مجموعة تقارير صنفت الى أوراق تقدير موقف وأوراق تحليل سياسى وأوراق تحليل مضمون، وذلك بجهد دؤوب من رئيسة المركز الدكتورة ابتسام الكتبى، التى نجحت باقتدار فى تنظيم وادارة هذا الجمع الذى ضم صفوة العقول والنخب المصرية والخليجية، وكان فرصة لتبادل الخبرات بين الجانبين، وخصوصا للجانب المصرى الذى عليه أن يأخذ فى اعتباره أن دول الخليج وان كانت عازمة بصدق على مساعدة مصر خلال المرحلة المقبلة، الا أن ذلك لا ينفى أن موقف النخب ليس واحدا فهناك الى جانب المؤيدين الناقدين والمتساءلين وهو أمر يجب التنبه له دائما.