حين ابتدأتُ هذه المقالات «السباعية» الهادفة إلى توجيه الأنظار لخطورة حالة «الخلخلة» الحالية فى منظومة القيم المصرية، والإشارة إلي خطورة اهترائها بسبب الفصم بين مكوناتها (التى يجب أن تتناغم فيما بينها).. جاءتنى أسئلةً كثيرة من الذين مازالوا يؤمنون بأهمية الفهم، فكان من بينها سؤالٌ بسيط الصيغة عميق المعنى، نصُّه: هل العلم والمعرفة، قيمة من قيم المجتمع المصرى الآن ؟ كان من اليسير مسايرة السلبية السائدة ومشاعر الإحباط العام، بالإجابة على السؤال بأبسط منه، كأن أقول مثلاً: لا شك فى أن قيمة العلم والمعرفة صارت اليوم مفقودة فى مجتمعنا! أو أقول متحسِّراً: للأسف، لم تعد هناك قيمة لمعرفةٍ أو علم!.. لكن الأمر، فيما أرى، يستحق ما هو أعمق من تلك الانطباعات الأولى والعبارات السطحية البالغة الابتذال. وبدايةً لابد لنا من ضبط المفردات، كي لا تختلط فى أذهاننا الدلالات ويستحيل الفهم. وفى هذا السياق نقول : القيمةُ هى كل ما يستمد أهميته من ذاته، بصرف النظر عن نتائجه. فالحق قيمةٌ كبرى، حتى لو أدى قوله فى بلاط سلطان جائر، إلى التنكيل بقائله. ومن هنا، فإن إفراط البطّالين الباطشين بالباطل لا يجعل من الباطل حقاً، ولا من الشر الذى يفعلونه خيراً، ولا من قُبح أعمالهم جمالاً.. وكما قال قدماؤنا: الحقُّ حقٌّ فى نفسه لا لقول الناس له. (العبارة لابن النفيس). وقالوا: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرفّ الحق تعرف أهله. (العبارة منسوبة للإمام علىّ). وقالوا: الحق مطلوبٌ لذاته . (عبارة ابن الهيثم) . القيمة، إذن، هى كل ما يكون مطلوباً لذاته، بصرف النظر عن تجلياته ونتائجه. وبالتالى، فإن القيمة «مُفارقة» بالضرورة ، وهو ما يعنى أن أهميتها لا تتوقف على التطبيقات. وهى بالضرورة أيضا «مُطلقة» بمعنى أنها ليست مرهونة بنتائجها، على النحو الذى قرره فلاسفة البراجماتية.. وقد نعود يوماً للكلام عن المعنى الفعلى للبراجماتية، التى يظلمها كثيرون ممن لا يعرفون معناها، فيظنون أنها ترادف «المصلحة» بالمعنى السطحى للكلمة. والعلمُ يفترق عن المعرفة، ولكن الفارق بينهما هو بالدرجة لا بالنوع، فالإدراكُ الإنسانى إذا تعمَّق صار علماً، والعلمُ إذا تم التوغُّل فيه صار فقهاً ومعرفةً. فالمعرفة معنى أعمق وأعمَّ من العلم، وأشمل، ومن العجيب أن حكوماتنا فى الزمن الملكى كانت من بينها وزارة «المعارف» التى انقلب اسمها فى زمن الضباط الأحرار جداً، إلى وزارة «التربية والتعليم» فلما غاب عن أذهاننا أن المعارف أشمل وأهم من العلوم، ضاع منا التعليمُ وتشوّهت التربية.. لأن التعليم هو طريق الوصول إلى العلم، الذى هو درجةٌ أدنى من المعرفة. فلما غاب عنا ذلك «الضبط» الدلالى ما عاد عندنا تعليم، ولا علم، ولا معرفة يُعتدُّ بها. وبالطبع، فالمعرفةُ قيمةٌ أساسيةٌ يتميز بها عموم البشر عن بقية الحيوانات، وتتمايز بها الجماعاتُ الإنسانية عن بعضها البعض.. وبدلالة المخالفة: لا يمكن لجماعة إنسانية جاهلة، أن تكون راقية. فالمعرفة شرطٌ أساسىٌّ لرقى أى مجتمعٍ إنسانى، وشرطٌ أساسى لنجاح سعيه للارتقاء، وإلا لما كانت ميزانيات البحث العلمى والأنشطة المعرفية هى دليلا على درجة التحضر فى هذا البلد أو ذاك.. ولذلك، كان من المضحكات المبكيات قبيل ثورة يناير، بشهور، أن يبشِّرنا وزير التعليم العالى والبحث العلمى فى مصر بأنه يطمح إلى زيادة ميزانية البحث العلمى، لتكون واحداً بالمائة من الميزانية العامة. فكان ذلك من جملة السخريات السوداء! نظراً لأن ميزانية البحث العلمى فى اليابان وأمريكا، وإسرائيل، تزيد عشرة أضعاف علي مقدار الميزانية المصرية التى يذهب معظمها، أصلاً، لسداد مرتبات الموظفين الحكوميين بوزارة البحث العلمى. ومع أن الدين «الإسلامى» فيه من النصوص الأول (الآيات القرآنية) والنصوص الثوانى (الأحاديث النبوية) قدرٌ كبيرٌ من الاحتفاء بالعلم والمعرفة: «قل هل يستوى الذين يعلمون» والذين لا يعلمون، اطلبوا العلم ولو فى الصين.. إلخ، إلا أن كثيراً من المتدينين يغلب عليهم الجهلُ والجهالة (التعصب) ويهدرون قيمة المعرفة والعلم، ظناً منهم بأن الدين يُغنى عن الدنيا والتقوى أهم من الرقى المعرفى. مع أن بُنيان الدين لا يقوم إلا على الدعائم الدنيوية، والرقى المعرفى شرط لصدق التقوى، وإلا لما كان غالبية المهووسين دينياً من الجهلة ولما كان الإرهابيون فى معظمهم من الجهّال.. وللعلم، الجهلُ هو نقيضُ العلم و نقيضُ الرفق أيضاً! ولذلك فإن نبى الإسلام نَهَر الصحابى الشهير «أبا ذَر الغِفَارى» حين شتم المؤذن الأشهر بلال بن أبى رباح قائلاً : يا ابن السوداء.. ( وقيل، بل قالها لأحد العبيد، وليس للمؤذّن بلال ) فقال له النبىُّ، وقد غضب منه : يا أبا ذر ، إنك امرؤ فيك جاهلية . ونلاحظ هنا، أن أبا هريرة كان رابع الأربعة الأول الذين دخلوا الإسلام. وهو ما يعنى أن «الجاهلية» ليس المقصود بها هو الوثنية أو أنها نقيض «الإيمان» بالدين الإسلامى، مثلما يظن كثيرٌ من الناس ومثلما أخطأ فى فهمها صاحبُ كتاب : جاهلية القرن العشرين.. وإنما هى فترة زمنية تميّز أهلها بالحدّة و الشدّة والعنف والتعصّب. لن أطيل أكثر من ذلك فى تبيان معنى العلم والمعرفة، وفى تأكيد أنهما من القيم الأساسية للإنسان. فهذا أمرٌ لا مراء فيه. والأوْلى الآن، هو الإشارة إلى ضرورة التكامل فى المنظومة العامة للقيم، وأهمية تناغمها فيما بينها. إذ إن غياب الاتجاه العلمى العام، والنزعة المعرفية عموماً، من شأنه خلخلةُ منظومة القيم ثم اهتراؤها المنذر بسقوطها.. إذ كيف يمكن بغير العلم والمعرفة، إدراك القيم الكبرى (الحق، الخير، الجمال) والقيم الفرعية المتصلة بها ؟! إن الجاهل والجاهلى (المتعصب، العنيف) ليس بمقدوره أن يرى الحق حقاً فيطلب اتباعه، وما يفعله جهلة «داعش» اليوم شاهدٌ على ذلك (وفى التاريخ شواهد أخرى كثيرة، فى الزمانين المسيحى والإسلامى) .. والجاهل والجاهلى، لن يفعل «الخير» لأنه لا يعلمه، ولا يعرفه.. ولن يدرك «الجمال» أو يتذوقه، لأن ذلك يحتاج تربيةً وتعليماً ومعرفةً بالأحكام الجمالية فى الطبيعة وفى الفنون «الجميلة». فإن كانت المعرفة لازمةً للإقرار بالقيم الكبرى (الأساسية) وبالقيم الفرعية أيضاً، فإن المعرفة قيمةٌ مهمة للفرد والمجتمع. ولا سبيل إليها إلا بالعلم، الذى لاسبيل له إلا بالتعليم، الذى لا سبيل له إلا بإقرارنا بقيمة المعرفة.. فتدبّروا. لمزيد من مقالات د.يوسف زيدان