عاجل.. وزير المالية يقرر مد فترة تسوية أوضاع بعض الممولين والمكلفين لمدة ثلاثة أشهر إضافية    تركيا ترسل مساعدات لإخماد حرائق بورتسودان المستمرة منذ 5 أيام    بحضور مدبولي وكبار رجال الدولة.. وزير العمل يعقد قران ابنته (25 صورة)    محامي بالنقض: الملاك أكثر تضررا من المستأجرين بشأن القيمة الإيجارية    رسميًا.. جداول امتحانات السادس الابتدائي الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    هاتريك راموس يقود باريس سان جيرمان لسحق مونبلييه في الدوري الفرنسي    القباني يقرر منع اللاعبين وأعضاء الجهاز الفني ل الزمالك من التصريحات الإعلامية    «رفضت تحبّه فقتلها».. محكمة النقض تُنهي قضية سلمى بهجت بالإعدام (القصة كاملة)    خانته مع شاب صغير.. كيف قتلت "هنية" زوجها ودفنته تحت السرير بالبحيرة؟    أسرة محمود عبد العزيز تصدر بيان عاجل للرد على الإعلامية بوسي شلبي    وزير الخارجية: مصر الأكثر تحملا لأزمة السودان وتستضيف 5.5 مليون شقيق سوداني    نقيب الصحفيين: مشروع قانون الفتاوى الشرعية به التباس في المادة 7    وزير خارجية إيران: إسرائيل ألغت فكرة حل الدولتين وتسعى لتهجير الفلسطينيين    وزير الشئون النيابية يشارك بالاجتماع الوزاري الرابع للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان    وفاة شابين أبناء عمومة في حادث انقلاب سيارة على الطريق الدولي الساحلي بكفر الشيخ (أسماء)    حريق يلتهم محصول قمح قبل حصاده في بني سويف.. والنيابة تبدأ التحقيق    وزير الاتصالات يختتم جولته لتعزيز التعاون ودعم الابتكار الرقمى بين مصر واليابان    وزير الصحة خلال حفل يوم الطبيب: الدولة المصرية تضع الملف الصحي على رأس أولوياتها    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بالتجمع العمراني غرب الضبعة بالساحل الشمالي الغربي    بالزغاريد والرقص مع رامي صبري.. أصالة تشيع البهجة في زفاف نجل شقيقتها | صور    المؤبد وغرامة 500 ألف جنيه لتاجر عقارات بتهمة الإتجار في المخدرات بالعبور    أمام مانشستر سيتي.. ساوثامبتون يتجنب لقب أسوأ فريق في تاريخ الدوري الإنجليزي    «القابضة للأدوية» تحقق 1.5 مليار جنيه صافي ربح خلال 9 أشهر    صاحب الفضيلة الشيخ سعد الفقى يكتب عن : رسالة مفتوحة لمعالي وزير الأوقاف؟!    "زراعة الفيوم" تواصل ضبط منظومة الإنتاج الحيواني بالمحافظة    نيابة الخليفة تقرر إحالة عاطل إلى محكمة الجنح بتهمة سرقة مساكن المواطنين    تأجيل محاكمة طبيب تسبب في وفاة طبيبة أسنان بسبب خطأ طبي في التجمع    حارس الزمالك يرد على واقعة إلقاء القميص أمام سيراميكا    الكلاسيكو| أنشيلوتي يكشف موقف رودريجو ويؤكد: واثقون من الفوز    مستقبل وطن المنيا يكرم 100 عامل مؤقت    محلل سياسى: جولة الغد من مفاوضات إيران والولايات المتحدة حاسمة    نائب رئيس الوزراء: مصر تضع الملف الصحي بجميع ركائزه على رأس أولوياتها    نصائح لوقاية العيون من تأثير ارتفاع درجات الحرارة    مرسوم عليه أعداء مصر ال9.. «كرسي الاحتفالات» لتوت عنخ آمون يستقر بالمتحف الكبير    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    عالم أزهري: خواطر النفس أثناء الصلاة لا تبطلها.. والنبي تذكّر أمرًا دنيويًا وهو يصلي    رئيس وزراء سلوفاكيا يرفض حظر الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز من روسيا    31 مايو.. أولى جلسات محاكمة مدربة الأسود أنوسة كوتة بتهمة الإهمال والتسبب في واقعة أكل نمر ذراع عامل سيرك طنطا    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى أجا في زيارة مفاجئة ويبدي رضائه عن الأداء    هادي الباجوري: شخصية هاني في «واحد صحيح» فيها جوانب مني| فيديو    طريقة عمل الكيكة بالليمون، طعم مميز ووصفة سريعة التحضير    فانتازي يلا كورة.. لماذا يُمكن لمبيومو ودي بروين منافسة صلاح على شارة القيادة بالجولة 36؟    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    دعوة شركات عالمية لمشروع تأهيل حدائق تلال الفسطاط    فيلم سيكو سيكو يواصل تصدر الإيرادات    جامعة أسيوط تُشارك في ورشة عمل فرنكوفونية لدعم النشر العلمي باللغة الفرنسية بالإسكندرية    رئيس صحة النواب: مخصصات الصحة في موازنة 2026 الكبرى في تاريخ مصر    «لوفتهانزا» الألمانية تمدد تعليق رحلاتها من وإلى تل أبيب    جنايات المنصورة...تأجيل قضية مذبحة المعصرة لجلسة 14 مايو    موقف بالدي.. فليك يحدد تشكيل برشلونة لمواجهة ريال مدريد في الكلاسيكو    رئيس الوزراء يشهد توقيع اتفاقية عقد توطين وتوريد 21 وحدة قطار مترو بواقع 189 عربة لمشروع مترو الإسكندرية.. مدبولى: هذا التوقيع تنفيذاً لتوجيهات الرئيس السيسى بالتوسع فى إنشاء شبكة من وسائل النقل الجماعى الأخضر    وفاه زوجة الإعلامي محمد مصطفى شردي بعد صراع مع المرض    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    7 شهداء بينهم عائلة كاملة بقصف إسرائيلي على مدينة غزة الفلسطينية    هل أصدرت الرابطة قرارا بتأجيل مباراة القمة 48 ساعة؟.. ناقد رياضي يكشف مفاجأة (فيديو)    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية السبت 10 مايو 2025    مواعيد مباريات اليوم السبت 10- 5- 2025 والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.محمد يوسف عدس: نافذة على فكر محمد إقبال (2-2)
نشر في البديل يوم 09 - 00 - 2013

يحدد محمد إقبال مصادر المعرفة الإنسانية بثلاثة مصادر هى على التوالى: التجربة الدينية، والتجربة الحسية الخاضعة للمنهج التجريبي، والتاريخ .. ويرى أن التجربة الدينية هى أوثق مصادر المعرفة الإنسانية وأكثرها يقينًا، لأن الذات الإنسانية تتلقّاها مباشرة من الحقيقة المطلقة عن طريق الحدْس بلا واسطة من أدوات الحِسّ المادّي، فالإدراك الحسيّ يتناول فقط ما يظهر من الحقيقة للحواس، إنه ينصبّ فقط على دراسة ما يسمى بالظواهر، ولا يستطيع العلم بمناهجه وأدواته أن يزعم أن هذه الظواهر الحسية هي كل مكوّنات الحقيقة، ولا شيء فى الحقيقة وراء هذه الظواهر، ذلك لأن هذا الإنكار أولا: ليس علما، وثانيا: لا يمكن لعالم يحترم نفسه ويحترم المنهج العلميّ أن يدّعيه، فهذا خارج نطاق إمكانياته، وخارج حدوده.. كذلك يرى إقبال أن التجربة الدينية فى كمالها المثالي عبر التاريخ الإنساني كله قد تحقّقت بالوحي الإلَهي وتمثّلت فى شخصية النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم.
يخوض بنا إقبال بفلسفته فى أعماق التجربة الروحية للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم، ويكشف لنا عن اساليب لتقييم هذه التجربة الإنسانية الفريدة، ويقارن بينها وبين التجربة الصوفية، لنرى أن قصارى جهد المتصوّف المخلص، وأقصى غاياته هو تزكية نفسه والاستمتاع الذاتي بإشراقات الحقيقة الإلهية على وجوده الشخصي، أما التجربة الروحية للنبي فليست هى الغاية، وإنما هى بداية الانطلاقة؛ فلها غاية أوسع وأشمل من مجرد السعادة الشخصية.. إنها تنطوى على رسالة هداية للإنسانية كلها، ومن ثم كان عليها أن تواجه بطلاقة الرسالة كل تحديات العالم المادي، لتشق طريقا شديد الوعورة إلى أعماق الأنفس وأعماق المجتمعات الإنسانية بهدف تغييرها.. ويعبر إقبال عن هذا المعنى بكلماته المشرقة فيقول: "إن النبوة نوع من الوعي الروحي تنزعرع فيه "تجربة التوحّد فى مقام الشهود إلى التدفّق خارج حدودها، لتبحث عن مجالٍ لنشاطها فى إعادة توجيه قوى الحياة الجمعية للإنسان وإعادة تشكيلها على أساس جديد…" لكي تقترب من فهم هذا التعريف الفلسفي للنبوّة إقرأ الآيات التى تصور مقام الشهود للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فى معراجه، عندما بلغ سدرة المنتهى (الآيات من 1إلى 18 من سورة النجم).
أسلوبان للحكم على التجربة الدينية:
من إبداعات فكر محمد إقبال التى تلفت أنظارنا فى هذا المجال تأكيده على وجود أسلوبين للحكم على قيمة التجربة الدينية: الأول هو فحص نوعية الرجال الذين صنعهم النبي، والثانى هو التأمل فى العالم الثقافي الذي انبثق من روح رسالته؛ وقد أفاض إقبال وأبدع فى عرض الشخصيات الإسلامية التى جاءت من خلفيات بدوية جاهلية، خالية من الحضارة، فتعهّدها النبى صلى الله عليه وسلم بالتربية القرآنية فى مدرسة النبوّة، ثم انطلقت فى آفاق الأرض تنشر العدل والهداية والعلم والحكمة، وترسّخ مبادئ االوحدة الإنسانية والإخاء والتسامح؛ فكان منهم أعدل الحكام وأعظم القادة العسكريين، وروّاد العلم والحضارة، الذين ضربوا المثل الأعلى فى كل مجال..
فإذا انتقلنا إلى روح الثقافة الإسلامية التى انبثقت من الرسالة المحمديّة يقول إقبال:"ليس من هدفي أن أقدّم لكم وصفاً لإنجازات الإسلام في مجال المعرفة، وإنما أريد بالأحرى أن ألفت نظركم نحو الآراء الهامة في ثقافة الإسلام لكي نرى ما تنطوى عليه من عمليات فكرية، وبذلك نُلقى نظرة خاطفة على الروح التي عبّرت عنها هذه الآراء…" ثم يتابع قائلا:"على أنه قبل أن نتقدم في البحث ينبغي أن نفهم القيمة الثقافية لفكرة فريدة تميّز بها الإسلام وأقصد بها ختام النُّبُوّة.."
وفى ختام النبوّة يقول إقبال:
"يبدو أن نبي الإسلام يقف على حافة عالمين: العالم القديم و العالم الحديث؛ فهو من ناحيةِِ مصدر رسالته يعتبر منتمياً للعالم القديم "شأنه فى ذلك شأن جميع الأنبياء والرسل الذين سبقوه"، أما من ناحية روح رسالته فيعتبر منتمياً إلى العالم الحديث.. فقد اكتشفت الحياة فيه مصادر أخرى للمعرفة مناسبة لاتجاهها الجديد…" فما هى هذه المصادر؟ هنا يؤكد لنا إقبال أن ميلاد الإسلام هو ميلاد العقل الاستدلالي؛ ففي الإسلام تبلغ النبوة كما لها باكتشافها ضرورة إنهاء عصر النبوات وهو أمر ينطوى على إدراك دقيق أن الحياة لا يمكن أن تظل إلى الأبد أسيرة خيوط من خارجها تقود خطواتها، بل أصبح على الإنسان لكي يكتسب وعيه الذاتي كاملا أن يتم فطامه ليعتمد على موارده الخاصة فى تحصيل المعرفة، عن طريق الاستدل العقلي باستخدامه فى مجالين أساسيين:
1 مجال البحث فى الطبيعة وأداته ما يُعرف اليوم باسم المنهج العلمي التجريبي
2مجال النظر فى تاريخ الإنسانية باستخدام المنهج التاريخي.
يقول إقبال: "لاشك أن إبطال الإسلام للكهنوت، وللسلطات الوراثية الطاغية، ودعوة القرآن المستمرة لإِعمال العقل والتجربة، والتأكيد على النظر في الكون والتاريخ كمصدرين للمعرفة الإنسانية، كل هذه جوانب مختلفة وثمار لفكرة عبقرية هى (ختام النبوة). على أن هذه الفكرة لا تعنى أن التجربة الروحية قد توقفت الآن عن الوجود كحقيقة هامة من حقائق الحياة… والمهم هنا هو أن القرآن لايفتأ يؤكّد على اعتبارالأنفس والآفاق مصادر للمعرفة؛ فالله يرينا آياته في التجربة الجوانية و التجربة البَّرانية على السواء، ومن ثَمّ فإن فكرة ختام النبوة لا ينبغي فهمها على أن المصير النهائي للحياة هو إحلال العقل محل العاطفة والوجدان (كما يظن بعض الناس)، فهذا أمر غير ممكن وغير مرغوب، والقيمة العقلية لفكرة ختام النبوّة هي أنها تتجه إلى خلق موقف نقدي مستقل تجاه التجربة الموصوفة بالدينية أو الروحية أو الصوفية…"
يقول إقبال: "إن فكرة ختام النبوّة من شأنها أن تولّد فينا إعتقادا بأن أى سلطة شخصية تدَّعى لنفسها الاتصال بمصدر فوق الطبيعة قد انتهى عهدها من تاريخ البشرية إلى الأبد… فلا نبي، ولا بابا، ولا مهدى منتظر، ولا مسيح دجال، ولا بهاء.".. لا أحد بعد محمد خاتم الأنبياء يستطيع أن يدّعى لنفسه سلطة روحية مستمدّة من صلة خفية بالله..
ختام النبوّة معناه من الناحية العملية أنه لم يعد هناك فرصة لشخص ما أن يخدع الناس بأنه نبيّ جديد، ولا أن يؤوّل الختام بأنه الخاتم أو الزينة، ليفسح لنفسه مكانا مزيّفًا بين الأنبياء والمرسلين، ولا أن يمنح لنفسه سلطة فوق البشر… وتلك لعمرى (لو تأمّلناها مليّا) ثورة تاريخية وفكرة عبقرية لتحرير الفكر الإنساني.. يقول إقبال: " إن فكرة ختام النبوّة قوة سيكولوجية من شأنها أن تكبح ظهور مثل هذه السلطة أونموها فى المجتمعات المسلمة، كما أن لها وظيفة أخرى بالغة الأهمية وهى أنها تفتح آفاقاً جديدة من المعرفة في مجال التجربة الإنسانية، طبقا لما توحى به الآية القرآنية: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"..
والقرآن هنا يحُثّ بقوة على التأمل وعلى البحث العلمي فى ظواهر الكون، و فى الأحوال النفسية على السواء، واستخدام النظرة النقدية الفاحصة، بعد استبعاد النظرة الأسطورية التي أسبغتها ثقافات العصورالقديمة على الكون وعلى الطبيعة.. ولذلك يجب على المسلم الآن أن يعتبر التجربة الصوفية تجربة طبيعية تماماً مهما كانت غير عادية وغير مألوفة، وأنها قابلة للنقد وخاضعة للفحص الدقيق، شأنها فى ذلك كشأن التجارب الإنسانية الأخرى.. وهذا واضح من موقف النبي نفسه من (ابن صياد) وممارساته النفسية، كما أشرنا فى المقال السابق.. يقول إقبال:
"يجب أن نقرر أنّ ابن خلدون كان هو المفكر المسلم الوحيد الذي اقترب في دراسته للتصوف من الروح العلمية الخالصة.."
مصدران آخران للمعرفة:
يقرّر القرآن فى كثير من آياته وجود مصدرين آخرين للمعرفة هما الطبيعة والتاريخ، وتتجلى روح الإسلام في أفضل صورها في انفتاحها على هذين المصدرين. وهو لا يفتأ يوجّه أنظارنا بقوّة وإصرار وتكرار إلى الآيات الدالة على الحقيقة المطلقة في: "الشمس" و "القمر" و "امتداد الظل" و"اختلاف الليل والنهار" و"اختلاف الألسنة والألوان البشرية" و"تداول الأيام بين الناس" وإلى الأرض وما فيها من إنسان ونبات وحيوان وجماد، والسماء وما تحتوى عليه من نجوم وأقمار وأفلاك وسحب وأمطار.. وفى كل مظاهر الطبيعة كما تتبدّى للإدراك الحسّي للإنسان.. وواجب المسلم هو أن يتأمّل في هذه الآيات لا أن يمرَّ بها كما لو كان ميتاً أو أعمى: "ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا".
يقول إقبال:"هذه الدعوة إلى عالم الحس وما صاحبها من التحقّق المتأنّى للرؤية القرآنية للكوْن، من حيث أنه كوْن ديناميكي متغير، ومتناهٍ ولكنه قابل للزيادة والاتّساع: "والسماء بنيناها بأيدٍ وإنّا لموسعون".. كل هذا جعل المفكرين الإسلاميين يدخلون في صراع مع الفكر الإغريقي الذى يعتمد على العقل المجرّد، والذي درسوه بمزيد من الحماسة في بداية حياتهم العقلية؛ فلم يكن المفكرون المسلمون يدركون فى بداية الأمر أن روح القرآن تتعارض فى أساسها مع الفلسفة القديمة ، فوضعوا كل ثقتهم في المفكرين الإغريق ، وكانت أول اندفاعة لهم هي محاولة فهم القرآن في ضوء الفلسفة الإغريقية. وقد باءت هذه المحاولة بالفشل الذريع؛ ذلك لأن روح القرآن تميل إلى ما هو واقعي ملموس بينما طبيعة الفلسفة الإغريقية تأملية مجردة تهتم بالنظرية وتغفل الواقع.
وقد أدّى هذا الفشل إلى ظهور الروح الحقيقية لثقافة الإسلام؛ بل إلى وضع الأساس للثقافة "الأوربية" الحديثة نفسها في أهم جوانبها.
تساءلنا فى مقالة سابقة مع محمد إقبال: هل المنهج التجريبي اكتشاف أوروبي..؟ ورأينا أن محمد إقبال يخلص من مناقشاته ومن عرضه لشهادة المفكرين الغربيين إلى التأكيد على أن هذا زعمٌُ باطل، ورأينا كذلك أن روبرت بريفولت يعترف بهذه الحقيقة اعترافا صريحا واضحا لا شك فيه، حيث ينسب المنهج العلمي التجريبي (الذي تفخر به أوربا) إلى العرب المسلمين.. ويعلّق إقبال على هذه الاعترافات بقوله:
"إن أول نقطة هامة نستخلصها من هذا الكلام عن روح الثقافة الإسلامية هي أن هذه الثقافة ترتكز على ما هو محسوس بغرض الحصول على معرفة قابلة للتحقيق.. ومن الواضح أيضاً أن ميلاد منهج الملاحظة والتجربة.. كان معبّرا أصدق تعبير عن روح الثقافة الإسلامية التى تختلف اختلافا جذريا عن الثقافة اليونانية القديمة؛ فقد كان اهتمام الإغريق كما ذكرنا منصبّا على النظرية وليس على الواقع المحسوس كما هو الشأن بالنسبة للثقافة الإسلامية".. وينتهى محمد إقبال إلى التأكيد على هدفه الأساسي قائلا:" أريد بالتحديد أن استأصل الفكرة الخاطئة القائلة بأن الفكر الإغريقي كان هو الذى حدد طبيعة الثقافة الإسلامية".
هل يمكن أن يكون العالِمُ ملحدًا..؟
تكمن عبقرية الثقافة الإسلامية فى خاصية تنفرد بها، فهى لا تضع التجربة العلمية فى خصومة مع التجربة الروحية، بل تجعلها مقدمة ضرورية لها، فإذا كانت المعرفة فى التجربة العلمية تبدأ بما هو محسوس وملموس، فإن إمساك العقل بهذا المحسوس والسيطرة عليه هوالذى يُمَكِّن هذا العقل الإنسانى أن ينتقل إلى ما وراء المحسوس.. وتحتاج هذه النقطة إلى شيء من التوضيح؛ فالقرآن وهو يحث الإنسان على النظر فى مخلوقات الله المشاهدة المحسوسة، إنما يفعل ذلك ليفتح على العقل والقلب معا فرصة الاقتراب من أسرار الحكمة الإلهية المبثوثة فى الكون، وفى الطبيعة، ولْيستشعر القلب ولْتنصت الأذن إلى نبضات الكون الناطق بآيات الله البديعة، وكأنها تتحدث إلى الانسان بلغتها الخاصة، كما تتحدث آيات القرآن إلى الانسان بكلمات اللغة الشاعرة، وهكذا يصل الإنسان إلى معرفة الله الخالق من خلال معرفته لمخلوقاته المادية المشهودة، ولذلك يقول مفكّر عظيم آخر هو على عزت بيجوفيتش، أنه لايمكن لعالِم حقيقي اطّلع على بعض حقائق الكون وأسرارالطبيعة أن يكون ملحدًا، ويضرب المثل على ذلك، باثنين من أبرز علماء أوربا وهما أينشتين ونيوتن، لم يكونا مؤمنين فحسب بل كانا من الموحّدين، فأكثر عباد الله خشية لله هم العلماء كما تؤكد الآية الكريمة:"إنما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ" أما من يشتهرون بين الناس بأنهم علماء وهم ملحدون، فهؤلاء عند بيجوفيتش ليسوا علماء حقيقيين، بل لهم عنده مواصفات أخرى، وله فى هذا تحليلات و آراء جديرة بالنظر…!
الكون بين الألوهية والربوبية:
إن الله لم يخلق الكون ووضع فيه سننه وقوانينه ثم تركه وانصرف عنه كما يظن بعض الفلاسفة مخطئين.. فالكون بقدرة الله الخالق يتمدد ويتسع أبدا، وكل ذرة فى الكون وكل خلية حية تموت وتحيا فى كل لحظة ملايين المرات؛ وهذا الخلق المتواصل المتدفق أبدا آية من آيات الله الحي القيّوم الذى لا يموت، ولا يغفل عن رعاية خلقه، بل يشمله بالربوبية الدائمة.."يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم".
أحدث المكتشفات العلمية:
تنطق اليوم بهذه الحقائق؛ من ذلك أن عالم الكيمياء العبقريّ المسلم أحمد زويل استطاع أن يشهد حلم حياته يتحقق أمام ناظريه؛ فقد ابتكر نظاما للتصوير الإلكتروني رُباعيّ الأبعاد فائق السرعة بالغ الدقة، له قدرة على رصد حركة جزيئات المادة، عند نشوئها وعند تلاحمها بعضها مع بعض، وهى فى حركتها وتحوّلاتها تصدر نبضات كنبضات القلب، أو دقّات كدقّات الطبل كأنها تسبّح الله، كائنات مادّية متناهية الدقة، تنشأ وتتخلّق وتتشكّل فى حركة دائبة لا تتوقف، لا من ذاتها ولا بفعل أحمد زويل، إنما بقدرة الخلاّق المبدع الذى له الخلق وله الأمر؛ فالكون فى خلقه ووجوده يستند على الألوهية الخالقة، ولكنه يظل فى تدبير أمره، وصيانته ورعايته مستندًا إلى الربوبية الموجِّهة.. واكتشاف أحمد زويل المبهر فتح نافذة للإنسانية لمعرفة بعض أسرار الخلق والربوبية، فى هذا الكون الذى لاتنقضى عجائبه، ولا يزال الرجل يكدح لمزيد من المعرفة فى مجال آخر، إذ يحاول استنطاق الخلية الحية باستخدام نفس التقنية لتصوير أدق عناصر الخلية كالبروتينات والريبوزمات، والآليات الأخرى التى تحدث فى الخلية لتشكيل البروتينات، يحاول بهذه التقنية ذات السرعة الفائقة أن يرى التحوّلات الحيوية الدقيقة فيما يُسمي ب(الزمن الحقيقي) أى لحظة حدوثها.. وهكذا ربما يقضى عالم كل عمره، مع فريق من العلماء الآخرين، يبحث فى أعماق أصغر مخلوقات الله: الذرّة والخلية، ليكتشف سرّا واحدا من أسرار الخلق الإلهي، ولكن هذا الكشف الصغير سوف يترتب عليه انقلابات غير محدودة فى عالم الصناعة والطب والعلاج.
ولا ينبغى أن يفوتنا هنا جانبا هاما من الحكمة؛ فإن الله لا يطلع أحدا على أسرار خلقه، ولايهديه إلى مثل هذه المكتشفات، إلا بالإجتهاد والسعى والكدح المتواصل، واتخاذ الوسائل العلمية والتقنية المناسبة، فالله لا يحابى الكسالى والمتواكلين والجُهّال والمتراخين. أما الجانب الآخر من هذه الحكمة، فهو التأكيد على أن القرآن عندما يحضّنا على النظر فى آيات الله الكونية فإنه لا يعنى فقط مجرّد التأمل المؤدى إلى الإيمان بعظمة الخالق فى جلاله وجماله، وإنما أيضا النظر بالمناهج العلمية والأدوات التقنية المؤدية إلى المعرفة التجريبية، ويربط بين الطريقين والهدفين برباط وثيق.. فكلا الطريقين متكاملين فى معرفة الله الخالق المبدع، الذى خلق الإنسان ليحقق رسالة فى عمارة الأرض، بالعلم والعمل، وقيادة الحياة فيها، بإقامة العدل ورعاية مبادئ الحرية والمساواة الإنسانية، وفقا لشريعة الله التى ارتضاها لعباده. وتلك هى الأهداف التى حاول محمد إقبال التعبير عنها بفلسفته وفكره، وتغنَّى بها فى شعره المبدع.
المصدر الثالث للمعرفة فى الثقافة الإسلامية هو:التاريخ أو بلغة القرآن "أيام الله"
فمن الحقائق الأساسية التى يلفت القرآن نظرنا إليها أن الأمم تحاسب بمجموعها ككل، وأنها تعاقب على سيئاتها وآثامها في الحياة الدنيا؛ ولكي يؤكد القرآن هذه الحقيقة يسوق لنا أمثلة من التاريخ، ويحض القارئ على التفكير والتأمل والاعتبار بتجارب الأمم السابقة، وفى هذا المعنى يسوق لنا إقبال طائفة من الآيات القرآنية ذات الدلالة:
"1 قد خلت من قبلكم سُننٌ فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذّبين"(آل عمران: آية 137).
"2 ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، وذكّرهم بأيام الله، إن فى ذلك لآيات لكل صبّار شكور" (إبراهيم: آية 5).
"3 وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأُملى لهم إن كيدى متين"(الأعراف: آية 181+).
"4 إن يمسسكم قرْح فقد مسّ القومَ قرحٌ مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس" (الأعراف: آية 34).
"ولكل أمّة أجلٌ" (الأعراف: آية 34)5 .
يقول إقبال: "والآية الأخيرة أحد الأمثلة على التعميم التاريخي الأكثر خصوصية وتحديداً، وبصياغته البليغة يوحى بإمكانية الدراسة العلمية لحياة الجماعات البشرية باعتبارها كائنات عضوية؛ ومن ثََمّ فإنه من الخطأ الفادح الزعم بأن القرآن يخلو من بذور المنهج التاريخي؛ فلو تأمّلنا الروح العامة في مقدمة ابن خلدون سوف يتأكّد لدينا أنها تستند إلى إلهامات استوحاها ابن خلدون من القرآن؛ فهو مدين للقرآن فى كل توجّهاته حتى في أحكامه على الطبائع والأخلاق البشرية… والمثال الأوضح على هذا هو الفقرة الطويلة التي كتبها في تقييم طبائع العرب كشعب، فالفقرة كلها إطناب تفصيلي للآيات القرآنية الآتية:
"الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (التوبة: الآية 97و 98).
يقول إقبال: "على أن اهتمام القرآن بالتاريخ باعتباره مصدراً للمعرفة البشرية يمتد إلى ما هو أكثر من مجرد إشارات أو تعميمات تاريخية؛ فقد وضع لنا القرآن أحد القواعد الأساسية للنقد التاريخي؛ آخذا فى الاعتبار أن الدقة في تسجيل الحقائق وروايتها التي تشكل مادة التاريخ شرط لا غنى عنها للتاريخ بوصفه عِلْمًا، ولمّا كانت المعرفة الدقيقة للحقائق التاريخية تعتمد على رُوََاتها، فإن القاعدة الأولى في النقد التاريخي هي أن الأخلاق الشخصية للرّاوي عنصر هام في الحكم على روايته أو شهادته، وفي ذلك يقول القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا"(الحجرات: آية 6)، ولقد كان تطبيق هذا المبدأ على رُواة السُّنَّة وأحاديث الرسول هو ما نشأ عنه بالتدريج قوانين النقد التاريخي" والحقيقة كما يرى إقبال أن تطوّر الحاسة التاريخية في الإسلام موضوع آسر يحتاج إلى دراسة مستقلّة".
ويتابع إقبال فكرته فيقول: "كانت دعوة القرآن للتدبّر فى التجارب الإنسانية السابقة، والحاجة إلى التأكد من صحة أحاديث النبي، والرغبة في تزويد الأجيال القادمة بمصادر دائمة للإلهام، كل هذه العوامل أسهمت في خلق مؤرخين مثل ابن إسحاق، والطبري، والمسعودي.. ولكن التاريخ كفَنّ لتأجيج خيال القارئ هو مجرد مرحلة من مراحل تطور التاريخ ليصبح علما أصيلا.. و إمكانية المعالجة العلمية للتاريخ تحتاج إلى خبرة أوسع ونضج أعظم في التفكير العملي، كما تحتاج إلى تحقّقٍ أكمل لبعض أفكار أساسية معينة، تتعلق بطبيعة الحياة والزمن، ويمكن إجمال هذه الأفكار في فكرتين رئيستين تشكّلان معًا الأساس الذي تقوم عليه تعاليم القرآن فى هذا المجال:
1 الفكرة الأولى هي وحدة الأصل البشري حيث يقرر القرآن: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" (الأعراف: آية 189).
ولكن إدراك الحياة كوحدة عضوية يتم عادة ببطيء شديد ، يعتمد في نموه على دخول جموع الناس في التيار الرئيسي لأحداث العالم، وقد سنحت هذه الفرصة للإسلام عن طريق النمو السريع لإمبراطورية إسلامية عظيمة الاتساع، ومما لا شك فيه أن المسيحية قد دعت إلى المساواة بين البشر قبل الإسلام بزمن طويل، ولكن روما المسيحية لم ترتفع إلى الفهم الكامل لفكرة الإنسانية كوحدة عضوية وقد صدق "روبرت فِلِنْت" عندما قال: (بالطبع لا يمكن أن يُسند إلى كاتب مسيحي أو أي كاتب آخر في الإمبراطورية الرومانية أنه قد عرف أكثر من فكرة عامة مجردة عن وحدة الإنسانية، ولا يبدو أن هذه الفكرة منذ أيام الرومان حتى اليوم كان لها أي أثر ملموس في أوروبا، كما كان لنمو التوجّهات القومية التى اجتاحت أوربا أكبر الأثر فى القضاء على العنصر الإنساني الشامل في الفنون والآداب الأوروبية، أما في الثقافة الإسلامية فكان الأمر مختلفاً تماماً؛ فوحدة الإنسانية فى الإسلام لم تكن مجرد فكرة فلسفية ولا حلماً شعرياً، وإنما كانت حركة اجتماعية ، وكان هدف الإسلام هو أن يجعل فكرة الوحدة هذه عاملاً حيَّاً في حياة المسلم اليومية، وهكذا أعطت ثمارها كاملة في صمت وبدون ضجيج …" إنتهى الاقتباس من كلام روبرت فلنت فى كتابه History of the Philosophy of History صفحة 86، علما بأن فلنت هذا كان لاهوتيا من اسكوتلندة وفيلسوفا، كتب فى علم الاجتماع والاقتصاد السياسي وعمل أستاذا للفلسفة الأخلاقية.. ونتوقف عند هذا الاعتراف الصريح الواضح لواحد من أبرز المفكرين المسيحيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.