قبل سنوات و قبيل إسدال الستار علي الفصل الأخير في مسرحية توظيف الأموال اعتمد أصحاب بعض هذه الشركات آلية صرف أرباح للمودعين القدامى من حصيلة إيداعات مودعين جدد لإيهام المشتركين الحاليين والمحتملين في المستقبل أن الأمور علي ما يرام وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. ولأن لعبة إلباس طاقية هذا لذاك عملية مؤقتة لابد أن تنتهي مهما طال الزمن فسرعان ما سقطت الأقنعة وانتهت الأسطورة مخلفة وراءها آلافا من قصص مضحكات مبكيات. وفي ظني أن ترحيل توقيت ظهور المشكلة وعدم حسمها أو الاكتفاء بمعسول الكلام والأمنيات الطيبة وباجتماعات ولجان محصلتها النهائية صفر، حالة لم تكن مقصورة علي تلك الشركات، فهي شبه نموذج عام ملحوظ في حياتنا، بدءا من تغيير تقاطعات الطرق ونقل نقطة التكدس المروري عدة أمتار للوراء أو الأمام دون حل لمشكلة الزحام، وصولا لأعقد مشكلاتنا الاجتماعية والثقافية. هذه الحالة التي يلخصها ابن البلد في تعبيرات من قبيل «تلبيس عمة ده لده أو لم يقطع عرق (!!)» يعرفها المتخصصون بأنها غياب للتخطيط الاستراتيجي المُحدد للأطر والنتائج المستهدفة، بالإضافة لغياب التخطيط العملياتي الذي يحدد أدوات وخطوات التنفيذ.. فالمَكلمة المستمرة سواء في الاجتماعات واللجان المغلقة أو برامج التوك شو التي ينطبق عليها تعبير«ضجيج بلا طحين» تتطابق مع تحليل كايكل كايزر رئيس مركز جون كنيدي للفنون ومؤلف كتاب «التخطيط الاستراتيجي في الفنون» إذ يؤكد عبثية تصور إمكانية الوصول لحلول مبتكرة لمجرد اجتماع بعض الناس، ولو كانوا من الخبراء، في غرف مغلقة لساعات طويلة. ويشير كايزر إلي أن غياب الإطار الاستراتيجي في هذه الاجتماعات الذي يتم علي أساسه تحديد الهدف وصياغة بيان المهمة وخطط التنفيذ لا يحول فقط دون الوصول لخطوات وخطط قابلة للتحقق علي الأرض، بل أيضا يؤدي للانشغال بنقاط فرعية غالبا لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالهدف الرئيسي للاجتماع . ولعل هذه العبارة تفسر لنا أسباب استمرار مشاكل المؤسسات الثقافية المصرية رغم انعقاد آلاف اللجان والمؤتمرات. ففي ظل غياب التخطيط الاستراتيجي لاتزال مشاكل الأمس تلقي بظلالها علي الحاضر وربما المستقبل.. فلا تزال إشكاليات الوصول بالمنتج الثقافي للمواطن العادي أينما كان وتضارب اختصاصات المؤسسات الثقافية وضعف تمويل العمل الثقافي وتراجع القيمة الفنية والكمية من المنتج الثقافي الرفيع المستوي لمصلحة الثقافة الاستهلاكية السطحية والعجز عن التوظيف الأمثل للعاملين في منظومة صناعة الثقافة، وقضايا حرية التعبير التي قُتلت بحثا وإشكاليات تذبذب بوصلة المضمون الإعلامي سعيا وراء رفع نسب المشاهدة والإعلانات، واقعا يفرض نفسه لا يمكن تجاهله أو تجاهل تداعياته السلبية. ولأننا اليوم نعيش في زمن عاصف لا يحتمل رفاهية ترحيل المشاكل لوقت لاحق وتجاهل أسبابها أو تأجيل حلها، ربما تمهد قراءة أولية في محاور التخطيط الاستراتيجي الطريق لحل بعض، إن لم يكن كل، المشاكل التي سبق الإشارة إليها. فالثقافة وإن كانت بطبيعتها يغلب عليها الجانب المعنوي (منظومة القيم والعادات والنسق الفكري والمورث.. إلخ) إلا أن التداعيات المادية للمنظومة الثقافية وطبيعة عالم اليوم تخضعها لجميع العوامل والأطر الحاكمة لأي صناعة أوعملية إنتاجية في المجتمع. من هنا لم يكن من المستغرب أن تظهر خلال العقد الأخير مصطلحات من قبيل صناعة الثقافة وصناعة المتاحف وصناعة المسرح.. إلخ. ويعتبر كايزر أن كل عنوان مما سبق الإشارة إليه (صناعة المسرح أو المتاحف) لا يمثل نموذجا موحدا يتم تطبيقه بحذافيره في كل المسارح أو المتاحف. مع ذلك فإن هذا الاختلاف لا ينفي تشابه نماذج عملية تطويرها وحل مشاكل القطاعات الثقافية بنفس الآليات المطبقة في أعقد المشاريع والصناعات، والتي حددها كايزر في «بيان المهمة» الذي يشمل تحديد الأهداف ودراسة البيئة المحيطة بالمنتج داخليا (كيفية رفع كفاءة العاملين -توفير الموارد المالية - مسار العمل ونقاط الضعف والقوة) وخارجيا (الجمهور- الهيئات المشابهة والمنافسة- البرامج التنفيذية- المجال الجغرافي المأمول التأثير فيه مضمون الرسالة). فإذا اخترنا قطاع المسرح كمثال، فلابد أن يتضمن بيان المهمة تحديد الهدف والمضمون والمجال الجغرافي والخطط العملية لتوفير الموارد المالية والبشرية لإنتاج وعرض أعمال علي مدار العام بأسعار مقبولة تجتذب مختلف الفئات العمرية، مع توظيف جميع أساليب العرض بما فيها الإعلام الالكتروني. وينطبق المثال السابق علي كل الصناعات مع تحوير يناسب طبيعة كل منها. و الخلاصة أن ألف باء حل أي مشكلة، اجتماعية كانت أم اقتصادية أو ثقافية، يكمن في بيان لهدف ومنهج، ما أحوجنا إليهما في زمننا العاصف لنبدأ المهمة.. لمزيد من مقالات سناء صليحة