أسعار الخضروات والفاكهة والأسماك والدواجن اليوم الأحد 11 مايو    أسعار الذهب اليوم الأحد 11 مايو في بداية التعاملات    بعد اقتراح بوتين.. هل تقبل تركيا استضافة مفاوضات أوكرانيا وروسيا؟    السفير الأمريكي لدى الاحتلال: لا مستقبل لحماس في قطاع غزة    ترامب: أحرزنا تقدمًا في المحادثات مع الصين ونتجه نحو "إعادة ضبط شاملة" للعلاقات    اليوم.. انطلاق التقييمات المبدئية لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي    لأول مرة.. نانسي عجرم تلتقي جمهورها في إندونيسيا 5 نوفمبر المقبل    قمة الدوري الإسباني.. قائمة ريال مدريد لمواجهة برشلونة في الكلاسيكو    إخلاء سبيل ضحية النمر المفترس بالسيرك بطنطا في بلاغ تعرضه للسرقة    صنع الله إبراهيم يمر بأزمة صحية.. والمثقفون يطالبون برعاية عاجلة    الدوري الفرنسي.. مارسيليا وموناكو يتأهلان إلى دوري أبطال أوروبا    بالتردد.. تعرف على مواعيد وقنوات عرض مسلسل «المدينة البعيدة» الحلقة 25    في ظل ذروة الموجة الحارة.. أهم 10 نصائح صحية للوقاية من ضربات الشمس    تعليق مثير من نجم الأهلي السابق على أزمة زيزو والزمالك    ديروط يستضيف طنطا في ختام مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    موعد مباراة برشلونة وريال مدريد في الدوري الإسباني    أسعار اللحوم في محلات الجزارة بمطروح اليوم الأحد 11 مايو 2025    «جودة الحياة» على طاولة النقاش في ملتقى شباب المحافظات الحدودية بدمياط    ما شروط وجوب الحج؟.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    تامر أمين بعد انخفاض عددها بشكل كبير: الحمير راحت فين؟ (فيديو)    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حريق مطعم مصر الجديدة    الأرصاد تكشف موعد انخفاض الموجة الحارة    كارثة منتصف الليل كادت تلتهم "مصر الجديدة".. والحماية المدنية تنقذ الموقف في اللحظات الأخيرة    إخلاء عقار من 5 طوابق فى طوخ بعد ظهور شروخ وتصدعات    إصابة شاب صدمه قطار فى أبو تشت بقنا    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 11 مايو 2025    انطلاق النسخة الثانية من دوري الشركات بمشاركة 24 فريقًا باستاد القاهرة الدولي    "التعليم": تنفيذ برامج تنمية مهارات القراءة والكتابة خلال الفترة الصيفية    إنتهاء أزمة البحارة العالقين المصريين قبالة الشارقة..الإمارات ترفض الحل لشهور: أين هيبة السيسى ؟    سامي قمصان: احتويت المشاكل في الأهلي.. وهذا اللاعب قصر بحق نفسه    أحمد فهمى يعتذر عن منشور له نشره بالخطأ    ورثة محمود عبد العزيز يصدرون بيانًا تفصيليًا بشأن النزاع القانوني مع بوسي شلبي    إعلان اتفاق "وقف إطلاق النار" بين الهند وباكستان بوساطة أمريكية    نشرة التوك شو| "التضامن" تطلق ..مشروع تمكين ب 10 مليارات جنيه وملاك الإيجار القديم: سنحصل على حقوقن    وزير الصحة: 215 مليار جنيه لتطوير 1255 مشروعًا بالقطاع الصحي في 8 سنوات    محافظة سوهاج تكشف حقيقة تعيين سائق نائباً لرئيس مركز    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي وطريقة استخراجها مستعجل من المنزل    مصابون فلسطينيون في قصف للاحتلال استهدف منزلا شمال غزة    المركز الليبي للاستشعار عن بعد: هزة أرضية بقوة 4.1 درجة بمنطقة البحر المتوسط    انتهاء هدنة عيد النصر بين روسيا وأوكرانيا    5 مصابين في انقلاب ميكروباص بالمنيا بسبب السرعة الزائدة    «التعاون الخليجي» يرحب باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان    حكام مباريات الأحد في الجولة السادسة من المرحلة النهائية للدوري المصري    وزيرة التضامن ترد على مقولة «الحكومة مش شايفانا»: لدينا قاعدة بيانات تضم 17 مليون أسرة    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأحد 11 مايو 2025    في أهمية صناعة الناخب ومحاولة إنتاجه من أجل استقرار واستمرار الوطن    ضع راحتك في المقدمة وابتعد عن العشوائية.. حظ برج الجدي اليوم 11 مايو    أمانة العضوية المركزية ب"مستقبل وطن" تعقد اجتماعا تنظيميا مع أمنائها في المحافظات وتكرم 8 حققت المستهدف التنظيمي    راموس يقود باريس سان جيرمان لاكتساح مونبلييه برباعية    «أتمنى تدريب بيراميدز».. تصريحات نارية من بيسيرو بعد رحيله عن الزمالك    أبرزها الإجهاد والتوتر في بيئة العمل.. أسباب زيادة أمراض القلب والذبحة الصدرية عند الشباب    تبدأ قبلها بأسابيع وتجاهلها يقلل فرص نجاتك.. علامات مبكرة ل الأزمة القلبية (انتبه لها!)    منها «الشيكولاتة ومخلل الكرنب».. 6 أطعمة سيئة مفيدة للأمعاء    بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الأحد 11 مايو 2025 (آخر تحديث)    عالم أزهري: خواطر النفس أثناء الصلاة لا تبطلها.. والنبي تذكّر أمرًا دنيويًا وهو يصلي    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد أن أجهض الغرب تجربتى محمد على وعبدالناصر
مصر نمر علي النيل

تخفى الفرحة، بانتخاب السيسى، قلقا أكبرعلى المستقبل، وسط أهوال قائمة وتحديات ماثلة.. أم الدنيا بلاد عجيبة ماكرة، ترفرف ولو بجناح مكسور..استدعت هذا "الجندى الثائر"، من تحت ظلال السلاح، بعد صبر طالت حباله، وانتظار أصبح مملا وقاسيا، فوضته لينقذها من كمين تاريخى وقعت فيه.
اتسعت همة الرجل لأحلام الشعب.. ولأن الداخل مازال عليلا، ويحاصرنا قراصنة التاريخ ولصوص الجغرافيا، لذا نتساءل: كيف نرتقى مدارج التقدم ونخرج من أزمات التخلف؟..منذ حكم محمد على وهذا السؤال يفوح من جراح التدهور والانكسار، رياح الشر تلقى بنا فى حلقة مفرغة، خطوة للأمام وخطوات إلى الخلف، مثل غزال يتعثر أمام أضواء ساخنة.. أسئلة بلا أجوبة، طاشت سهاما فى الفضاء، لم تصب هدفا أو تحقق مطلبا. اليوم، تحتاج مصر إلى أن نعرف معنى الأمل، أن نشعل ثقابا فى الظلمة يطارد أشباح التخلف، ويجعل حلم النهوض حقيقة ممكنة، متى امتلكنا جرأة الإمساك بالفرصة، وحكمة الاتعاظ بما كان من تجارب الصعود والسقوط، وبغير ذلك نصبح كمن يحاول حشر "فيل ضخم" فى "كيس مخدة!".
بقوة دفع الهزائم جلست مصر بلا مشيئة على مقاعد التبعية، مكتفية بذكرى أيام زاهية، تقدمت وتعثرت، وحاربت وسالمت، وانهزمت وانتصرت، وغيّرت خرائط المنطقة،وقعت فى قبضة الاستعمار، ثم دخلت الصراع العربى – الاسرائيلى وخرجت منه، وفى مسيرها انتصرت على الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وتعاملت مع السوفيتية وتراجعت أمام الأمريكية، ثم هدأت وسكنت، حتى اقتحم المصريون ساحة التاريخ مرة أخرى، فى 25 يناير ثم 30 يونيو.. كل ذلك كان بحثا مضنيا عن طريق للخروج من حلقة الانحطاط الجهنمية. وها هى بوادر الفرصة تلوح وميضا فى الأفق، وتحتاج إلى معرفة الأسباب التى عطلت مسيرتنا فيما مضى.. لماذا؟..لأن "السياسات الطيبة ليست ضمانا أكيدا للنجاح؛ لكن السياسات السيئة ضمان محقق للفشل" هكذا تحدث الرئيس الأمريكى الأسبق دوايت أيزنهاور.وهو رأى يدلل على صحته تاريخ المحروسة المعاصر.
امبراطورية محمد على
كانت الحملة الفرنسية لقاء غير متكافئ بين حضارة قاهرة وحضارة مقهورة، واستفاق معها المصريون من خديعة كبرى أنهم وقعوا ضحية حكم تركى ثيوقراطى اعتصر الشعب – باسم الخلافة الإسلامية- ولم يترك بلادهم إلا جذعا خاويا، وفى عام 1805اختار المصريون محمد على باشا واليا عليهم، برغم أنف السلطان العثمانى. رأى محمد على - من وجهة نظر استراتيجية- أن قدر الكنانة أن تكون دولة مستقلة، نواة ومركزا لامبراطورية عربية، لا "جوهرة فى عنق الامبراطورية العثمانية"، وهذا لن يتحقق إلا بجيش قوى، يكون حجر الزاوية للخروج بمصر من الانحطاط ، ومد نفوذها خارج حدودها وصد الأطماع الأوروبية. أعجب الباشا فى ذلك بدولة "نابليون بونابرت" وتعاليم ميكيافيللى، فأنشأ جيشا وأسطولا حديثا، على يد خبراء أجانب، خاصة سليمان باشا الفرنساوى، لتصبح مصر قوة جبارة عالميا وتوسعت حدودها من جبال طوروس والأناضول شمالا إلى حدود أوغندا جنوبا، وشملت السودان وجميع بلاد الشام وبلدان الجزيرة العربية وجزيرة كريت.
وبنى محمد على للجيش ظهيرا علميا واقتصاديا، أنشأ المدارس والمعاهد العلمية فى كل المجالات والمصانع الحديثة، لإنتاج سلع قادرة على منافسة السلع الأجنبية، وتطوير الزراعة والرى وإقامة الجسور والقناطر، ألغى نظام الالتزام وفرض نظام الاحتكار فى الزراعة والصناعة والتجارة، لكن هذا حرض عليه الرأسمالية العالمية والقوى المحلية المرتبطة بها. كان الباشا رجل دولة نادر الطراز حاد البصيرة رفض سياسة الاقتراض من الخارج برغم حاجته إلى المال، لمعرفته أن المحروسة هدف للهيمنة الأوروبية المتحفزة..مع ذلك فتح ذراعيه لاستقدام الخبراء الأجانب، خاصة أتباع الفيلسوف الفرنسى سان سيمون الذى قامت فلسفته النهضوية، على مبدأ: "إن ازدهار الأمم لن تقوم له قائمة إلا بفعل تقدم العلوم والفنون والحرف"، حيث انتشروا فى الميادين كافة، وسرى تيار النهضة بإرساله البعثات العلمية إلى أوروبا، وأهمها بعثة رفاعة الطهطاوى، لذلك امتدح الزعيم مصطفى كامل جهود محمد علي، بوصفه "باعث القوى الحيوية فى الأمة المصرية الذى ألقى إليها سلاحا تحارب به الجهل والرذيلة ومفتاح التقدم والرقى وآلة المجد والمدنية، أى العلم الذى أحسن استخدامه وتوظيفه، فكانت له الغلبة التى يجب أن تسعى إليها الأمة وإلا قضت على الحاضر والمستقبل".
فزعت القوى الاستعمارية من الحضور المصرى الامبراطورى الجارف فى شرق المتوسط، ونسيت حروبها وخلافاتها العميقة، واجتمعت على مواجهة محمد على وإجهاض تجربته و"عدم السماح بتكرارها"، وقاد جورج بالمرستون وزير خارجية ثم رئيس وزراء بريطانيا هذا التوجه، وسانده الداهية النمساوى مترنيخ، ونسّقا جهودا متواصلة بالتعاون مع روسيا وبروسيا (ألمانيا) وفرنسا، تحت غطاء تركي، للقضاء على محمد على وتدمير الجيش وإضعاف دولته، فى مؤتمر لندن 1840، إلى أن انصاع راضخا لمطالبهم. يرى الدكتور عبدالإله بلقزيز أن الاستعمار أسهم فى إلحاق ضربات قاتلة للمشروع النهضوى العربي.
وفى تفسير ما جرى يتكشف أن الباشا لعب على التناقض بين القوى الكبرى، خصوصا بين بريطانيا وفرنسا، ولم يدرك أنه تناقض ظاهرى لا يمكن الركون إليه، وأن المصالح الاستراتيجية الرئيسية لتلك الدول هى المتحكمة فى قرارها، وتعلو دائماً على المصالح الاقتصادية إذا ما تعارضتا: خاضت الدول الأوروبية حروبا عالمية مروعة، وقاطعت أمريكا الصين 40 سنة.
لكن هل تكفى المؤامرة وحدها لتفسير التاريخ الذى هو "تآمرى" بطبيعته؟!..الثابت أن الثغرة الحقيقية فى جدار دولة محمد على هى الديكتاتورية، جعل نفسه قلب الدولة ومحورها، استبد بالأمر وقهر الشعب، أصبحت مصر دولة قوية لشعب فقير، فسقطت تحت ثقل الضغوط الخارجية، دون أن تلقى مساندة الشعب المقموع الذى رأى فيها (الدولة الامبراطورية) حلما لايخصه، لهذا قال الإمام محمد عبده "إن محمد على كان تاجرا وزارعا وصانعا وجنديا باسلا ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهر ولحياتها الحقيقية معدما". وبينما يرى عباس العقاد استبداد محمد على خيارا أفضل من الفوضى التى سادت قبله، يؤكد الدكتور مسعود ضاهر أن غياب الفكر السياسى الإصلاحى واستفراد محمد على بالحكم "أفقد حركة التصنيع فى مصر ثمارها وقدرتها على تطوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع، وسرعان ما توقف التصنيع المحلى مع خلفائه، لمصلحة استيراد السلع الجاهزة والتكنولوجيا التى استخدمت سلاحا لتدمير نقاط القوة، ولقطع الطريق على ولادة مجتمع عصرى قادر على رد التحدى الأوروبى" ..من الإنصاف أننا لو نظرنا إلى تاريخ محمد على حكمنا دون تردد أنه مؤسس الدولة الحديثة، ومهما عددنا على حكمه من المآخذ- وهى كثيرة وباهظة- فمن المحقق أنه لو لم يتول حكم مصر لظلت ولاية تابعة للسلطنة العثمانية، يتعاقب عليها الولاة الجهلاء.
بوابة الاستعمار
رحل محمد على عن الدنيا بحسرته على تهاوى امبراطوريته وترك من بعده خلفاء ضعافا، تردت أحوال البلاد على أيديهم وزادوها رهقا ، اتسم عهدا عباس الأول وسعيد بسيادة الجهل والتخلف،..ثم جاء حكم الخديو إسماعيل فأوقف تدهور البلاد واستعاد حيويتها، ساعيا إلى جعلها "قطعة من أوروبا" واعتمد على "ذهب المعز لا سيفه" ..امتنع عن الصدام مع الأتراك والدول الكبرى وعمد إلى الوفاق معها ولو بالرشاوى المقنّعة، واستأنف مسيرة البناء والعمران والتعليم وتطوير الجيش والزراعة والنظم الإدارية،وتوسع بحدود مصر جنوبا، وافتتح قناة السويس ومجلس شورى النواب، وقامت صحف، منها "الأهرام".. باختصار كان عهد إسماعيل نوبة صحيان أعقبها نوم ثقيل، شهدت مصر نهضة حضارية، قبل أن تهبط إلى هاوية الدمار والاحتلال، ولم تكن خطيئته سوى القروض "الديون" التى أفضت إلى التدخل السافر فى شئون مصر، فتصدعت سيادتها حتى أصبح الأجنبى الصعلوك "سيدا" على ابن البلد، فى ساحات "المحاكم المختلطة" ، قبل أن تخلع تلك الدول الخديو إسماعيل نفسه من الحكم وتأتى بابنه الخديو توفيق، وسرعان ما سقطت القاهرة فى براثن الاحتلال الانجليزى بالخيانة والخديعة، لتحقق بريطانيا حلم أوروبا القديم بالسيطرة عليها.
والواضح أن مشكلة "الديون" والاقتراض الخارجى كانت دائما "بابا ملكيا" للنفوذ الاستعمارى وتغيير مسارات تاريخنا الحديث حتى تلك اللحظة، بحسب ما رصد المؤرخ عبدالرحمن الرافعى.
قبعت أرض الكنانة تحت نير الاحتلال أكثر من سبعين عاما، قاست فيها الهوان والتراجع والتبعية للغرب ودفعت فاتورة باهظة لتلك المحنة، لكن جذوة الحرية لم تنطفئ فى صدور المصريين – وما كان لها- وجرت فى النيل مياه كثيرة وارتسمت على صفحته مواقف خالدة لزعماء من أمثال أحمد عرابى والإمام محمد عبده ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وطلعت حرب ومصطفى النحاس وغيرهم، خاصة فيما يعرف بالفترة الليبرالية التى شهدت تفتح الأفكار النهضوية التى غرس بذورها رفاعة الطهطاوى وتلاميذه وتعهدها بالرعاية الأفغانى والإمام محمد عبده والنديم والكواكبى وفرح أنطون، وظهرت مع إنشاء جامعة القاهرة، وتبلورت عام 1919 عصيانا شاملا وثورة شعبية كبرى ضد الانجليز، وتجلت بشكل أوضح فى ساحات الفكر والمعارف، على أيدى أمثال طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وأمين الخولى وعلى عبدالرازق وعلى مشرفة وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ، لاسيما ما بين الحربين العالميتين، قاموا يرسمون المستقبل بفكرهم المستنير، ويوفقون بين الموروث الحضارى وما يجب أن يُكتسب من الآخر لتحقيق النهضة، محددين معالم العقد الاجتماعى المأمول. وولد نوع من الممارسة الديمقراطية"المشوهة" بسبب التناحر الحزبى على الحكم، وعصف الملك بالدستور وقبع الجميع تحت الهيمنة البريطانية والامتيازات الأجنبية.
المشروع الناصرى
فى فجر يوم 23 يوليو 1952 أتت الثورة حتمية تاريخية واستجابة ضرورية لأزمة عصية على الاحتمال، بقيادة الشاب جمال عبدالناصر "ابن البوسطجى الذى صار زعيما" ورفاقه من الضباط الأحرار، كان "ناصر" أول مصرى يحكم المحروسة منذ زوال الدولة الفرعونية، فاتجهت همته، ابتداء، إلى تحرير التراب الوطنى من دنس الاستعمار وأعوانه وإقامة العدالة الاجتماعية، ثم إعلان الجمهورية، و توالت إنجازات عبدالناصر فى ظروف حرجة: كسر احتكار السلاح وتأميم قناة السويس وكبح العدوان الثلاثى وتحديث الجيش وتصفية الاستعمار فى المنطقة العربية وأفريقيا والعالم الثالث - قال له تشى جيفارا:"لقد تعلمنا منك كيف نثور"- وإنشاء حركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإفريقية. كان زعامة قادرة على تمثيل وإبراز قامة الوطن وقيمة الأمة ونفخ الروح فى القومية العربية بوصفها أقوى ضمانات الاستقلال الوطنى لكل دولة عربية ، فكانت مصر فى عهده "رقما إقليميا ودوليا مؤثرا"، ووسط ذلك كله انحاز لشعبه بإخلاص منقطع النظير، واتجه إلى التنمية الشاملة بالانغماس فى حركة تصنيع مدهشة، وتغيير البناء الطبقى لصالح الأغلبية المسحوقة، لأول مرة فى التاريخ المصرى، عبر سياسات الإصلاح الزراعى، وبناء السد العالى فى ملحمة وتفان لا نظير له، وبمجانية التعليم والصحة والخدمات العامة ارتفع الشباب فى المدارس والجامعات بأكثر من 300% ، وبتمثيل العمال والفلاحين بالبرلمان، وتمكين المرأة ورعاية البحث والبعثات العلمية والفنون والآداب والثقافة، أُشبعت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعموم المصريين الذين طال حرمانهم, واستطاعت البلاد تحقيق طفرة تنموية من عام 1957 – 1967 بنحو 4 أضعاف ما حققته فى السنوات الأربعين السابقة على الفترة الناصرية، فى إنجاز لا مثيل له فى العالم النامى. كان "ناصر" مثقفا وطنيا وزعيما شجاعا مخلصا..صاحب رؤية واضحة لمشروع نهضة مصر وتقدمها وتحررها - كما قال فى "الميثاق"- "يسكن مكامن الحلم..فى أعماقنا جميعا"، أخرجها من طور القوة الصامتة إلى القوة المؤثرة المهيبة الشأن عربيا ودوليا، وأقام الدولة الحديثة القوية، ولما استشعرت جموع المصريين حجم الفعل والإنجاز، وقفوا معه ضد أعتى القوى وأشرسها.
وعلى الرغم من النجاحات المشهودة للمشروع الناصرى، فإنه لم يسلم من منغصات تركت ندوبا غائرة فى وجه المجتمع المصرى التائق للنهضة، أبرزها غياب الممارسة الديمقراطية الرشيدة، ونكسة يونيو 67 التى كانت ضربة فى الصميم لكل ما تمثله تلك التجربة النهضوية -الأكمل فى تاريخنا الحديث- وسط تآمرإقليمى ودولى متربص، بعد أن سمحت مصر لنفسها بأن تُستدرج إلى معارك خارجية، دون حساب دقيق لمواردها الذاتية ولموارد الأعداء، مما استنزف طاقاتها فى معارك ضارية، بعدما تكالب على عبدالناصر أعداؤه بقوة المال والسلاح، فلم يشفع له حجم المشاعرالدافقة حوله وعدد البشر المؤيدين له.. لكنه ظل شامخا وتحمل المسئولية بشجاعة. كان عبدالناصر تجربة هائلة فى زمننا المعاصر كله، لا يمكن أن تقاس إلا بالتحديات التى واجهتها، وبالخيارات التى كانت مفتوحة أمامها، وإلا أصبح التقييم تعسفا، أصاب الرجل: نعم، وأخطأ: نعم، لكن الإيجابى يفوق السلبى بكثير، ومحصلة أى حساب أمين تعطيه أكثر مما تأخذ منه بفارق كبير، لهذا تستحضره الجماهير الهادرة فى اللحظات الفارقة- بكل ما له أو عليه- حاملة "صورته" رمزا للوطنية، فى القلوب قبل الميادين.
السؤال الأهم
هنا يبرز السؤال الأهم: لماذا حدث ما حدث وما العمل الآن؟ وكيف يمكن إنهاء الانحطاط، وتحقيق النهضة؟. الإجابة قطعا ليست فى سهولة السؤال، فليس هناك وصفة أو منهج ذهبى، أو لاهوت سياسى كفيل باتباعه للوصول إلى التقدم، ورغم هذا فإن الجغرافيا السياسية هى من تقدم مفتاح الإجابة عن ذاك السؤال الممتد بطول التاريخ وعمق الجغرافيا: إن القانون الداخلى لمصر – على مر التاريخ- هو أنها لا تستطيع الحياة المستقلة إلا عبر ارتباطها بالآخرين، وأن البديل الوحيد لذلك هو الهزيمة..شريط مائى طويل بواديه الأخضر الخصيب الضيق، ينبع من قلب افريقيا ويصب فى البحر المتوسط، ليصبح قدر مصر الجغرافى أن تربط بين قارات ثلاث: موقع يكاد يكون أسطوريا بمناخه المعتدل، وصحاريه فى الشرق والغرب مثل بوابة ذات وجهين، أحدهما يغرى بالانكفاء على الذات والانكماش على النفس، والآخر يغرى بالغزوات والهزائم. إن أم الدنيا هى "فلينة الزجاجة" التى تحتوى على ثروات الشرق الأوسط ، مما يجعلها "خصما" للطامعين فى تلك الثروات، ينبغى قهره قبل تركيع المنطقة، وكانت استجابة محمد على واضحة على هذا التحدى، عبر توحيد أراضى العرب حول دولة واحدة حديثة قوية، أى حول مصر تحت حكمه، لتحقيق النهضة ومواجهة هجمات الغرب، ومثله فعل الخديو إسماعيل، وعبدالناصر أيضا، وإن اختلفت الأدوات.. وفى التجارب الثلاث، دخلت القوى الغربية جميعا دون استثناء فى تحالف استراتيجى، لمواجهة التحدى المصرى، ومحاصرة هذا المركز الناشئ من مراكز القوة العالمية عام 1840، وصولا إلى احتلالها عام 1882، وهزيمتها فى يونيو 1967، وفرض الهيمنة الاستعمارية على المنطقة إلى الآن، نظرا لموقعها الاستراتيجى المتميز على الخريطة الجيو-سياسية وخطوط التجارة الدولية، والثروات الطائلة فى أراضيها، فحاربت بشدة وجود جيش عربى قادر، ومنع قيام وحدة أو دولة عربية قوية، بوصفه تهديدا لمصالحها الحيوية، ودعمت ولادة المشروع الصهيونى على أرض فلسطين، عقب تآمرها على محمد على وانهياره، ومازالت تدعم هذا المشروع حتى الآن، لإبقاء العرب فى دائرة التخلف والتجزئة والتبعية.
كثيرة هى مسببات التراجع والانحدار التى يمكن أن نستنبطها من قراءة كتاب "صعود وسقوط القوة العظمى" للمؤرخ الأمريكى بول كيندى، لكن الحالة المصرية تحتفظ بخصوصية ذات مغزى، فالخطأ القاتل الذى قوض الحكم العلوى وهزم تجربة عبدالناصر ليس التمدد الامبراطورى إنما استبعاد المشاركة الشعبية وغياب الديمقراطية وتدجين الشعوب، مما أوجد لديها ما سماه الفيلسوف الجزائرى مالك بن نبى "القابلية للاستعمار". كانت مصر بناء هشا مزقه الاستبداد، وهو خلل مزمن تحركت الجماهير فى 25 يناير و30 يونيو لتصويبه، وأطاحت بالاستبداد المباركى ثم الإخوانى الفادح ، ولم تعد تقبل أى رئيس لا ينحنى لإرادة الشعب، لكن الثورة وضعت "المحروسة" فى مفترق طرق حاد ومحير، وهى تلهث لتعويض النزف الرهيب الناجم عن سنوات الضياع، وهذا عامل جوهرى دون شك فى فوز عبدالفتاح السيسى بالرئاسة باكتساح، بمعنى أن غالبية المصريين تثق بقدرته على تحقيق الأمن والاستجابة لسقف تطلعاتها المشروعة والكثيرة فى العدالة الاجتماعية والتنمية والكرامة الإنسانية، فى أقل مدى زمنى وبأوسع إطار جغرافى، ناظرين إلى ما طرحه حول استراتيجية "الخطوط المتوازية"، وهنا يتوجب على القيادة الجديدة أن تستخلص الدروس من التجارب الماضية، قبل الشروع فى إنجاز التنمية.
يدرك الرئيس السيسى أن المعارك لا يربحها المشاة، وإنما تحسمها خطط الجنرالات الجريئة والذكية، وأن التنمية الشاملة المستديمة أولى ضرورات النهضة بقصد التحرر من التبعية والاستغلال، بوصفها امتدادا طبيعيا للاستقلال السياسى والاقتصادى، يستدعى حتما التقدم العلمى والثقافى والرفاهية لعامة الناس باطراد، بتنمية قدرات البشر وتطوير نظام اجتماعى سياسى رشيد، يضمن مشاركتهم الفاعلة فى الإنتاج واتخاذ القرار ونصيبا عادلا من الخدمات والثروة، ويرتهن هذا بحزمة شروط ومتطلبات، نذكر منها – مثلا لا حصرا- التركيز على بناء الإنسان وضمان الديمقراطية و تحديث الاقتصاد والجيش ومنظومة التعليم والبحث العلمى والتكامل العربى...إلخ.
بناء الانسان وضمان الديمقراطية
إن الإنسان هو أهم ركائز التنمية ، لذا يأتى الاستثمار فى تطوير مهارات العنصر البشرى ضربة البداية للشروع فى النهضة والسير فى دربها، ومؤشر التنمية البشرية هو مقياس للتنمية التى تحقق إنجازات فى الصحة والتعليم والنمو الاقتصادى والحكم الرشيد والديمقراطية وسيادة القانون، وقد فشلت تجارب النهضة عندنا لما أغفلت قيم الحرية والعدالة لمصلحة الأمن والاستقرار، وبغير ذلك يصبح الأمر كله مجرد "ستار دخان" للتغطية على فشل كبير، لقد قامت فكرة التنوير والنهضة فى أوروبا لتخليص الفرد وإسقاط الوصاية والاستبداد الدينى والسياسى على عقل المجتمع وتطوره، بالأساس، على نحو ما فسره الفيلسوف "كانت" فى رسالته المشهورة حول التنوير أو "الأنوار"، حيث إن بناء الفرد والحفاظ على حقوقه هى أقصر الطرق وأكثرها ديمومة للخروج بالمجتمعات من ظلمات التخلف إلى أنوار التقدم، وحتى لا يكون الكلام مجردا، ننظر مثلا إلى دولة مثل اليابان بدأت تجربتها النهضوية بعد محمد على، فى عصر الامبراطور ميجى، ثم تعرضت لنكسة ماحقة بلا مثيل، إذ تم تدميرها وقصفها بالسلاح النووى فى الحرب العالمية الثانية واستسلمت لإعدائها دون قيد أو شرط، لكنها لم تلجأ إلى "الجهاد الأفغانى" أو تكوين تنظيم "القاعدة" أو "أنصار بوذا" مثلا، إنما قبلت التحدى وتوافقت نخبتها الواعية مع أجهزة الدولة، على خطة حضارية واضحة المعالم والغايات، عمادها " الارتقاء بالإنسان"، تقوم على مزيد من تجويد التعليم والبحث العلمى والصحة، والالتزام الصارم بجودة العمل، لإدراكهم تمام الإدراك أن "الفرد اليابانى" هو رأس مال المجتمع، وأن توقفهم عن العمل يعنى أن بلدهم سيتوقف عن الوجود، فلم تمض 4 عقود على نهاية الحرب إلا واليابان ثانى أكبر اقتصاد فى العالم فيما يعرف ب"المعجزة اليابانية"..
يعيش المصريون واقعا مترديا على كل المستويات يذكر بأحوال الهنود صبيحة الاستقلال، حتى قال نهرو" مؤسس الهند الحديثة: "لقد وصلت الهند حدا شديدا من الفقر يدفعنا إلى الإسراف فى الإنفاق على التعليم"، وبالفعل تغيّر وجه الهند عن طريق الارتقاء بالتعليم وبالديمقراطية الحقيقية. وكم كان الرئيس السيسى موفقا حينما أشار - عقب إعلان نتيجة الانتخابات- إلى شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية"، أى أنه لا مساومة ولا تفريط فى رعاية الدولة لحقوق الإنسان وحريته وكرامته، خاصة أن المصريين لن يساوموا على ذلك، فى السابق سقط "الحلم المصرى" لأنه كان "حملا خارج الرحم" رحم الشعب الذى يؤمن به ويرعاه مهما يكن حجم الفتن والمؤامرات، الوضع اليوم مختلف فالشعب هو القائد والمعلم.
تحديث الجيش
أدرك الشعب المصرى فى وقت مبكر مأزقه التاريخى وهو أنه وريث حضارة مقهورة وعليه أن يناضل قهرا مزدوجا فى الداخل والخارج، واكتشف أنه لا يستطيع مواجهة أعدائه، إلا بأدواتهم إذا أرادوا دخول العصر الحديث، ولعل الوقائع التى مرت بنا، بحلوها ومرها، من محمد على إلى أحمد عرابى إلى جمال عبدالناصر تضع أيدينا على جملة أشياء، منها أن الجيش المصرى هو"المؤسسة الوطنية" التى ولدت فى بداية معركة النهضة الأولى، وثارت وتطورت فى المعركة الثانية، واستأنفت الحكم ونضجت فى المعركة الثالثة يوليو 1952، ثم أثبتت جدارتها الوطنية الراسخة فى المعركة الرابعة 25 يناير و30 يونيو، ولذلك كان هذا الجيش هدفا للتآمر الرجعى الداخلى والاستعمارى الخارجى. وهو حجر الزاوية فى بناء مصر الحديثة يقف مع النخبة الوطنية فى طليعة التغيير، يبلور عموما طموحات الشعب من ناحية ويجسد فكرة "الوطن" من ناحية ثانية. وقد كشفت الأحداث الأخيرة والتلويح بقطع المعونة الأمريكية وحجب الأسلحة وقطع الغيار عن الجيش عن أن عمليات التطويق مستمرة على قدم وساق لإبقاء مصر فى دائرة التحالفات مع الغرب، وتحييد دورها، ومنعها -فى أى وقت وتحت أى ذريعة وبكل الوسائل- من اتخاذ أى عمل رئيسى لتغيير ميزان القوى بالمنطقة، وخلق "توترات رهيبة" بين مصر وغيرها من الدول الشقيقة والصديقة: إثيوبيا والسودان وليبيا ..إيران وتركيا، لإلحاق الضرر الشديد بمصالح مصر وهذه الدول معا، وكان هذا مقصدا أساسيا من غرس إسرائيل وتدا فى قلب المنطقة العربية، بما يفرض تحديث جيشنا تدريبا وتسليحا وتنظيما وتطوير الصناعات العسكرية، وتعزيز التعاون الاستراتيجى إلى أقصى حد مع دول الخليج العربية والجزائر وغيرها، وفتح خطوط اتصال مع القوى الكبرى، كروسيا والصين ، التى تتفهم مطالبنا فى كبح مهددات الأمن القومى، مع تجنب الانجرار إلى أى مغامرات إلا بحقها، دون أن يغفل المصريون – يفعلون ذلك كثيرا- أن القسم الغالب من متطلبات أمن بلدهم تبقى خارج الحدود، فالمياه مصدر الحياة والوجود تأتى من مسافات بعيدة خارجها.. إن مصر باعتبارها كائنا حيا "توجد أمعاؤه خارج جسمه"، بسبب تقزيم حدودها، تعانى اختلالا رهيبا نتيجة عمل استعمارى غربى، إنها مأساة ينساها بعضنا، لأن المحروسة قبعت أسيرة للقوى الاستعمارية أكثر من 3 آلاف عام من تاريخها السبع ألفى، بما يجعلها أطول "مستعمرة فى التاريخ"، مأساة تزيح الغطاء عن فداحة الخيانة والجرم الذى ترتكبه جماعات العنف والإرهاب بحق الوجود المصرى عندما تهاجم الجيش معنويا أو ماديا، وتبغى نشر الخراب فى بر المحروسة. لهذا حذر الدكتور جمال حمدان من خطورة جماعات الإسلام السياسى على الأمة، لأنها "وباء دورى يصيب العالم الإسلامى فى فترات الضعف السياسى أمام العدو الخارجي"، متهما الغرب الاستعمارى بأنه "أكثر من وظف الإسلام سياسيا، للهيمنة على العالم الإسلامي، واستغلاله وتسخيره لأغراضه الإمبريالية العليا واستراتيجيته الكوكبية العدوانية"، وكأن الراحل حمدان ينظر عبر الحجب إلى تنظيم الإخوان والقاعدة وأذرعهما وعلاقتهما بالغرب، وما جرته على المصريين والعرب والمسلمين، من تقليص للقدرة وتضييع للهيبة، ومن هنا تنبع أهمية دعوة السيسى لتجديد الخطاب الدينى.
الاقتصاد القوى
الوعاء الوحيد الكفيل بتحقيق أى اختراق تنموى هو الاقتصاد، ومعلوم أن الاقتصاد المصرى تعصف به معضلات منها: عجز الموازنة والتضخم والبطالة والديون..، قال لى الدكتور سمير رضوان وزير المالية الأسبق: "إن 26% من المصريين فقراء، و20% مهددون بالفقر، وعجز الموازنة بلغ 14% من الناتج العام، والدين العام وصل 100% من الناتج القومى".
وبرغم الجراح النازفة فإن الفرصة قائمة لنقلة نوعية تكون قاطرة لنهضة حضارية شاملة، محورها بناء اقتصاد المعرفة وإصلاح مالى وهيكلى جاد فى بنود الموازنة والدعم، جذب الاستثمارات الحقيقية والحد من الاقتراض وإقصاء الفاسدين وورثة "انفتاح السداح مداح" الذين باعوا مصر لأنفسهم وللغير، زمرة لا تبتغى فى مسعاها أكثر من الهيمنة والاستئثار بالثروة والسلطة مهما كان الثمن والضحايا . أما الأهم فهو تدشين عملية تصنيع متقدم، أى الصناعة ثم الصناعة ؛ فكل تجارب الدول التى حققت تقدما، شرقا أو غربا جنوبا أو شمالا، اعتمدت التصنيع آلية لإنجاز هدفها.
لقد أفضى عدم تحديث الصناعة إلى "بوار" الامبراطورية الأسبانية، مع أنها هى أول من استهل عصر النهب للمستعمرات فى الأمريكتين، فلما جفت منابع الذهب فى مستعمراتها غرقت أسبانيا فى "الديون" وتقهقرت، بعكس بريطانيا-مثلا- التى دفعتها الثورة الصناعية إلى قمة القوة والسيطرة العالمية، ولعبت "الثقافة" دورا فى ذلك، فقد امتلكت بريطانيا ميزة مبكرة كونها أمة أى وحدة واعية بذاتها تتميز بهوية مشتركة وبالمساواة فى الوضع المدنى بين أبنائها، منذ صدور "الماجناكارتا" عام 1215، وتكريس قيم العمل المثابر والجدية والأمانة، بحسب مارصد "ماكس فيبر" فى كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".. وقد اطلعت على صواب هذا الرأى، عبر لقاءات مع عدد من خبراء الاقتصاد، مثل: د حازم الببلاوى ود سمير رضوان وغيرهما، إذ أجمعت الآراء على أن التصنيع هو "ترياق العافية" لتنشيط الخلايا الحية وإطلاق الطاقات الإنتاجية فى المجتمع وفق رؤية كلية، تتزامن مع تحديث الزراعة والتجارة والبنية التحتية والخدمات والسياحة ..إلخ، رأسيا وأفقيا، والخروج من الوادى الضيق إلى الصعيد ومحور القناة والساحل الشمالى وسيناء.. فلن تطور مصر اقتصادا متقدما اذا واصلت الاعتماد على شراء مهارات الآخرين (سلعهم) بدلا من أن تتعلم صناعة الأشياء بنفسها، وهذا ليس جديدا فقد غرس عبدالناصر بذرة التصنيع فى مصر ومازال القطاع العام، برغم فساد الخصخصة وسوء الإدارة، يسد جانبا من احتياجات البلاد الأساسية، ومن هنا ينبغى التركيز على صناعات أكثر إلحاحا- استراتيجيا- كالأدوية والصناعات التحويلية، والآلات والمحركات "النموذج الهندى"، أو التى نملك فيها ميزة تنافسية كالإلكترونيات والاتصالات والتصنيع الغذائى "النموذج الكورى والماليزى والإندونيسى"، أو لوجستية صناعة السفن والحاويات وتداولها "النموذج السنغافورى".. الأساس فى ذلك هو عدم تقليد الآخرين عشوائيا، إنما استنباط ما يلائم واقعنا واحتياجاتنا، "فليس المهم لون القط، المهم أن يصطاد الفئران" بعبارة "دينج لى شياو بنج" صانع نهضة الصين- بقواها الذاتية- منذ سبعينيات القرن الماضى، لهذا عندما نعجب بتجارب النمور الآسيوية، علينا أن نتذكر حقيقة أنه يمكن الاستفادة منها كنموذج يحتذى، لكن لا يمكن استنساخها أبدا، لارتباطها بالسياقات الثقافية والاجتماعية التى أنتجتها، بدليل أن بعض القادة العرب استوردوا المصانع والخبراء من الشرق والغرب وزرعوها فى الجسد العربي، لعلها تنبت تقدما ونهضة، ولكن وقع العكس، لأن شروطها لم تكتمل فى المجتمع، فالنهضة نبات حساس لا ينبت فى تربة أى أمة إلا بشروط ، إذا اختل منها شرط تمرد وأبى الإنبات.
كسر الحصار التكنولوجى
تعانى مصر – والدول العربية- انكشافا استراتيجيا خطيرا، للتدهور الواضح فى ميادين العلم والتكنولوجيا، وهو تدهور مريع يعتبر "كعب أخيل" أو نقطة الضعف فى بنية الأمن القومى، نتيجة تدهور المنظومة التعليمية والقيود الخارجية المفروضة بإحكام على نقل وتوطين التكنولوجيا الحرجة والمتقدمة بمصر، وهنا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بين الانحطاط والازدهار، لأن النشاط البشرى يعتمد على استيعاب العلم والتكنولوجيا: إنتاج الغذاء وشفاء المرضى والدفاع عن الوطن كل ذلك يعتمد على حيازة تطبيقات العلم والتكنولوجيا والتكيف معها وابتكارها وصناعتها وتشغيلها، وهى قوة هائلة تدعم التغيير والرفاهية، ومن ثم فإن تخريب الرأسمالية العالمية تجربتى محمد على وناصر، جرى لمنع مصر من أن تصبح موردا للسلع والمعارف والتكنولوجيا، والإبقاء عليها مستهلكا صرفا ، وبقى البعد التكنولوجى حاسما فى مسيرة ذلك التحدى الحضارى.
ويكفى الوعى بأن قوة إسرائيل مرهونة بعجز مصر والعرب عن تطوير منظوماتهم العلمية والتكنولوجية، وبمثل هذا فقط أمكن لإسرائيل الحفاظ على تفوقها علينا، فوفقا لإحصاءات اليونسكو تحتل إسرائيل "المرتبة الأولى" عالميا فى نسبة الإنفاق على البحث العلمى نحو 5% من الناتج القومى، بما يفوق الدول العربية مجتمعة، ينبع هذا من إدراك باكر بطبيعة التحديات والصراع العربى- إلاسرائيلى ، يلخص ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء المؤسس للدولة العبرية الأمر بقوله:"العرب يتفوقون علينا فى مجالات القوة الشاملة، باستثناء البعد التكنولوجى، وعلينا أن نسلك أقصر الطرق التى تؤدى إلى قلب هذه المعادلة" أى معادلة النوع الإسرائيلى فى مواجهة الكم العربى. المدهش أن عبدالناصر أكد يوما :"أن التخلف هو الشيء الوحيد الذى يضمن البقاء لإسرائيل على أرضنا". إن الضعف العربى هو ما حولته اسرائيل إلى قوة لها، وإخفاقنا فى تطوير إمكاناتنا الهائلة هو الحليف الأكبر لها، وانفرادها وآخرين فى المنطقة بالقدرات العلمية الحساسة – تكنولوجيا النووى والفضاء والأسلحة المتطورة،..- يترك العرب ذاهلين أمام تهديدات لاتحصى، وهذا ليس سوى جانب من الصورة، إذ توظف إسرائيل بمهارة تقدمها التكنولوجى فى التأثير على القرار السياسى للآخرين وجذب الحلفاء وتخويف الأعداء، والتمدد فى بقاع جديدة – الصين والهند وافريقيا، مثلا- بالإضافة إلى المردود الاقتصادى والسياسى. إنه خلل جسيم فى التوازن الاستراتيجى لاتملك مصر إزاءه إلا كسر الحصار المفروض عليها معرفيا وتكنولوجيا، بوصفه البعد الذى تتكثف عنده بقية أبعاد التحدى الحضارى، وتمثل "الفجوة التكنولوجية" بين العرب وأعدائهم قمة جبل الثلج الظاهرة لموازين القوى، ويمكن أن تقدم "التجربة الإيرانية" نموذجا فى الإفادة من "حالة الحصار"، لتعزيز القدرات الذاتية وتطوير الصناعات العسكرية، وهذا هو الجانب "المشرق الوحيد" فى تجربة الملالى. فالإخفاق ينبت من الداخل، والأعداء الأساسيون للمصريين هم: الجهل والتخلف والفساد والمحاباة والدولة الرخوة وغياب الإدارة الجيدة وسيادة القانون، وهنا نعود لفكرة "الإنسان"، فالتكنولوجيا الحديثة لن تؤتى ثمارها المرجوة دون استثمار ضخم فى خلق طبقة مثقفة ماهرة جديدة واستعادة الطيور المهاجرة وبناء المؤسسات والمشروعات العلمية المرتبطة بالأهداف العليا للدولة المستقلة ولعلاج مشكلاتنا الراهنة، وربما يكون الإسراع بتدشين المشروع النووى المصرى علامة فارقة على بداية وعى جديد فى هذا السياق- فأينما يوجد العلم تشع الحضارة- مع البحث عن سبل للتكامل الاستراتيجى للقدرات الشاملة للبلدان العربية، بوصفه ضرورة لتحقيق الامن القومى العربى.
التكتل العربى
ومن المؤكد أن استقلال مصر وحداثتها لا يتحققان إلا عبر ارتباط وثيق بالعالم العربى، لأن العروبة من زاوية الجغرافيا السياسية تؤمّن حدود مصر الاستراتيجية وقد برعت القاهرة طيلة القرن الماضى فى مزاوجة زعامتها الاقليمية مع مفهوم العروبة،عن طريق دورها الوحدوى والتنموى والدفاعى والتحريرى، وبهذه المزاوجة أزاحت ايران وتركيا واسرائيل من معترك منافستها.كما تعنى العروبة أيضا تقدما فى الأسس المادية لنهضة المجتمع، أما انكفاء مصر داخل حدودها، فمآله الحتمى هو الهزيمة العسكرية والتخلف الاقتصادى والانحطاط الفكرى، ومن ثم سيادة الاستبداد والديكتاتورية، لذلك أسهمت جماعة الإخوان نظريا وعمليا فى السقوط النهضوى عبر 80 عاما، بحربها ضد القومية العربية ووضعها فى مواجهة الإسلام- منذ رشيد رضا وحسن البنا- وهو ما انكشف بعنف فى اللحظة التاريخية الحالية، فى موازاة بروز المساندة والالتحام العربى المادى والمعنوى (خصوصا الخليجى) ركنا فى نجاح الثورة على مخططات الإخوان ودعاوى الفوضى الاستعمارية، وليس من قبيل المن ولا هو من قبيل الأذى أن نذكر دور "الكنانة" فى تحمل تبعات كثيرة نيابة عن أمتها -الصراع العربى الاسرائيلى، مثلا- لكن مصر كقاعدة متميزة للزعامة العربية ليست كافية فى حد ذاتها، وبات من المحتم العمل على إخراج النظام الإقليمى العربى من حالة الشلل الضاربة فيه، وصوغ نوع جديد من العلاقة بين مصر والدول العربية الرئيسية الأخرى، كالسعودية والإمارات والجزائر وغيرها، ومد جسور التواصل مع القوى الإقليمية والدولية الراغبة، لتغيير نسق القوة العالمى بنيويا، بحثا عن مستقبل أفضل وفاعلية أكفأ، فى عالم تحكمه المصالح قبل أن توجهه المبادئ، وتردعه القوة قبل أن يحرجه الحق، وإلا أصبحنا كمن "يمص الزلط" متلمسا رشفة رطوبة تطفئ نار العطش فى حلقه، وما ينطبق على العلاقات المصرية- العربية يصح أيضا على علاقاتها الأفريقية، وربما أكثر، خصوصا فى حوض النيل.
فى آخر المطاف
قال مولانا جلال الدين الرومى:" الأمم تموت عندما لا يصبح بمقدورها أن تميز بين الحق والباطل" وهى كالرجال لكل منها قدرها، والشعوب القادرة حين تحاسب نفسها، لاتفعل ذلك بقصد التفجع والندم على ما فات، لأن حركة التاريخ زمان غير قابل للاستعادة، والبكاء على اللبن المسكوب نقصان فى العقل، إنما تهدف للمراجعة والفحص حتى تعود من جديد إلى مجرى الحياة، وسط مشاق وأشواق متدافعة تطلب الرقى والرفعة، وتوفر الشعوب لنفسها حق الاختيار إذا أحسنت التقدير، وتلك بالضبط مهمة السياسة بوصفها فن إدارة المجتمعات، بتوظيف إمكانات طاقاتها ومواردها وموقعها، لتحقيق طموحاتها فى الحاضر والمستقبل، ويتسق هذا مع رأى الأمير شكيب أرسلان:"الأوطان لا تصير عزيزة، والأقوام لا تكون محترمة إلا إذا بنيت الإدارة على العدل، ودارت السياسة على محور العقل وفى هذا كفاية"، لأجل ذلك ينبغى أن نتقدم بوعى وبصيرة، ربما نقع ونتعثر، ثم ننهض من جديد، لأننا نعلم جيدا أننا نصعد جبلا شاهقا حافلا بالعثرات والمهالك، لكن لامفر من صعوده فى سبيل نهضة مصر ورفعتها لتكون "نمرا" قويا على شاطئ النيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.