لا تفصلنا سوى أيام عن الاحتفال بمرور 1045 عاما على إنشاء القاهرة الجميلة الساحرة التى ننسبها إلى المعز لدين الله الفاطمى وقائده جوهر الصقلي. وقبل أن نقول لماذا: القاهرة، هل لأنها فعلا قاهرة الأعداء. أم أن النجم القاهر فى علم التنجيم كان فى السماء حين قرروا البناء، أم أن هناك مدينة كان يعرفها الفاطميون بهذا الاسم وكانت من وجهة نظرهم الخاصة باب خير ورخاء؟ لابد وان نذكر أن القاهرة هى المدينة التى لا يعرف لها أول من آخر بحكم طبيعة موقعها، فسريعا ما طالب الفاتحون الأوائل الذين جاءوا فى معية عمرو بن العاص ببناء دور ثان لبيوتهم، وهذا ليس بالشئ المستغرب فالفسطاط عاصمتهم الأولى سرعان ما عمرت بالبشر والدور والأسواق. ولم يفلح دور ثان ولا حتى خامس مع الفسطاط ثم القطائع، فهى القاهرة التى يكفى لوصف حالها ما قاله ابن خلدون عندما أراد المعيش فيها «سألت صاحبنا قاضى القضاة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقرى كيف هذه القاهرة؟ قال: من لم يرها لم يعرف عز الاسلام.. وسألت الفقيه الكاتب أبا القاسم البرعى فقال: إنها أوسع من كل ما يتخيل فيها». ومع ذلك فالمدينة لها أبواب حددت بداياتها الأولى وكانت رمزا للأمان، وفيها أسبلة حيث لم نعرف إنسانا عاش بها ظمآن أو جائعا وبيوت نعيش فى حمايتها. وهذه كانت البداية التى شهدت توسعات كبيرة لاحقة لعل اشهرها ماكان فى زمن الخديو اسماعيل الذى جعل منطقة وسط البلد منارة بحدائقها وشوارعها. فى هذا العدد ننشر الحلقة الأولى عن القاهرة القديمة ونتناول فيها أبوابها. ونوالى النشر بإذن الله فى الأعداد القادمة عن أسبلة القاهرة وبيوتها الأثرية إلى جانب سلسلة « بلد النبى محمد» الأبواب كانت البدايه ! وجدي رياض عندما وطأت أقدام الفاطميين الأرض المصرية قادمين من الشمال الإفريقى كان المعز لدين الله الفاطمى قد رسم صورة للمدينة التى سوف يحكمها ووضع لها الأبواب والأسوار التى تحميه وأسرته وحاشيته وحرسه. وكان المعز يزمع للاقامة فيها ليبسط أركان حكمه ويحمى قومه والقبائل الذين كانوا فى صحبته، فبنى القاهرة، وكان قائده جوهر الصقلى يدخل بجيوشه مصر لتتحول مقرا للخلافة الفاطمية، مما دفعه إلى بناء الطوابى والأسوار والأبواب، وكانت تمثل الاتجاهات الأربعة، وكانت الأبواب تغلق فى المساء على المعز وعشيرته، وغير مسموح لأحد من المصريين أن يدخل من تلك الأبواب إلا بإذن من الخليفة الذى سيطر على مساحة 400 فدان، يتحكم فيها ثمانية أبواب هى: الفتوح والنصر والبرقيه والقيراطين، والفرج وسعادة، وزويله. ومرت ثمانية عقود حتى جاء بدر الدين الجمالى وإليه نسبت الجمالية فأدخل توسعات من الشمال والجنوب، وتم تخطيط القاهرة التى كانت عبارة عن حدائق وبساتين، واتسع نطاقها وكانت آخر حدودها مرتفعات الدراسة التى تطل على أسوار القاهرة المشيدة بالطوب اللبن وبلغ عرض جدار السور مترين وكان يتحكم فيه من الشمال بابان هما الفتوح والنصر، ومن الشرق بابان هما البرقية والقيراطين ومن الغرب بابان هما الفتوح وسعادة، ومن الجنوب بابان كلاهما باسم زويلة، وهناك أبواب يذكرها التاريخ واندثرت مثل أبواب البرقيه، القيراطين، البحر، القنطرة، الوزير، المدرج، الجديد، الوسطاني، بالإضافة إلى النصر والفتوح وزويله والسعادة. هذه الأسماء نسبت لأسماء القبائل التى رافقت الجيوش الفاطمية والأقوام الذين فى صحبتهم، وكان يربط بين البوابة الشمالية والجنوبية شارع بين القصرين ومنه استلهم الكاتب الراحل نجيب محفوظ أحد اجزاء الثلاثية «بين القصرين» ومعها قصر الشوق والسكرية وكان شارع بين القصرين هو الشارع الرئيسى فى عاصمة الفاطميين. تأثرت أسوار القاهرة بعوامل التعرية والرطوبة... وجاء أمير الجيوش بدر الجمالى إبان حكم الخليفة المستنصر بالله وشيد ثلاثة أبواب جديدة هى النصر والفتوح شمالا وزويله جنوبا وتميزت عمارة أبواب الأمير الجمالى بأنها ضخمة وارتفاعها 20 مترا، واستخدم فى بنائها كتلا حجرية فى صفوف منتظمة بلغت 40 صفا. وتجملت السقوف بنقوش وخطوط آية فى الجمال بعض آثارها مطموس والآخر أكله التلوث، ونقشت على الجدران بعض الشعارات الدينية محاطة بقباب ونقوش، وتعد هذه النقوش من أقدم ما عرفته العمارة الإسلامية. وكان هناك طريق آخر ينافس بين القصرين فى القاهرة الفاطمية، يربط بين أبواب المدينة من الشرق إلى الغرب، أى من باب البرقية إلى باب سعادة «درب سعادة الآن». وتم تقسيم القاهرة إلى أحياء أو حارات مثل زويلة والجودرية والباطنية والبرقية والروم وبرجوان وأراد الجمالى توسيع القاهرة فأزاح الأسوار إلى الخلف 150 مترا من ناحية الشمال والجنوب، وفى هذا الوقت كان هذا العمل شاقا ويعتبر عملا معماريا كبيرا. وعندما تقترب من الأبواب الأربعة الباقية من يتصدر هذه الأبواب باب النصر وهى أول بوابة أعادها بدر الدين الجمالى ضمن جدار السور العظيم سنة 1087 وقد رصع الباب بنقوش منحوتة فى الحجارة، وطول ممر البوابة 21 مترا، ومسقوف فى جزء منه بقبوة بين الحجارة اسطوانية ونصف دائرية وفى جزء آخر متعارضة الأبواب كانت ضخمة وتعكس الثراء الذى يحيط بحكام هذه الحقبة، فكان ارتفاع الأبواب عاليا تزينه زخارف بارزة ومنحوتة ويتوسطه لوحة حجرية منقوش عليها ثلاثة أسطر من كتابة دينية بالخط الكوفى . هذه النقوش كما يوضح خبراء الآثار والعمارة تعد من أقدم الأمثلة المعروفة للعمارة الإسلامية فى القاهرة... وبلا مبالغة قد تكون الأقدم فى تاريخ العمارة كلها. أما باب الفتوح فقد جدد فى نفس السنة، ويختلف شكلا عن باب القصر ويزيد ارتفاعه عن باب النصر (23 مترا)، وتبلغ مساحة الفضاء بين برجى الباب سبعة أمتار ونصف المتر وقد زينت جدرانه بعقدين نُحتت حجارتهما على شكل وسائد صغيرة متلاصقة ظهرت لأول مرة فى تاريخ العمارة... وكان وجه الباب عامرا بالنقوش، وبالأبراج وأشكال زخرفية. وبعد 5 سنوات جرى بناء الباب الثالث: باب زويلة الذى اعدم عليه السلطان قطز رسل هولاكو وشهد مقتل طومان باى عند دخول العثمانيين مصر.. وتغيرت معالمه فحملت صبغة ورؤية الحاكم السلطان الأيوبى «الملك الكامل» عندما هم ببناء مسجده وقد طمس الإهمال والزمن والتلوث معظم المعالم الزخرفية بواجهة البوابة. والمحزن أن الخبراء يقولون إن البوابات الثلاث النصر والفتوح وزويلة من أروع ما ورثته الآثار الإسلامية من العمارة إبان هذه الحقبة وليس لها نظير ولا تنافسها بوابة أخري، فى تاريخ العمارة الإسلامية. يبقى باب التوفيق، وهو الباب المنسي، وأقامه بدر الجمالى فى نفس توقيت بناء بابا الفتوح والنصر... وهو يختلف عن نظيره لأنه يحمل اسم الباب واسم منشئ الباب وتاريخ انشائه فالنقش يقول «أمير الجيوش أبو النجم» بدر المستنصري، فى عهد الخليفة المستنصر بالله، فى المحرم سنة ثمانين وأربعمائة (480) هجرية، وقد كشفت عنه هيئة الآثار عام 1955 عندما أرادت إدارة البلدية بالمحافظة إزالة كيمان البرقية بالدراسة. وإذا كانت كل دول العالم تكتشف آثارها وتبنى متاحفها تعرض ما اكتشفته، فإن مصر بلا مبالغة عبارة عن متاحف مطمورة تحت الأرض لم تكتشف، ومتاحف مفتوحة مثل القاهرة الفاطمية والأقصر وأسوان وإسنا وإدفو وكوم امبو، تراها وأنت تعبر الطريق إلى عملك أو منزلك... ربما الثراء الذى يحويه باطن الأرض من كل الحقب التاريخية من قدماء المصريين عبورا بالعصور المختلفة قبل ظهور الأديان السماوية، فتح منازل كل سكان الأقصر وأسوان وبعض محافظات وجه قبلى وبعض مناطق القاهرة وتحديدا القاهرة الفاطمية... فعصور مدفونة تحت الأرض تكتشف بالمصادفة أثناء الحفر. لقد أصبحت مصر مصابة بتخمة من الآثار لكل العصور عبر سبعة آلاف سنة، وتكدست المتاحف بالآثار، فلم تعد متاحف بل مخازن، وإذا كانت مصر لديها متاحف رومانية وإسلامية وقبطية وفرعونية، فإن متاحفها المفتوحة إبان حكم الفاطميين والعباسيين والأيوبيين مازالت شاهدة على العصر مثل حصون وقلاع وأسوار ومارستانات ومساجد وسبل وخنقاوات ودور عبادة وقصور.