من الأصول المنهجية أن نحدد المصطلح الذى نعرض له, ومصطلح الرقم معناه: (الكتابة) عموما, ورقمت الكتاب: بينته بالنقط والحركات, ويتصل مفهوم الرقم بمفهوم (العدد), وقد كثرت الدراسات التى تناولت الأرقام وعروبتها أو هنديتها من العلماء وهو ما نسعى للإفادة منه فى هذا المقال. بدأت كتابة الأرقام العربية بالكلمات: (واحد اثنين ثلاثة) يقول الكتاب الكريم فى سورة الكهف: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم», ثم تحولت الكلمات إلى نوع من الرمز , فكل حرف يرمز إلى رقم محدد اعتمادا على (الأبجدية : أبجد هوز) فالألف تساوى (1), والباء تساوى (2) وهكذا , وذكر الجاحظ أنه كان هناك نظام للحساب بتحريك الأصابع اسماه (العقد), ثم جاء التطور الأخير الذى استقر عليه المجتمع العربى حتى اليوم , وهو الأرقام العربية: (1- 2- 3) إلخ, وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسي: (أبو جعفر المنصور) عندما طلب من عالم الفلك: (إبراهيم الفزاري) ت 180 ه أن يبتدع نظاما للأرقام بديلا عن النُّظم السائدة آنذاك, ومن ثم كان العجب أن المستشرقين وبعض الباحثين أصروا على أن هذه الأرقام هندية لا عربية , دون أن يقدم أحدهم مستندا واحدا على صدق دعواه. وقد استمرت هذه الكتابة الرقمية اثنى عشر قرنا, لكنها لم تنفرد بالسلطة الكتابية, إذ ظهر لها فى المغرب العربى منافس آخر فى القرن السادس الهجري، هى (الأرقام الغبارية), لأنها كانت تكتب على رقعة عليها طبقة من الغبار, وكان ظهورها على يد العالم الرياضي: (ابن الياسمين) ت 601 ه , وهذه الأخيرة هى التى انتقلت إلى أوروبا لتلتحم باللغة اللاتينية حتى اليوم . إن هذا الظهور المزدوج كان له تأثيره الثقافى والحضاري, حيث زعم البعض أن الأرقام الغبارية هى الأرقام العربية, وأن الأرقام المشرقية أرقام هندية, ونادوا بإهمال المشرقية واستعمال الأوربية لعروبتها, وزكّى المستشرقون هذا الزعم إعلاء للغتهم من ناحية, وتشجيعا على إلحاق الثقافة العربية بالثقافة الغربية من ناحية أخرى , وهو ما يدعونا إلى عقد مقارنة بين نسقى الأرقام المشرقية والمغربية ليتضح لنا أيهما التى تنتمى للعربية , والتى تنتمى للاتينية . الأرقام المشرقية: (1-2-3-4-5-6-7-8-9- 0) وفيها خاصية الانسياب التى تتجلى فى الحروف العربية , بل فى الحروف السامية على وجه الإطلاق , ثم إن معظمها يعتمد (حرف الألف ) فى الكتابة باستثناء رقم (4) الذى يتداخل مع حرف (ع), ورقم ( 5 ) الذى يتداخل مع (الهاء المربوطة) فى مثل: ( قرأه ) , أما (الصفر) فهو ( النقطة ) فى الكتابة العربية , والصفر فى المعجم : الصوت الممتد الخالى من الحروف , ولهذا جاءت كتابته مميزة عن الحرف العربى . أما الأرقام الغبارية فقد تشربت طبيعة الحروف اللاتينية , وهى : (1-2-3-4-5-6-7-8-9-0 ), والرقم ( 1 : I / 2 : z/ 3 : E / 4 : q / 5 : s/ 6 : b / 7 : f / 8 : B / 9 : q / 0 : o ), مع ملاحظة مركزية , وهى أن الحروف و الأرقام المشرقية تكتب من اليمين لليسار , والغربية تكتب من اليسار لليمين , وهو ما يؤكد أن الفزارى ابتدع الأرقام العربية من الحروف العربية . وقد ازدادت الدعوة إلى هندية الأرقام المشرقية , وعروبة المغربية خلال الزمن الاستعمارى رغبة فى إلحاق الثقافة العربية بالثقافة الغربية , وقد استجاب كثير من المؤسسات العربية لهذه الدعوة , وتدخل فى ذلك أمران , الأول : أن البنوك وأصحاب رؤوس الأموال العربية كانت رغبتهم الأساسية أن تسجل أموالهم فى بنوك الغرب بأرقامهم التى يزعمون عروبتها , الأمر الآخر أن هناك رغبة باطنية تسكن المغلوب لتقليد الغالب , فضلا عما يتصوره البعض أن هذا المسلك الرقمى هو نوع من الاندماج فى العولمة . والذى أراه فى هذه القضية أنها ليست مجرد أرقام مشرقية أو مغربية , وإنما هى قضية ثقافية بالدرجة الأولى , ذلك أن الأرقام العربية تمثل سياقا حضاريا عاشته الأمة العربية طوال اثنى عشر قرنا, والتخلى عنها, يعنى بتر عضو من جسد الثقافة العربية, وسوف تكون الأرقام البديلة بمثابة زرع عضو فى جسد لا يتقبله , وهذا المسلك سيكون خرقا لنسق الكتابة العربية فى الحروف والأرقام معا, وهو (الكتابة من اليمين لليسار), وهو نسق له ثقافته الإسلامية والعربية المحفوظة, أما الخطورة الأكبر: أن يتبع النطق الكتابة, وهو ما نلحظه على كثير من الصغار الذين يتعلمون فى مدارس للغات الأجنبية, والمؤسف أن كثيرا من وسائل الإعلام قد انساقت وراء خديعة ( الأرقام الهندية والعربية ), دون أن تتنبه إلى المزلق الثقافى والحضارى التى تقود المجتمع إليه استجابة لهذه المغالطة . لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب