لكل ورقة خضراء فرع تتكئ عليه، ولكل فرع من الفروع جذع ينبع منه ذلك الفرع، ولكل جذع من الجذوع وتد ينبع منه، وكل هذه الجذوع لابد أن يكون لها جذور تعيش عليها، هذه الجذور هي الأصول التي تتغلغل في التربة وتمد الأوتاد ثم الأفرع ثم الأوراق بماء الحياة. فكما للأبناء آباء وأجداد، فإن للثقافات ثقافة أم تنبع منها تلك الثقافات، ولا أجد ما يعبر عن ذلك بصدق غير تلك الثقافات الشعبية التي تنبع من قلب التاريخ الشعبي؛ لتمتد بنا عبر الأصول المختلفة؛ لتصير في أفعال هؤلاء الناس من عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، وأيضا في ألعابهم وأغانيهم وحكاياتهم الشعبية، في فرحهم وحزنهم، فكما أن كثيرا من الألعاب ما زالت توجد الرموز الفرعونية مثل حوحا وحاحا في لعبة »أول حول« والتقاليد القديمة كما في لعبة الطاب والتحطيب والحُكشة، فأنت أيضا تجد امتداداً للحكى المصري القديم في حكينا الشعبي المعاصر، ففي حكاية »إعماء الصدق« الفرعونية عناصر كثيرة امتدت إلى الآن في قصصنا التي تحكيها الجدات للأطفال، وكيد النساء في حكاية الأخوين الفرعونية امتدت عناصرها المختلفة عبر التاريخ وتفرقت داخل حواديت الشاطر محمد، فرط الرمان، خشيشبان، وغيرها من الحواديت الشعبية التي ما زالت تحكى حتى الآن. الحكي مرتبط بالصراع بين البشر، على مر التاريخ الإنساني، بداية من الصراع بين قابيل وهابيل، الأخ الذي قتل أخاه، مروراً بأسطورة إيزيس وأوزوريس، وكيف أن ست إله الشر قتل أخاه أوزوريس، وكيف سعت إيزيس تجمع أشلاءه المبعثرة، لكي تعيد فيه الروح من جديد، وظل هذا الصراع الدائر بين آلهة المصريين مادة خصبة ينهل منها المبدع المصري ليؤلف منها أروع القصص والدراما والعروض التمثيلية، التي تم التعرف عليها مؤخراً، من خلال الاكتشافات الأثرية، وما سطر على متون الأهرام. من خلال تلك القصص التي نقشت على جدران تلك القطع الأثرية، ومعرفة الدرامات التي وصفت صراعات الآلهة، ربط بعض الباحثين بين أوزوريس، وبين النبي إدريس عليه السلام، حيث إن كلا منهما أول من لبس المخيط، وربطوا أيضاً بين الإله »نو« إله الطوفان وبين النبي »نوح« عليه السلام الذي أتى بالطوفان، ويقال أن الإله »يويا« الذي تم اكتشاف مقبرته مؤخراً، عندما وضعوا صورة لجمجمته على جهاز كمبيوتر لتحديد الملامح من خلال ملء الفراغات باللحم، وجدوها آية في الجمال، وتم الربط بين هذا الإله، وبين النبي »يوسف« عليه السلام، ويعتقد أن الإله »أوزوريس« والإله »نو« والإله »يويا« وغيرهم من الآلهة المصرية لم يكونوا آلهة في وجودهم، بالمعنى الذي عرف فيما بعد، لكن من خلال الحكايات والأساطير التي ألفها المبدع المصري وتناولتها الألسن بالإضافة والحذف على مر السنين والحقب التاريخية المختلفة قد تحولوا إلى آلهة. رغم أننا لم يبق في متناولنا أثر من الآثار الدالة بصفة قاطعة عن عصر الملكية التي يرجع عهدها إلى عصر الاتحاد الأول (توحيد مينا للقطرين) إلاّ أننا نستطلع تلك العهود البعيدة التي سبقت عهد توحيد مصر أي توحيد القطرين في عهد الملك مينا، من خلال متون الأهرام الدالة في إشارات عديدة على تلك المدنية العريقة في القدم، فقد عثر على وثيقة دونت في عهد فجر الاتحاد الثاني أي في عهد الملك مينا، وهى عبارة عن دراما دونت شعراً، وهذه الإشارات بجانب إشارات أخرى عديدة تدل على أن الدراما المصرية، قد ظهرت في عالم الوجود قبل الدراما اليونانية بنحو ثلاثة آلاف سنة، وأنها بدت أكثر نضجاً. الدراما في معناها الحديث هي قصة عن الحياة الإنسانية، وقد تكون دالة على الفعل التمثيلي بمعناها الإغريقي، ومن الدرامات اليونانية، دراما التيس: وهى عن خرافة بنات الملك »دانوس« اللائي هربن حينما أجبرن على الزواج من أولاد عمهن، وارتمين في أحضان ملك «أرجيف» طالبات رحمته، وناشدات حمايته، فكان على قائد الفرقة أن يؤلف أغنية التيس، وفقا لهذا الموضوع، ثم تطورت بإضافة ممثلين آخرين حتى تحولت الأنشودة إلى دراما غنائية، وكانوا في التمثيل الإغريقي يُلْبِسون الممثلين وجوها مستعارة وأحذية سميكة ذات كعوب عالية ليزيدوا من أطوالهم حتى يصلوا لأطوال الآلهة والأبطال. ومن قصص أبطال الأساطير الإغريقية: 1-أسطورة »آخيل«: كانت أمه ثيتس من الآلهة، وكان أبوه من عامة الناس، تزوجته ثيتس، لأن زيُوس سيد الآلهة وبُوزَيْدُون إله البحر اختصما فيها، وتقدم كل منهما يطلب يدها، أثناء ذلك بلغهما أن ابنها سيكون خيرا من أبيه وأعظم، فكف الإلهان عن السعي غيرة من هذا الابن، ثم تقدم لها بيليوس فرضيت به كارهة، فكان لها منه هذا البطل العظيم آخيل، تأنقت الآلهة في تصويره، فطلبته هيرا وعشقته أثينا، لكنه انصرف عن الهوى، وتعلق بالمجد والحرب، وقد خيرته أمه فى صباه بين أن ينعم بحياة طويلة مطمئنة، أو حياة قصيرة مليئة بالمجد والفخر؛ فاختار المجد. خافت عليه أمه من الحروب عندما قامت خصومة بين الإغريق والطرواديين، فحملته إلى سِيرُوس وخبأته هناك بين فتيات ملك نيكوميد، فاختفى بينهن ولم تستطع العين تميزه منهن لفرط جماله، ثم مر بالجزيرة أوديسيوس في إحدى رحلاته باحثا عنه، وأراد أن يقدم لفتيات ملك نيكوميد الهدايا من الجواهر، فقدمها لهن وفيها سيف، فلم يهتم آخيل بالجواهر وأخذ السيف، عكس ما فعلته الفتيات، فعرفه أوديسيوس، واصطحبه معه إلى الحرب، ثم نعود إلى حكاية هروب هيلانة مع باريس بعد أن أغراها، وكان هذا مثار الحرب بين الإغريق وطروادة، التي كان بطلها آخيل، وأصبح معبود الشباب وحامل لواء النصر... إلى آخر هذه القصة الأسطورية من أحداث. 2-أسطورة ليونيداس: تلك الأسطورة التي نقشها شعرًا سيمونيدس على قبره، هذا البطل الأسطوري الذي تصدى لجيش عدته ألف ألف ويزيد في ثبات لا يلين، ذلك الجيش الذي جاء به إجزرسيس ملك فارس، وكان ذلك قبل الميلاد بخمسة قرون. 3-وأساطير العديد من أبطال الملاحم الإغريقية مثل: ثمستوكليس، ألسبياد، أرستيد، وغيرهم من أبطال وأساطير أريستوفانيس التي أبدعت قبل الميلاد بقرون وأساطير هوميروس التي تحولت بفعل الناس إلى واقع. ومن هؤلاء الأبطال الذين تحولوا إلى أساطير تتحاكى بها الناس وتضيف إليها من خيالها الخصب، عبر الأجيال والعصور المتتابعة: الإسكندر المقدوني، بطليموس الثالث «يورجيتس» فاتح الهند. كان الفكر السائد إلى عهد قريب هو أن الإغريق هم الذين اخترعوا الدراما، وأن «ايسكلس» هو أبو «التراجدى الغنائي» ولكن الواقع الذي عرف فيما بعد أن كتابات «ايسكلس» بدأت (سنة499ق.م) على حين أننا نجد في مصر دراما تمثيلية، ظهرت عام (3400ق.م) وهى « الدراما المنفية «، ثم بعدها دراما « انتصار حور على أعدائه « في الأسرة الثالثة، ثم دراما «التتويج» التي كتبت في أوائل عهد الدولة الوسطي أي نحو(2000 سنة ق.م).