تلعب مؤسسات التفكير دورا مهما فى تقديم البدائل للحكومة الأمريكية . وأذكر على سبيل المثال إن مشروع الشرق الأوسط الأكبر قد تمت صياغته فى مؤسسة، راند فى منتصف التسعينيات. وقد كنت فى زيارة لتلك المؤسسة سنة 1994 وقابلت زالماى خليل زاده الذى كان يعمل فى راند فى ذلك الوقت تحت لافتة «مركز الشرق الأوسط الأكبر.» وقد سألته عن معنى هذا المصطلح الجديد وأجاب بابتسامة ماكرة أن هذا مشروع نحاول تطويره فى راند حاليا . وفى سنة 2004 خرج علينا جورج بوش بهذا المشروع الذى لعب زاده دورا مهما فى تنفيذه فى أفغانستانوالعراق. ولعل من أهم المؤسسات التى تنشط حاليا فى مجال الشرق الأوسط هى مؤسسة كارنيجى والتى يتوافر لديها قسم خاص لدراسات الشرق الأوسط يعمل به عدد من الباحثين الأمريكيين والعرب. ويحمد للمؤسسة أنها تنشر دوريا توصيات باحثيها للحكومة الأمريكية. وقد لفت نظرى خلال الشهور الأخيرة مجموعة توصيات تكتبها احدى الباحثات فى كارنيجى، وهى ميشيل دن، عن مصر بالتحديد. تابعت كتابات ميشيل دن، ولاحظت تبنيها سياسة معادية لمصر بعد 30 يونيو، وبلغت تلك السياسة قمتها فى تقرير نشرته لها مؤسسة كارنيجى فى الخامس من يونيو بعنوان «استراتيجية أمريكية تجاه مصر فى عهد السيسى.» والتقرير يصب فى اتجاه التوصية باتباع سياسة أقل ماتوصف به بأنها «سياسة فاشية» تجاه مصر تصب فى اتجاه اهدار السيادة المصرية بالكامل وتنصيب الحكومة الأمريكية لكى تكون هى الحاكم الحقيقى لمصر. بدأت ميشيل دن تقريرها بما يسميه المصريون «أول القصيدة كفر»، فهى تبدأ بأخطاء معلوماتية فادحة من نوعية ان السيسى هو «رابع» رئيس لمصر، بينما هو سادس رئيس، وأن السيسى» ليس أكثر شعبية من مرسى فى الانتخابات التى كان الحضور فيها محدودا»، رغم أن المشاركة الشعبية فى الاستفتاء الدستورى وفى الانتخابات الرئاسية سنة 2014 كانت الأعلى فى تاريخ مصر . ففى دستور الاخوان صوت 32٪ من الناخبين المسجلين، وفى دستور المصريين سنة 2014 صوت 38.6% من المصريين. وفى انتخابات مرسى سنة 2012 حصل على 13.2 مليون صوت، وفى انتخابات السيسى سنة 2014 حصل على 23.7 مليون صوت. هذه الأخطاء توضح حجم ونوعية معلومات باحثة كارنيجى عن مصر. ومن هذه الأخطاء تنطلق لكى تصدر حكما مطلقا لايقبل النقض أو الابرام ، وهو أن مصر «تنزلق نحو التسلطية بعد محاولة فاشلة للتحول الديمقراطى.» وتضيف أن الهيمنة العسكرية لن تحقق الاستقرار بالنظر الى المشكلات الاقتصادية، وانتهاكات حقوق الانسان، والاستقطاب الاجتماعى. ثم تتوسع لتقول أن الأحوال الأمنية والاقتصادية فى مصر قد «تدهورت بشكل واضح منذ أن طرد العسكريون الرئيس المستند الى الاخوان المسلمين.» وتزيد بتوقعها فشل رئيس مصر الجديد فى التعامل مع التحديات (رغم أنها كتبت تقريرها قبل أن يتولى السلطة) مالم يكن التعامل بشروط ميشيل دن وأولها بناء توافق قومى جديد، وهى الصيغة المبطنة للسماح للجماعة الارهابية بالدخول فى حلبة السياسية مرة أخرى. تعميمات سوداوية مطلقة لايساندها مؤشر واحد على صحة ماتقول. ولكن باحثة كارنيجى ليست فى حاجة الى توثيق ماتقول. فيكفى أنها تكتب تحت لافتة كارنيجى لكى يكون مايصدر عن قلمها هو الحقيقة المطلقة. ومعنى هذا الكلام أن المصريين خرجوا بالملايين فى 30 يونيو ، وصوتوا بالملايين لمشروع الدستور، وانتخبوا بالملايين السيسى رئيسا للجمهورية ، لا لشىء الا لكى يقيموا حكما عسكريا ديكتاتوريا. فالمصريون الذين خرجوا فى 25 يناير لاقامة حكم ديمقراطى خرجوا مرة أخرى فى 30 يونيو لاقامة حكم دكتاتورى! لم تحفل الباحثة الحصيفة فى أن تفسر لنا هذا التناقض. الباحثة لم تر الاعلان الدستورى الذى أصدره مرسى فى نوفمبر سنة 2012 والذى حوله الى شبه إله لايسأل عما يفعل، ولم تر الدستور الاخوانى الذى حول مصر الى دولة ثيوقراطية دعت الحكومة الأمريكية الى التحفظ عليه، ولم تر تدهور مصر فى قياسات حرية الاعلام، وانفراد الاخوان بالمشهد السياسى، ولم تسمع تهديد مرسى للمعارضين فى خطابه بقاعة المؤتمرات بفتح السجون للمعارضين. وهى تتمسك فقط بأنه منتخب، ولكنها فى الوقت ذاته لاترى سلبية واحدة لحكم الاخوان و لاترى أهمية لأن السيسى منتخب بأغلبية تفوق مرسى بكثير بل تحكم عليه بالفشل قبل أن يتولى منصبه . انطلاقا من التهويمات المطلقة السالفة تنطلق مشيل دن لكى تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية. وتدور التوصيات حول «دعم الشعب المصرى، مع الحد من العلاقات مع السيسى وحكومته عند مستوى المصالح الأمنية الأساسية.» ترى ميشيل دن أنه من الأفضل أن تقصر الولايات علاقاتها مع الرئيس السيسى على «التعاون الأمنى والمضاد للارهاب» وأن تحول أمريكا كل برامج مساعداتها الاقتصادية والعسكرية الى برنامج أو برنامجين موجهين الى «السكان» وأن يكون من بينها برنامج للتعليم العالى والمهنى فى اطار «أدنى مشاركة للحكومة المصرية»!، وفى هذا الصدد يجب التركيز على دعم «جماعات المجتمع المدنى المحاصرة» وبناء توافق بين المصريين حول مستقبل وطنهم، وأن تعبر الحكومة الأمريكية عن دعمها «لتطلعات الشعب المصرى فى الرخاء والحرية والعدالة وأن تقيم التقدم على أساس مدى تمتع المصريين بتلك القيم لا على أساس تنفيذ خريطة الطريق السياسية». ميشيل دن اذن تدعو الى ان تنصب الحكومة الأمريكية نفسها وصيا على الشعب المصرى. فهى التى تحدد التقدم فى تحقيق أهداف الشعب المصرى، وهى التى تنفق على المصريين دون تدخل من حكومتهم، وهى التى تحدد أوجه الانفاق كأنه لاتوجد فى مصر دولة . الحكومة الأمريكية لن تكترث لأى تقدم يحققه المصريون بأنفسهم وانما يلزم أن يصاحبه خاتم المصادقة الأمريكى . لم يكن كل ذلك اهدارا للسيادة المصرية بل وللديمقراطية المصرية التى تجسدت فى انتخابات رئاسية نزيهة لاتشوبها شائبة التضليل الدينى والسياسى ، فما هى اذن الصفات التى نطلقها على هذه التوصيات التى تفرض على مصر ديكتاتورية فاشية غربية . ربما فكرت ميشيل دن، ولكى تكون متسقة مع نفسها، فى تنصيب معتمد أمريكى على مصر يتولى ادارة شئونها ، كما حدث فى مصر عقب الاحتلال سنة 1882 حين تم تعيين لورد كرومر، أو فى العراق عقب الاحتلال سنة 2003 حين تم تعيين بريمر للاشراف على تدمير العراق. ولكن يحمد لميشيل دن أنها لم تصل بعد الى هذا الحد، وان كانت توصياتها تعنى فعلا وجود هذا المعتمد على أن يكون مقره فى واشنطن. تذهب ميشيل دن أبعد من ذلك بالتوصية بأن تعمل الحكومة الأمريكية على اغلاق البدائل أمام مصر بمحاصرتها من التوصل الى توافق مع أوربا ودول الخليج واسرائيل حول تلك السياسات . تريد ميشيل دن أن تقول لتلك الدول اتركونا ننفرد بمصر لكى ننفذ خطتنا . أوروبا واسرائيل ليسا فى حاجة الى ضغوط أمريكية، ولكن دول الخليج العربية لن تسمح بتمرير مشروع الانفراد بمصر لكسر ارادتها ، لأن كسر تلك الارادة لن يكون مقصورا على مصر. كما أن روسيا والصين أيضا لن تسمحا بذلك. مايدعونا الى الاهتمام بما توصى به ميشيل دن هو أن تلك التوصيات تكاد تلامس السياسة الأمريكية الراهنة وتريد ميشيل دن تعميق هذا التلامس. ولكننى أنصح الحكومة الأمريكية بأن تفكر مليا قبل الاستماع الى تلك النصائح وهى تشبه نصائح المحافظين الأمريكيين لجورج بوش قبل غزو العراق. على الحكومة الأمريكية أن تستمع الى ارادة المصريين كما عبروا عنها فى تصويت شعبى نزيه، وأن تسير خلف تلك الارادة وليس أمامها، وألا تكرر فى مصر تجربة المحافظين الجدد فى العراق و التى كانت ايذانا ببداية أفول العصر الأمريكى. فمصر لن تقف ساكنة أمام مشروعات من أمثال ماتقدمه ميشيل دن، خاصة مع تحول النظام العالمى نحو أفول القطبية الأحادية والتى أدت الى فشل المشروع الأمريكى فى سوريا. وقبل كل شىء عليها أن تجرى اختبار معلومات أولية لمن يقدمون لها التوصيات لكى تتأكد من صحة مايعرفونه عن مصر. لمزيد من مقالات محمد السيد سليم