تبلورت ملامح الطبقة العاملة المصرية الحديثة مع نهايات القرن التاسع عشر ومداخل القرن العشرين، حين أخذت مصر فى مغادرة عصور الركود الإقطاعى. متعرضة لاجتياح رياح الرأسمالية الأجنبية التى سعت إلى بسط هيمنتها على البلاد، إن بفعل محاولات "الأوربة"، حسب نموذج "الخديوى اسماعيل" المفضل، أو نتيجة لبسط الدول الأوروبية هيمنتها على مصر تحت مزاعم استقضاء ديونها المستحقة وفوائد الدين الباهظة، ثم بتأثير هزيمة الثورة العربية ووقوع "المحروسة" تحت سنابك الاحتلال البريطانى الكامل، ولغيرها من الأسباب والدوافع. ونجم عن أن أغلب أصحاب المصانع و"الفابريكات"، كانوا أجانب أو رعايا للدول الأجنبية، "متلازمةٌ" بارزةٌ فى تاريخ الطبقة العاملة المصرية، تمثلت فى ارتباط نضال هذه الطبقة الاقتصادى والاجتماعى، لانتزاع الحقوق والدفاع عن المصالح، ولتحسين أحوال العمل وشروطه، بالنضال السياسى من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وفى مقدمتها الاستقلال وإجلاء قوات الاحتلال الانجليزى، وهى الشعارات التى رفعتها الحركة الوطنية، تحت زعامة "أحمد عرابى"، (مصر للمصريين)، و"مصطفى كامل"، ومن بعده "محمد فريد"، الذى أولى تعليم وتثقيف وتنظيم عمال مصر وفلاحيها أهمية كبرى، ثم طوال سنوات الثورة الوطنية الكبرى، ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وبعد ذلك أيضا، ويشرح "د.عبد العزيز الرفاعى" فى كتابه "ثورة مصر سنة 1919" هذا الأمر، موضحا: " لم يكن العمال على جانب ما من الوعى السياسى، ولكنهم منذ أن أدركوا الاحتلال بالاحتكاك المباشر، بالمعاناة من مظالمه وأساليبه الجارحة والعبث بالكرامة المصرية، كانت الفكرة الثورية تتجلى لا شعوريا فى إطار المصلحة الذاتية، ومن ثم ارتبط مصير كفاحهم الاقتصادى والاجتماعى بتحقيق الفكرة القومية كسبيل لحل مشاكلهم". وقد بسطت تفاعلات الحرب العالمية الأولى آثارها، سلبا وإيجابا، على الطبقة العاملة المصرية، فمن ناحية وقعت الطبقة العاملة، مثلها مثل سائر طبقات المجتمع، تحت بطش استعمارى بشع، فتم ترحيل آلاف العمال وتجنيدهم للعمل فى الخدمات الضرورية وراء خطوط القتال فى العراق وفلسطين، وكذلك فقد أُعلنت الأحكام العرفية بكل نتائجها وقسوتها، وهو أمر لم تفق من ويلاته الحركة الوطنية والعمالية إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ومن ناحية أخرى، فقد كانت فترة الحرب فرصة لانتعاش ونمو الصناعة الوطنية والمحلية، بعد أن تعذر استيراد أنواع كثيرة من المنتجات الغربية نتيجة لظروف القتال، وهو مايسّرَ، بمجرد انتهاء الحرب، عودة الطبقة العاملة لاستئناف جهود تنظيم صفوفها فى نقابات واتحادات وروابط، وتوسعت التحركات الاحتجاجية والإضرابات، ضد البطش والاستغلال الأجنبى، فى استعادة متطورة للخبرات التى أشاعها "الحزب الوطنى" تحت زعامة "فريد"، عبر "مدارس الشعب" و"نقابة عمال الصنائع اليدوية" وغيرها من الأشكال التنظيمية، وهو ما بدت نتائجه واضحه فى الدور العظيم للطبقة العاملة فى ثورة 1919: فما أن هبت رياح الثورة حتى أقدم العمال على استخدام سلاح الإضراب فى مواجهة المحتل، وسقط مئات العمال شهداء وجرحى، وتأسست عشرات النقابات الجديدة، ممهدة الطريق لتكوين أول حزب اشتراكى: "الحزب الاشتراكى المصرى"، الذى تأسس فى أغسطس 1921. وعلى امتداد عقدى العشرينات والثلاثينيات، وبالرغم من الضربات المتتالية التى وجهتها السلطة وحكومات الأقليات للحركة العمالية المصرية، فقد نمت نموا متصاعدا، وشارك العمال فى كل النضالات الاجتماعية والوطنية، رغم ترسانة القوانين "المنظمة للردع"، والتى استنتها السلطات البريطانية والحكومية، لمحاصرة العمال وتنظيماتهم، ثم جاء توقيع "معاهدة 1936" بمثابة تأكيد جديد عن إفلاس الأحزاب السياسية التقليدية، وعجزها عن تحقيق اختراق واضح: إن على مستوى قضية الديمقراطية والدستور، أو على مستوى تحرير الإرادة الوطنية وتحقيق الجلاء، واكتملت الصورة البائسة بحادث 4 فبراير 1949، الذى كان بمثابة إشهار لانتهاء صلاحية النظام بوجهيه: الحكم الملكى الفاسد، والمعارضة السياسية الهزيلة، وبات من الواضح حاجة مصر الماسّة لقيادة شعبية جديدة، تجمع الوعى الحديث بالعالم المعاصر ومتغيراته وحاجاته، وتعبر تعبيرا صادقا عن آمال الشعب وطموحاته، وهو ماتجسد فى "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" (فبراير 1946)، التى مثّلت إرهاصات النهوض الجماهيرى الجديد، واستطاعت بجهودها وجهود الحركة الشعبية من إسقاط اتفاقية "صدقى بيفن"، وإيقاف مفاوضات "محمود فهمى النقراشى" مع الاحتلال، وهو أمر واجهته السلطات الحاكمة، وكالعادة، بالقوة الباطشة، على يد الديكتاتور "اسماعيل صدقى"، فى مايو من العام نفسه. غيرأن سياسات القبضة الحديدية الباطشة لم توقف نضال الشعب ولا الطبقة العاملة، فاستمرالضغط الجماهيرى حتى تم فى عام 1951 إلغاء معاهدة 1936، والتهب المناخ العام فأعلنت القوى الوطنية مقاطعة العمل فى القواعد البريطانية، وانسحب من خدمتها، مع مقدم عام 1952، واحد وثمانون ألف عامل، استجابة لدعوة الإضراب الشامل، مضحين بلقمة الخبز وحاجات الضرورة، وتصاعد المد النضالى العمالى، وتحدد يوم 27 يناير 1952 لمؤتمر إعلان ميلاد "الاتحاد العام لعمال وادى النيل"، (لعمال مصر والسودان)، وقبل ساعات من عقد المؤتمر المرتقب كانت يد الغدر تحرق القاهرة الساحرة!. خيم الظلام على أرض الوطن، وناحت الغربان فى سماء المحروسة، لكن إلى حين، فقد استيقظت مصر بعد أشهر قليلة على زوال النظام الملكى الفاسد بأكمله، وظلت راية النضال الوطنى خفّاقة، وانتصرت إرادة الوطنيين المصريين، وفى مقدمتهم الطبقة العاملة المصرية، وتحقق حلم الجلاء الذى من أجله روت الأرض المقد سة بدماء أطهر أبناء الوطن.