«إننا نعيش فى غسق التاريخ وليس فى نهايته الفعلية»، كانت تلك هى الرؤية الجديدة للمؤرخ والأكاديمى البارز والكاتب السياسى الأمريكى «والتر راسل ميد» التى انتقد خلالها أطروحه فرانسيس فوكوياما فى كتابه الشهير الذى نشره قبل 22 عاما بعنوان«نهاية التاريخ وآخر البشر». توصل راسل إلى تلك النتيجة متأثرا بالإخفاقات المركزة التى تعرضت لها مخططات السياسة الخارجية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص وعلى مستوى العالم بوجه عام خلال عامى 2013 و2014. وكان والتر راسل قد أظهر تأييده للإعلان الدستورى الأحادى الذى أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسى خلال عام 2012، بل وتمادى راسل بشنه هجوما «حادا» فى الصحافة الأمريكية على القضاء المصرى والعاملين فى المؤسسة القضائية المصرية. لكن ما سبق كان فى عام 2012 وتحديدا قبل ثورة المصريين فى 30 يونيو 2013، أما اليوم فإن الأمر الواقع والأحداث المتتالية، التى أثبتت سقوط السياسة الخارجية الأمريكية فى مأزق كبير، دفعت والتر راسل إلى نشر مقال فى دورية «فورين أفيرز» الشهيرة تحت عنوان «عودة الجغرافيا السياسية وانتقام قوى تيار المراجعة»، فى إشارة إلى القوى العالمية والإقليمية التى لم تمض فى ركاب واشنطن والغرب وفى مقدمتها روسياوالصينوإيران. قراءة خاطئة وتحدث والتر راسل عن أفول شمس قوى الغرب وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة، مؤكدا أن تيار التاريخ يزحف بلا هوادة على الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، وأن شمس التاريخ تتجه إلى الغروب ولكن هناك شخصيات، مثل فلاديمير بوتين فى روسيا، لاتزال تخطو خطوات واسعة على المسرح العالمي. «فأمثال بوتين لن يتجهوا بلطف نحو الظلام بل سيثورون ضد غروب التاريخ»، فقد شهد عام 2014 طفو عدة خلافات ذات طبيعة متعلقة بالجغرافيا السياسية (جيوبوليتيكية) على سطح المسرح الدولي، زحفت القوات الروسية على القرم، وبدأت الصين فى اللجوء إلى القوة حماية لسيادتها فى المناطق البحرية المحيطة بها، وردت اليابان باتباع إستراتيجية خاصة بها. وظهرت إيران التى تحاول استغلال تحالفها مع نظام الحكم السورى فى الهيمنة على الشرق الأوسط. وقد انزعجت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى من تلك الموجات المتتالية. لقد استيقظ الغرب من حلم انتصاره الساحق على المعسكر الشرقى بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد اعتقدوا فى الغرب أن كل المشكلات المتعلقة بالجغرافيا السياسية قد انتهت. فظهر من يتحدث عن نهاية التاريخ وظنوا أن القضايا الرئيسية فى السياسة العالمية لن تتطرق إلى أمور مثل الحدود، والقواعد العسكرية، وتقرير المصير على المستوى الوطني، ودوائر النفوذ! وظنوا أن الأزمة اليوغوسلافية والصراع الإسرائيلى الفلسطينى ليسا سوى مشكلات صغيرة نسبيا، وأصبحت الرؤية السائدة هى كيفية تحقيق السلام العالمى باستبدال المنافسة القائمة على أسس الجغرافيا السياسية ببناء نظام ليبرالى عالمي. وظلت تلك الرؤية بمثابة أساس تقييم الغرب للأمور فى مختلف أقاليم العالم. وفى الشرق الأوسط على سبيل المثال كانت السيطرة للقوى الحليفة للولايات المتحدة (التى يصفها والتر راسل بالقوى السنية)مثل السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا. كما كانت هناك سياسة احتواء مزدوجة لكل من العراقوإيران. ولأن تركيز الخبراء انصب فى ذلك الوقت على الجانب الأيديولوجى فقط من الصراع فى الحرب الباردة فقد أغفلوا الحالة المؤقتة التى مرت بها القضايا المتعلقة بالجغرافيا السياسية فى مرحلة مابعد نهاية الحرب الباردة وركزوا الأضواء على النتيجة البارزة للصراع الأيديولوجى بين الديمقراطية الليبرالية والشيوعية السوفيتية. وبالتالى ظن البعض وفى مقدمتهم فوكوياما أن نهاية الحرب الباردة هى بمثابة نهاية للتاريخ وذهب البعض لما هو أبعد من ذلك حين اعتقدوا أن قضايا الجغرافيا السياسية قد وصلت إلى نهايتها، متناسين حقيقة ارتباط النصر فى الحرب الباردة بالجانب الأيديولوجى فقط. وخلال الأعوام التالية تبنت الولاياتالمتحدة رؤية تقلص من توجيه جهدها إلى النظام الدولى فى الوقت الذى تجنى فيه الكثير من الفوائد من عالم ظنت أنه سيزداد ازدهارا ورخاء. ولكن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 بنى الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن سياسته الخارجية على اعتقاد يقول بأن الإرهابيين فى الشرق الأوسط يمثلون خصما خطيرا لبلاده. ومن هذا المنطلق جاء قراره بشن حرب ضدهم. وظنت إدارة بوش أن بإمكانها نشر «الديمقراطية» بسرعة فى الشرق الأوسط العربى بداية من العراق فى ظل قناعة كاملة بأن الأحداث تسير بشكل كامل فى صالح واشنطن. ولكن كانت هناك الصينوإيرانوروسيا التى سعت جميعا إلى «مراجعة» و«تعديل» الوضع السائد. وعندما وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض شرع فى بناء سياسته الخارجية على أساس قناعته بأن الحرب ضد الإرهاب مبالغ فيها وأن التاريخ قد انتهى بالفعل مثلما أشار فوكوياما وأن أهم أولويات الولاياتالمتحدة يجب أن تشمل نشر النظام العالمى الليبرالى بدلا من ممارسة مخططات الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتكا) القديمة. ولتحقيق هذا الهدف تبنت الإدارة الأمريكية جدول أعمال طموحا شمل: منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ومحاولة حل الصراع الإسرائيلى الفلسطيني، والتفاوض حول معاهدة التغير المناخي، وعقد اتفاقيات تجارية بين دول المحيط الهادى والأطلنطي، وتوقيع اتفاقيات حد التسلح مع روسيا، ومحاولة اصلاح العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي، واستعادة ثقة الحلفاء الأوروبيين، وإنهاء الحرب فى أفغانستان، والترويج لحقوق الشواذ! كما خطط أوباما لخفض نفقات الدفاع وتقليص مشاركات بلاده فى الميادين الدولية الرئيسية مثل أوروبا والشرق الأوسط. ولكن اليوم يجد أوباما نفسه غائصا فى مستنقع من التنافس الجيوبوليتيكى الذى كان يأمل أن يتجاوزه. وبات من الواضح أن روسياوالصينوإيران قد نجحوا فى تقويض النظام الجغرافى السياسى (الجيوبوليتيكي) لمنطقة أوراسيا(أوروبا وآسيا) بشكل أحدث تعقيدا أمام جهود الولاياتالمتحدة وأوروبا الرامية لإقامة نظام «مابعد التاريخ» أى مابعد الانتصار فى الحرب الباردة. مأزق الشرق الأوسط واعترف والتر راسل بخطورة الوضع فى الشرق الأوسط بالنسبة لمتخذ القرار فى البيت الأبيض. فقد تلاشت الأحلام (أثناء إدارتى بوش وأوباما) المتعلقة باقتراب العرب من نقطة التحول الديمقراطية. فبدلا من إقامة نظام ليبرالى فى المنطقة يتمسك ساسة الولاياتالمتحدة بتفكيك نظام الدولة السائد فى المنطقة (والذى يعود إلى وقت عقد اتفاق سايكس بيكو عام 1916 والذى قسم ولايات الإمبراطورية العثمانية فى الشرق الأوسط) فى وقت تتآكل فيه جودة الحكم بكل من العراق ولبنان وسوريا. ويرى والتر راسل أن أوباما بذل جهدا كبيرا فى فصل التبعات المتعلقة بالجغرافيا السياسية لصعود إيران كقوة إقليمية عن مسألة التزامها بمنع الانتشار النووي. ولكن المخاوف السعودية والإسرائيلية من الطموحات الإقليمية الإيرانية تعوق تحقيق هذا الفصل. وهناك عقبة أخرى أمام التقارب الأمريكى الإيرانى تتمثل فى روسيا التى تساند نظام الأسد لعرقلة الأهداف الأمريكية فى سوريا. فروسيا تعتبر نفوذها فى الشرق الأوسط عنصرا إيجابيا مهما فى تنافسها مع الولاياتالمتحدة، ولكن هذا لايعنى أن تعارض موسكو كل سياسات واشنطن فى أى مناسبة وهكذا ستظل صيغة «الربح للجميع» التى تسعى واشنطن إلى تحقيقها فى بعض الأحيان رهينة لمصالح روسيا المرتبطة بالجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكية). فقد نجحت روسيا فى أن تضفى قدر أكبر من الأهمية على دورها لتتحول إلى مكون مهم فى التفكير الإستراتيجى الأمريكى وبالتالى أصبح بإمكانها أن تستخدم هذا الوضع فى إستخلاص تنازلات تهمها.