انتماء مصر إلى القارة الإفريقية كان موضع دهشة المفكرين الغربيين، لأن إفريقيا كانت تؤخذ على أنها نموذج لحياة الشعوب البدائية التى لا تعرف الكتابة، والتى لم تدخل بعد التاريخ، بينما كانت مصر الإفريقية نموذجا للحضارة والسباقة إلى اختراع الكتابة والقانون و مختلف مفردات الحضارة المختلفة. اعتبر الاستعمار أن أرض إفريقيا مستباحة، و بدأ التنافس بين الدول الغربية على استعمار أراضيها، بحجة تمدين أهلها وتعليمهم وأيضاً القضاء على تجارة العبيد، وهى بالطبع لم تكن إلا حجة زائفة. والدليل على ذلك اشتعال الحروب بين هذه الدول الأوروبية المتنافسة على استعمار إفريقيا والتى بلغت قمتها فى الحرب العالمية الأولى. قادت مصر حركات التحرر من الاستعمار فى العالم بأسره منذ قامت بثورة 1919، وقد ربطت مرحلة التحرر الوطنى مصر من جديد بمحيطها الإفريقى. فحينما قامت حركات التحرر الوطنى الإفريقية فى الخمسينيات والستينيات كانت تنظر إلى مصر بجثا عن التأييد والمساندة. وكان الزعيم جمال عبد الناصر واعيا بأهمية الصلة الاستراتيجية التى تربط مصر بإفريقيا. وكانت قضية تحرر إفريقيا من الاستعمار والعنصرية حاضرة بقوة فى وسائل الإعلام ومناهج التعليم فى مصر: لم يكن الأمر مجرد معونات من دولة كبيرة لحركات وطنية صغيرة وانما دعم متبادل ، فقد كانت الدول الإفريقية المستقلة حديثا خير داعم لمصر قى قضاياها الدولية، وكانت مصر داعمة لحقوق البلاد الإفريقية للاستقلال. وتوج عبد الناصر والزعماء الأفارقة هذه العلاقة الوثيقة بإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963. ولم يكن مجرد دعم سياسي، لكنه كان أيضا، وبصفة خاصة، مساهمة فى بناء الدولة الحديثة فى إفريقيا من خلال إرسال الأطباء والمعلمين والمهندسين، كما كانت إفريقيا سوقاً لدعم الصناعة المصرية الناشئة آنذاك، إذ يقال أن 80% من استهلاك إفريقيا للسجائر كان من الإنتاج المصرى. لقد أدرنا ظهرنا لإفريقيا على مدى عقود طويلة، ثم اكتشفنا الآن أن مثل هذه السياسة كانت فادحة الثمن، فها نحن أمام مشكلة مياه النيل والتى لم تظهر أثارها الخطيرة بعد. كما انفضت الدول الإفريقية عن دعم مصر دوليا، وبحثت عن مصادر أخرى للتعاون الاقتصادى. واليوم ونحن نسعى لبناء دولة حديثة، ونسعى الى تحقيق طفرة اقتصادية ، فإننا نعيش فى عالم تهيمن عليه العولمة المفترسة، وهو ما يدفع الدول إلى اللجوء إلى إقامة التكتلات الإقليمية الكبرى حتى تحسن شروط وجودها فى هذا العالم الجديد، وتكون فى وضع أفضل يسمح لها بالنهوض والمقاومة. فى ضوء كل هذه المعطيات، أحرى بنا أن نلتفت ثانية إلى القارة السمراء بوصفها مجالاً حيويا؛ فلن ننجح فى تحقيق أى أمل من أمالنا لو عدنا من جديد إلى سياسة التجاهل والتعالى.