«كرة القدم فى البرازيل مصدرها القلب، والعقل مصدرها فى باقى دول العالم».. لم يكن « بيليه « عنصرياً وهو يصف علاقة الفقراء وعمال مزارع البن والكاكاو بالساحرة المستديرة فى بلاده ، لكن العواطف والمشاعر والقلوب لن يكون لها مكان هذه المرة ، فهناك حسابات اقتصادية ومليارات تم إنفاقها لبناء الملاعب والفنادق وفق شروط الفيفا المرهقة، وهناك « ديلما روسيف «رئيسة البلاد التى يتوقف مستقبلها السياسى على نجاح المونديال وضخ الأرباح فى خزانة الدولة . هكذا الحال فى البرازيل حالياً فتجربة جنوب إفريقيا القاسية فى مونديال 2010 نموذج مرعب ، والخسارة لم تكن فى خروج منتخب البلاد من البطولة لكنها كانت 4,1 مليار دولار، وهو رقم قياسى في تاريخ كؤوس العالم، فقد بنيت خمسة ملاعب جديدة وتكلف مطار شاكا الدولي الذى بنى خصيصاً لإستقبال السياح حوالى 1,1 مليار (بليون) دولار، ثم إن النفقات المدفوعة كادت تتسب بإنهيار العملة (الراند) فى جنوب افريقيا. استمتاع الضيوف الزاحفين وراء منتخبات بلادهم هو الرهان الأكبر للجميع فى بلد السامبا ، وكرة القدم هى أسطورة البرازيل ومعشوقتهم الأولى التى يتباركون بها ،ولا أحد هناك يشك فى أنها امرأة !، فالبرازيليون يقولون عنها «السمينة» ويسمونها «الطفلة»، ويمنحونها أسماء من نوع ماريكوتا، أو مرجريتا، لقد قبّلها «بيليه «عندما سجل هدفه رقم ألف، ومع انتهاء مونديال 1994، أُطلق أسم «روماريو» على جميع الأطفال الذين ولدوا فى البرازيل. ورغم الغضب الذى تعيشه العشوائيات بعد هدم الكثير من بيوت الفقراء فى « ريو دى جانيرو» إلا أن الأمل كبير لدى قطاعات عريضة فى تحويل بلاد السامبا إلى مملكة السياحة والإبداع عقب انتهاء البطولة ، فالساحرة التى تصاحبهم من الطفولة وتطمئن قلوبهم وهم يسمعون صوت ضرباتها على الأرض فى كل الشوارع لن تخذلهم وعليهم فقط أن يعرفوا ذلك ،وهكذا خاطبهم روماريو مهاجم منتخب البرازيل السابق، وعضو الكونجرس البرازيلى حالياً ، والذى قال إن الفيفا مارست جميع أشكال الضغط لتعجيزبلاده عن تنظيم المونديال ،وعبر «روماريو « عن ثقته فى عبور المستحيل عبر كرة القدم معشوقة أرض السامبا . هل تصدق الساحرة مع البرازيليين وتلعب لصالحهم ويحرزون الكأس ؟ ربما !، ففى نهائى مونديال 1930 طالب كل من المنتخبين المتنافسين اللعب بكرته الخاصة، وقد كان الحكم حكيما مثل سليمان فقرر أن يجرى اللعب فى الشوط الاول بكرة أرجنتينية وفى الشوط الثانى بكرة أروجواى، فكسبت الأرجنتين الشوط الاول وكسبت الأرجواى الشوط الثانى،ورغم هذا الوفاء من الكرة لأصحابها ،إلا أن لها الكثير من « النذالات «، فهى لا تدخل المرمى أحيانا و تبدل رأيها وهى فى الجو وتنحرف عن مسارهاعندما تكون ساخطة ، فهى لا تطيق أن يضربوها انتقاما، وتطالب بأن يداعبوها برقة، أن يقبلوها، أن يسمحوا لها بالنوم على الصدور أو الأقدام، وهى متكبرة، وربما مغترة بنفسها، ولا تنقصها المبررات لتكون كذلك، فهى تعرف جيداً أن البهجة تملأ أرواحا كثيرة حين ترتفع بطريقة ظريفة، وأن أرواحا كثيرة تختنق بالضيق عندما تسقط بطريقة سيئة. «تعلمت من تلك اللعبة أن الكرة لا تأتى مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التى ينتظرها منها..وقد ساعدنى ذلك كثيراً فى الحياة خصوصاً فى المدن الكبيرة حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة»، هكذا قال «ألبير كامو « الذى لعب كرة القدم كمحترف وليس كهاو،وكاد أن يصبح واحداً من أهم حراس المرمى فى العالم ، لكن الفقر الذى عاشه أثناء فترة الاحتلال الفرنسى للجزائر جعل الأمراض تعرف طريقها اليه مبكراً فقد أصيب الشاب الجامعى بمرض السل ، فانقطع عن الرياضة وعن كرة القدم مرغماً بعد أن لعبها كحارس مرمى لفريق كرة القدم بجامعة وهران 1930،ومع تقلبات الحياة دخل «كامو» معركة استقلال الجزائر باعتباره كاتبا ومفكراً ، وحكى «كامو» عن الساحرة المستديرة التى علمته الكثير ، وكيف كان يتأمل جنونها ومتعتها ،وخفقات القلب فرحاً كلما نجح فى انقاذ مرماه من هدف محقق ،واعجابه بنفسه وهو يسمع آهات الجمهور ،ونظرات الاعجاب فى عيون زملائه كلما خرجت الشباك نظيفة ، هل تأتى الكرة من الجهة التى ينتظرها البرازيليون ؟! الروائى البرازيلى الكبير «باولو كويليو» الذى حمل ملف البطولة ضمن وفود بلاده ، يشعر بالقلق من انحراف الكرة عن مسارها ، ، وقال إن الخوف من غضب الفقراء ربما يحول دون الاستمتاع بكرة القدم ، وانتقد صاحب « صحراء التتار» البذخ الحكومى المبالغ فيه ، لكنه أكد انه سيكون بجوار أبناء شعبه وانه سيحاول بكل طاقته المساعدة فى نجاح البطولة ، وكانت «ديلما روسيف » قد دعته لإلقاء محاضرات قبل انطلاق المباريات عن حضارة البرازيل وطبيعة شعبها وتم تخصيص قاعات خاصة فى الاستاد الرئيسى لهذا الغرض ، وهو تقليد أقدمت عليه ألمانيا فى مونديال 2006 وحقق نجاحاً كبيراً ، حيث تم توجيه الدعوة لكبار الأدباء والعلماء الألمان فى كل انحاء العالم للالتقاء بالجمهور وتسليط الضوء على ثقافة ألمانيا ، وهو مايطمح إليه «كويليو « الذى وجه الدعوة لعدد من أصدقائه الأدباء والفنانين للمشاركة فى الترويج للبطولة التى تنظمها بلاده ، وأصبحت الآمال والطموحات فى بلاد السامبا معلقة بالساحرة المستديرة التى لم تكن سوى مثانة جاموسة منفوخة عند الإغريق والرومان ، فى حين صنعها الفراعنة من القش وقشور الحبوب، ولفوها بأقمشة ملونة، أما الأوربيون كما يقول إدوارد جاليانو فى العصور الوسطى وعصر النهضة فكانوا يتنازعون فيما بينهم كرة بيضاوية مملوءة بشعر من الخيول، أما الكرة المطاطية التى تُنفخ بمنفاخ والمغطاة بطبقة من الجلد، فولدت فى أواسط القرن العشرين ، بفضل عبقرية «تشارلز جوديير، وهو أمريكى شمالى،وبفضل عبقرية الثلاثى الأرجنتينى «توسولينى، وبالبونسى، وبولو» تم اختراع الإطار الداخلى المزود بصمام ، ومنذ مونديال 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى الذى كان يسببه الرباط المستخدم سابقا فى ربطها وتدويرها. هل تحالف الكرة عشاقها وتصنع المستحيل،أم تخونهم وتنحرف عن مسارها وتفقد ديلما روسيف منصبها ؟ .