ظل الفقهُ في مجمله بأبوابه ومسائله المعروفة في كتب الفقه المعتمدة عصورًا كثيرة لم يطرأ عليه تغيير جذري، ولم يكن ذلك عيبًا، بل كان لعدم وجود المحدثات الجديدة الجذرية التي شهدها العصر الحديث، ابتداءً من ثورة المواصلات والاتصالات، وحتى اليوم، وما تلا هذا من تغيير في البنية الثقافية والفكرية وظهور معارف جديدة وتوليد لعلوم كثيرة وتغير كبير في نمط المعيشة اليومي، واختلاط شديد في الآراء والأفكار والأهواء في بعض الأحيان وأزمات ومشكلات وتحديات من نوع جديد، كل هذا يدعو إلى اجتهاد جديد مرتبط بالأصل ومتصل بالعصر . ولما كانت الفتوى تتصف بالتغير في جهاتها الأربع وهي الزمان والمكان والأحوال والأشخاص فإن بناءها اعتمد على هذا الاختلاف، وهذا البناء مُؤسَّس على أن الاختلاف في هذه الجهات الأربع- مع الحرص على تحقيق مقاصد الشريعة- يقتضي تغير الفتوي بناء على التغير الحادث من ذلك الاختلاف؛ فيكون الفقيه بذلك قد التزم تحقيق الشريعة ونظر إلى مآلات الأحكام.
ويمكننا أن نحدد معالم تلك العوامل التي على أساسها تتغير الفتوى، وهي تغير الزمان والذي يُقصد به تغير العادات والأحوال للناس في زمن عنه في زمن آخر مهما اختلفت المؤثرات التي أدت إلى تغير الأعراف والعادات، وقد أُسند التغيير إلى الزمان مجازًا، فالزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير، فالتغيير يتناول أفكارهم وصفاتهم وعاداتهم وسلوكهم، مما يؤدي إلى وجود عرف عام أو خاص، يترتب عليه تبديل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، وإنما نُسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم؛ لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العادات والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب.
وقد روى البخاري أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: «عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها»، قال يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب»، قال: ضالة الإبل، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك وما لها، معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر. فكانت ضوال الإبل في زمن عمر رضي الله عنه إبلاً مرسلة تتناتج ولا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بمعرفتها وتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.
أما عن تغير المكان، فيعود إلى اختلاف البيئة، حيث إن له أثرًا مهمًّا في تغير الأحكام الشرعية؛ لأن الناس يأخذون بعض الخصائص من البيئة، وهذه الخصائص تؤثر في العادات والعرف والتعامل، لذلك تظهر إشكاليات نقل القوانين من بيئة إلى أخرى ومن مكان إلي آخر، ومن هنا قد نجد أن أحكاما مستقرة في مكان تختلف عما استقر في مكان آخر، وذلك كما لو تعارف أهل مكان على إعطاء المستأجر وجبة غداء ولم يكن هذا الأمر مستقرا في الأماكن الأخرى، فيكون هذا الزائد على الأجرة هو جزءا منها حتى ولولم ينص عليه في العقد، إذ إن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، ويحق للعامل المطالبة به، ولا يكون ذلك للعامل في المكان الآخر إلا بالشرط والاتفاق.
كما تتغير الأحكام تبعا لما وصل الناس في مكان ما من سنن قد لا تكون وصلت لأناس آخرين في مكان آخر، ويقرر الإمام مالك ترك الناس في الأقطار المختلفة أحرارًا في الأخذ بما سبق إليهم، أو اختيار ما يطمئنون إليه من أحكام ما دام هدف الجميع إقامة الحق والعدل في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعن التغير في الأشخاص والأحوال ففتوى المفتي تتغير بتغير الأشخاص والأحوال، فالشخص إما أن يكون شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا: والشخص الطبيعي: هو الفرد المتمثل في الإنسان وهو يكتسب الشخصية الطبيعية القانونية بمولده، وهو ما تدور حوله أحكام الفقه الموروث، ولذا فإن تغير الشخص الطبيعي يسير، أما الشخص الاعتباري أو المعنوي فهو مجاز قانوني يعترف بموجبه لمجموعة من الأشخاص أو الأموال بالشخصية القانونية والذمة المالية المستقلة عن أشخاص أصحابه أو مؤسسيه، والتطور الهائل جعل التغير في الشخص الاعتباري أكثر تأثيرًا على الفقه الإسلامي المعاصر.
أما عن العنصر الثاني فهو تغير الأحوال فقد علّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نراعي الأحوال التي تنشأ والظروف التي تستجد، مما يستدعي تغير الحكم إذا كان اجتهاديًّا، أو تأخير تنفيذه، أو إسقاط أثره عن صاحبه إذا كان الحكم قطعيًّا، فمن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، كما روى أبو داود، وهو حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامة الحد في هذه الحالة خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله تعالى من تعطيله أو تأخيره، وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية وغضبًا، فلا تقام الحدود في أرض العدو. هذا تفصيل لعوامل تغير الفتوى الأربعة المسئولة عن تغير الفتوى من جيل لجيل. وللحديث بقية لمزيد من مقالات د شوقى علام