قليلون هم أمثال الشيخ عبد الله العلايلى فى عالمنا العربى المعاصر. قليلون هم الذين جمعوا مثله بين العقلانية والديمقراطية فى الفكر وفى السيرة الشخصية وفى الاجتهادات فى ميادين متعددة من المعرفة، فى الفقه الدينى وفى علم اللغة وفى علم التاريخ وفى الأدب وفى الموقف السياسى الجريء من القضايا العامة فى لبنان وفى العالم العربي. ويستطيع المتتبع لسيرة العلايلى أن يرى بوضوح انه كان، منذ شبابه الأول، مختلفاً عن سواه من أقرانه فى شئون الدين والدنيا، مهموماً بتحقيق التغيير الديمقراطى فى العالم العربى فى الفكر وفى السياسة وفى السلوك، وفى الفهم الحقيقى للدين ولقيمه الروحية وفى الاعتراض كل أنواع الخرافات والبدع التى أدخلت تعسفاً على الدين وجعلته عائقاً أمام التقدم. واستمر فى تميزه ذاك حتى آخر العمر. وكان كل من تفرده وتميزه يحملان طابع الثورة وسماتها. فالثورة بالنسبة إليه لا تحقق أهدافها بمجرد الاعلان، لا سيما الشعبوى منه، من رفض الواقع القائم أو نظام حكم استبدادي، أو منظومة الأفكار القديمة. بل هو كان يرى الثورة عملاً متواصلاً يتصف بالجهد المبدع والشجاع، بحثاً عن البدائل الضرورية للواقع القائم وللنظام الاستبدادى ولمنظومة الأفكار السائدة. الثورة، بالنسبة إليه، كانت، فى كل حياته وفى عمله الفكرى والسياسي، فعل تغيير متواصل فى اتجاه التقدم. هكذا كان موقفه فى المدرسة عندما كان طالباً. وهكذا كان موقفه عندما التحق بالأزهر ليصبح رجل دين. فالأزهر لم يكن، بالنسبة إليه، مجرد مدرسة دينية. والدين لم يكن، بالنسبة إليه، مجرد عقيدة. فلكل شىء، من منظار العلايلي، وظيفة تصب فى صالح الحياة الإنسانية تحقيقاً لحرية الإنسان وسعادته. فهو كان يرى إلى حركة التاريخ على أنها تواصل وتجاوز، وأن النضال وحده هو الذى يحررها من العبثية فى مسارها. ومن هذا المنطلق قرر أن يتخذ من اللغة الموقف الثورى نفسه الذى اتخذه من القضايا الأخرى، عندما اكتشف بوعى مبكر أن اللغة ليست مجرد علاقة تخاطب بين الناس. بل ان لها وظيفة أكبر من ذلك وأشمل، تتمثل فى دورها كأداة تقدم.
كانت نظرة العلايلي، منذ وقت مبكر، إلى الأشياء وإلى الأفكار والى الناس أفراداً عظاماً ومؤسسات من شتى الأنواع، محكومة بفكرة أساسية هى فكرة الابداع الدائم. والإبداع عنده يتطلب، بالضرورة، البحث عما يتصل بتحسين شروط حياة البشر، وتحريرهم من كل ما يعيق تجدد حياتهم وتطورها، وتحقيق الحرية والكرامة والتقدم والسعادة لهم. وهذا ما أكسبه قيمته الفكرية الكبرى، وجعله واحداً من كبار رواد النهضة المعاصرين فى ميادين العلم والمعرفة التى اجتهد فيها وأبدع وقدم الجديد الذى رسم له شخصيته المميزة. ولد الشيخ عبد الله العلايلى فى بيروت فى عام 1914. تابع دراسته الأولى فى كتّاب المعلم عيسى كتوعة الواقع قرب الجامع العمرى فى وسط العاصمة، وانتقل منه إلى كتّاب الشيخ نعمان الحنبلى الذى عرف باسم المدرسة السورية، ثم إلى كتّاب الشيخ مصطفى زهرة. التحق بمدرسة "الحرج الإبتدائية" التابعة لجميعة المقاصد الخيرية الإسلامية فى بيروت. وظل فيها حتى عام 1923. توجه فى عام 1924 إلى الجامع الأزهر فى القاهرة برفقة شقيقه الشيخ مختار. وظل يتابع الدراسة هناك حتى عام 1935. فى عام 1936 عاد إلى بيروت وانصرف للوعظ والإرشاد فى الجامع العمرى الكبير. وداوم على ذلك ثلاثة أعوام. وكان فى أثناء ذلك يطرح آراءه حول قضايا إصلاحية فى صيغة رسائل حول دور المفتى والافتاء وحول الأوقاف وحول المحاكم الشرعية. وفى عام 1956 كلفه الجنرال فؤاد شهاب قائد الجيش اللبنانى بالعمل على وضع معجم للمصطلحات العسكرية. وهى المهمة التى لازمها من عام 1956 حتى عام 1968. وكانت حصيلتها أربعين ألف كلمة. وقد تولّى الجيش اللبنانى طباعة هذا المعجم الذى اعتمدت عليه جامعة الدول العربية عندما أرادت توحيد المصطلحات العسكرية لجيوش الدول العربية. يعرض الشيخ العلايلى روايتين حول أصول أسرته وحول إقامتها فى بيروت. تقول الرواية الأولى بأن الأسرة قدمت من مصر، فى حين تذكر الرواية الثانية أنها أتت من بلدة "علايا" فى لواء الإسكندرون. ويرجح العلايلى الرواية الأولى ويقدم أدلة على ذلك منها أن الكثيرين من أبناء هذه الأسرة يقيمون منذ زمن طويل وحتى الآن فى دمياط والمنصورة والإسكندرية، وأن المنقبين وجدوا فى إحدى مدافن بيروت القديمة شاهد قبر يعود تاريخه إلى عام 1732 يسجل وفاة مصطفى العلايلى ابن أخت عبد الرحمن آغا، الحاكم العسكرى للقاهرة فى زمن على بك الكبير. وهذا يعنى وجود صلة واضحة بين فرعيّ العائلة. ويذكر العلايلى أنه التقى فى أثناء إقامته فى مصر الشيخ عبد السلام العلايلى الذى كان نقيب الأشراف فى دمياط، واطلع منه على ما يفيد بأن الأسرة تقيم فى مصر منذ أواخر الحكم الفاطمى (969-1171) ويرجح الشيخ العلايلى أن يكون اسم الأسرة نسبة إلى الإمام على بن أبى طالب، من طريق إلحاق أداة النسبة التركية "لي" باسم علي. تعرفت إلى العلايلى من خلال كتاباته فى مجلات "الاديب" و "الطريق"، و"كل شيء" و"الثقافة الوطنية". منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي. ولم ألتق به إلا فى مطالع الخمسينات. ثم توطدت علاقتى معه بدءاً من أواسط الستينات. وأول ما قرأته للعلايلى كتابيه: "المعرى ذلك المجهول"، و "سمو المعنى فى سمو الذات او اشعة من حياة الحسين". وكانت مجمل كتاباته تعالج قضايا وأفكاراً وأحداثاً سياسية واجتماعية وفكرية متعددة ومتنوعة. فالشيخ العلايلى لم يكن رجل دين من النوع الذى ساد طويلاً فى بلداننا. بل هو كان رجل علم ومعرفة وفكر وجدل، ورجل سياسة لا يساوم ولا يهادن، ويحتقر النفاق والدجل فى السياسة. وكان هذا التنوع فى نشاطه الفكرى والسياسى مصدر إمتاع وغنى لمن كان يتابع كتاباته وخطبه وسجالاته ومعاركه السياسية والفكرية والفقهية. وحين بدأ مشروعه فى علم اللغة المتمثل "بالمعجم"، استكمالا لاهتماماته المبكرة فى فقه اللغة العربية ودفاعاً عن لغتنا القومية، التى كرس لها كتابه الشهير "مقدمة فى درس لغة العرب"، كان قد أصبح علاّمة متعدد ميادين العلم والمعرفة. وكان فى الآن ذاته رجل سياسة يمارسها على قاعدة برنامج محدد للتغيير من موقع القيادة التى اختار أن يكون فيها شريكاً لكمال جنبلاط فى تأسيس الحزب التقدمى الإشتراكى فى أواسط عام 1949. وكان كل ذلك مصدراً أساسياً فى اهتمامى واهتمام الكثيرين من ابناء جيلى بالعلايلى منذ أربعينات القرن الماضي. كنت منذ مطلع شبابى مندفعاً بحماس فى طريق الثورة، من موقع الانتماء للاشتراكية فكراً ومدرسة كفاح ومشروعاً مستقبلياً. وكنت أجد فى فكر العلايلى وفى مواقفه وفى معاركه ما يعبر عن طموحى ويتلاقى مع أفكاري. وهكذا تابعت نشاطه الفكرى والسياسي. وتابعت معركته فى أول خمسينات القرن الماضى للوصول إلى منصب مفتى الجمهورية اللبنانية. وقد خاض معركته تلك على قاعدة برنامج جديد مختلف جذرياً عن الدور الكلاسيكى الطائفى الوظيفى لذلك المنصب. وتطوعت مع العديد من الشباب التقدميين الذين نشطوا فى توزيع بيان العلايلى فى الأوساط الشعبية خصوصاً، إثباتاً لجدية ونوعية مهمة رجل الافتاء. وإذ خسر المعركة بأصوات قليلة فانه ربح الشعب. وظل يتابع معركته فى الميدان السياسى من خلال مشاركته فى المهرجانات الجماهيرية التى كانت خطبه الرنانة فيها تلهب المشاعر. اذ كان يحرص فى كل خطبه على كشف الغطاء عن الخطأ، ودعوة الجماهير إلى الثورة على كل ما هو فاسد وظالم، وعلى كل ما هو جامد معطل لحركة الانسان الحرة ومعيق لتطور الحياة ولتجددها وتقدمها. ويذكر الكثيرون من أبناء جيلى خطابه الشهير الذى القاه فى عام 1957 ضد حكم الرئيس كميل شمعون أمام حشد من عشرات الألوف من أهالى العاصمة بيروت. وهو الخطاب الذى أعلن فيه بصوته الجهورى وبلغته الفصيحة الجميلة الواضحة: لقد جاء بهم الأجنبي، فليذهب بهم الشعب. وكان ذلك العام حافلا بالمعارك الصعبة، التى سرعان ما انتهت فى عام 1958 إلى ثورة شعبية. وفى يقينى فإن سيرة العلايلى التى لم تكتب بعد، أو التى كتبت ولم تعرف، إنما تشكل، بالنسبة للأجيال التى تبحث عن مستقبلها من خلال الثورات الشعبية التى تعم العالم العربي، مصدر الهام ومصدر وعى ومصدر غنى فى الفكر والسلوك. وحين بلغه عشية رحيله قرار الحكومة اللبنانية بتنظيم احتفال لتكريمه، أعلن لوسائل الاعلام وهو يتحدث عن نفسه كمن يتحدث عن شخص آخر، أن التكريم الذى يستحقه رجل علم وصاحب تراث مثل العلايلى لا يتم بالأوسمة ولا بالتحيات ولا بزيارات التهنئة، بل بجمع تراثهم ونشره وتعميمه، بكل الوسائل. ومعروف أن ما لم ينشر من كتابات العلايلي، فى مختلف شؤون الفكر والأدب والمعرفة والتراث واللغة والفقه الدينى والتاريخ، هو أكثر بكثير مما نشر حتى الآن. ان مهمة إحياء تراث العلايلى وتعميمه هى مهمة تنويرية لا بد من العمل لتحقيقها.
لفتتني فى قراءة سريعة للمقدمة التى وضعها العلايلى للمجلد الأول من "المعجم" اشاراته البالغة الأهمية والدلالة فى تحديد مفهوم اللغة عنده، وفى تحديد وظيفتها، وفى تحديد عناصر الخلل فى تطور لغتنا العربية التى يشهد علماء غربيون كبار بأنها قادرة على أن تكون لغة علم بكل ما فى الكلمة من معنى. فهو يؤكد بأن للغة حياة، وان حياتها تخضع للتطور والتجدد مثل كل ما هو حي. ويستشهد العلايلى "بالعماد الأصفهاني" يوم كتب إلى القاضى الفاضل جملته المأثورة": "انه وقع لى شيء. وما أدرى أوقع لك أم لا ؟ وها أنا أخبرك به. ذلك أننى رأيت انه لا يكتب انسان كتاباً فى يومه الا قال فى غده. لو غر هذا لكان احسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن. وهذا من أعظم العبر. وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر". إلا أن العلايلى لا يكتفى بهذا الاستشهاد ليؤكد نظريته. بل هو يقول فى المقدمة المشار إليها: "واتخذت شعاراً لدرسى كله هذه الكلمة: ليس محافظة التقليد مع الخطأ. وليس خروجا التصحيح الذى يخلق المعرفة. فلا تمنعنى غرابة رأى - أظن انه صحيح- من إبدائه، لأن الشهرة لم تعد أبداً عنوان الحقيقة … وأيضاً لا يحول بينى وبين رأى انه قليل الأنصار، لأن الحق لم يعد ينال بالتصويت الغبي. فالانتخاب من عمل الطبيعة. هى لا تغالط نفسها. كما لا تعمد إلى "التزوير". ويتابع العلايلي، فى السياق ذاته: "… والشيء البارز الذى أردناه من وراء ذلك الكتاب (يقصد العلايلى "المعجم") هو التأكيد الملح على ان ما تعلمناه، ولما نزل نتعلمه، بات فى حاجة كبيرة إلى معاودة درسه وتجديد تدوينه، على وجه يكون اكبر حظاً فى باب الصدق، واوفر نصيباً بمعنى الدقة …".
لا أزعم أننى خبير بعلم اللغة. لذلك لن ادخل فى بحث هو خارج قدرتى على الخوض فيه. لكننى أريد فقط أن أسجل تقديرى للجهد المبدع الذى بذله العلايلى فى إعادة طرح مسألة اللغة ، كوظيفة تتجاوز علاقة التخاطب. إذ هواعطاها وظيفة أشمل وأعمق وأكثر غنى، بحيث تسهم فى عملية تجديد حياتنا، وتجديد معارفنا، وتجديد مفاهيمنا. وكان يؤكد على الدوام أن لغتنا العربية هى لغة علم ومعرفة، إلى جانب كونها لغة أدب ولغة دين. وإذا كان ثمة من خلل أصاب قدرة هذه اللغة على مواكبة المعارف الانسانية فان المسئولية فى ذلك تعود إلى الذين يشكل علم اللغة وتطورها اختصاصهم ومهمتهم. إذ كانوا، كما أشار العلايلى فى أكثر من مكان فى كتاباته وأحاديثه ، خارج حركة الحياة، حين أبقوا اللغة خارج عملية التطور. و يعتبر العلايلى أن تحول اللغة العربية الفصحى إلى لغة خارج الاستعمال اليومي، واستبدالها باللهجات العامة المتعددة بتعدد الأقطار العربية ، هو النتيجة الطبيعية لهذا التخلف الذى وقع فيه أصحاب الاختصاص الموكلة إليهم مهمة تطوير اللغة من علماء اللغة ومن المجامع العلمية. الأمر الذى جعل اللغة ذاتها ، فى تخلفها عن التطور ، وإصرار علماء اللغة على تزمتهم فى التعامل معها ، جزءاً من التخلف العام الذى تعانى منه بلداننا العربية، ولو بنسب متفاوتة بين بلد وآخر. على ان جهد العلايلى فى "المعجم" لم يكتمل. فالمشروع كان اكبر من قدرة شخص مهما كان شأنه ومهما كانت قدراته. لكن "المعجم"، بما حققه العلايلى فيه من جهد عظيم، سيبقى منارة فى تاريخ البحث العلمى فى اللغة العربية وفى فقهها. لعل أهم ما أعطى العلايلى قيمته العلمية، كرجل دين وفكر ومعرفة، هو تأكيده الدائم على الاجتهاد والإبداع فى كل ما يتصل بالحياة. اذ هو لم يقصر هذا المنهج على ميدان واحد من الميادين التى كتب وساجل فيها وخاض معارك كبرى. بل هو عمم منهجه هذا على كل ميادين بحثه، وجعله بوصلة حياته العلمية. ولقد يكون العلايلى من القلائل بين المفكرين من وحّد فى الممارسة بين فكره وحياته العملية. لذلك فإن على الباحثين عن معرفة العلايلى معرفة حقيقية وشاملة ألا يكتفوا بنصوصه المكتوبة. بل أن عليهم أن يقرأوا أفكاره فى سيرته ذاتها. فإنصاف العلايلى لا يكون بتقدير جهده الإبداعى فى اللغة والدين والسياسة وحسب، بل فى النظر إليه كنموذج فذ فى القدرة عنده على الجمع والتوحيد بين الفكر والممارسة.
على أن الاجتهاد عند العلايلى يبرز بأجلى مظاهره التقدمية فى كتابه الشهير "اين الخطأ"، الذى يتصدى فيه لتحديد فهمه للدين عموماً، وللدين الاسلامى خصوصاً. وكان عندما يدخل فى سجال معلن أحياناً أو مضمر أحياناً مع مفاهيم خاطئة ومضللة ومشوهة للنصوص الدينية وللآيات القرآنية وللأحاديث النبوية، فإنه كان حاسما فى الرد عليها دفاعاً عن الدين وعن قيمه الانسانية التى هى أساس الدين. فالدين، كما فهمه العلايلي، هو دين حياة. ويتمثل موقفه هذا فى تأكيده على أهمية الحياة الدنيا وأهمية الجهد العملى والعلمى لتطويرها وتجديدها من أجل خير الانسان وخلاصه وحريته وسعادته. لذلك فهو، اذ يتعامل مع النص القرآنى كنص إلهي، يرى فيه جانباً عملياً تعززه الأحاديث النبوية واجتهادات الفقهاء الكبار، ممن تولوا مهمة إيصال الفكر الدينى وقيمه على حقيقتها إلى الجمهور الواسع. واذ يتباعد الجانب العملى عن الجانب العلمى فى قراءة العلايلى لدور الدين عند نقطة الانطلاق فى الشكل، فانه سرعان ما يرى إلى الجانبين وهما يتحدان فى المحصلة التى تقود اليها عملية الربط الصحيح بين الدين والحياة فى تطورهما، من خلال الاجتهاد والابداع والتجديد. ويستند العلايلى فى تأكيد هذا المفهوم لدور الدين إلى الحديث النبوى والى قول مشهور للامام مالك. يقول العلايلى بالنص فى مدخل كتابه "اين الخطأ": «... وإذا كان الاسلام العملى مصدر إبداع، فقد صوره الحديث النبوى بما هو أجمع وأكمل: بدأ الاسلام غريبا، وسيعود كما بدأ، ولكن لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة "غريباً" من الغربة، بل هى من الغرابة، أى الادهاش، بما لا يفتأ يطالعك به من جديد حتى لتقول ازاءه فى كل عصر: إن هذا لشيء عجاب …». أما الاشارة إلى الامام مالك فى الكتاب الآنف الذكر فقد اراد منها العلايلى توجيه النقد الصارخ إلى أولئك الذين يستخدمون الدين لتحقيق أغراضهم الخاصة، التى لا علاقة لها البتة بالدين وبأحكامه وأهدافه. يقول الإمام مالك، كما ورد بالنص، فى إشارة العلايلى إليه فى مدخل الكتاب: «… كان من قبلنا يعمدون إلى كتاب الله وسنة نبيه فيتلقون الأحكام. أما اليوم فنعمد إلى رغباتنا، ثم نبحث فى كتاب الله وسنة نبيه عما يسندها ويشهد لها …».
ويستطرد العلايلى فى نقد هذا النمط من الاستخدام السيئ والمشوه لأحكام الدين فى القرآن وفى السنة، فيقول فى مدخل الكتاب ذاته: "… وهذه الشريعة العملية ( انتبه إلى العبارة الدالة فى لغة العلايلى )… ينعكس فعلها فى الفكر والمجتمع ومناهج السلوك، اذا ظلت أسيرة قوالب جامدة. وهذا ما حاذره المبعوث فيها فى قوله الشريف: "ان الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد دينها…" ويحاول العلايلى إضفاء طابع علمى على هذا الحديث بالاشارة إلى التغيرات التى تحصل فى أجنة الانسان فى فترات غير متباعدة فى الزمن والتغيرات التى تحصل فى حياة الجماعات، مشيراً فى هذا الإطار إلى العلاقة العضوية الطبيعية بين التغيرات التى تحصل فى البنى الفوقية، ويسميها بلغته النواهض، وفى البنى التحتية، ويسميها بلغته الخفائض. يستند العلايلى إلى هذه الاجتهادات فى فهمه للدين ولوظيفته الانسانية ليعلن الثورة فى وجه الظالمين والفاسدين، الذين يستغلون جهد الناس ويستعبدونهم،"وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً"، كما يقول الخليفة عمر بن الخطاب، وليعمموا الفقر بين الناس، بدل تعميم الرفاه والكفاية، حتى "ليكاد الفقر أن يكون كفراً"، كما يقول الامام على ابن أبى طالب. وعلى هذه القاعدة من الفهم للدين يوجه العلايلي، من خلال ثورته هذه، أصابع الاتهام إلى حكامنا الذين يستأثرون بالسلطة وبالأحكام وبالأموال العامة. فهم، فى نظر العلايلي، إنما يسهمون فى تخلف بلداننا وفى تبعيتها وفى فقرها، برغم غنى ثرواتها وثقافتها وحضارتها وتاريخها. يقدم العلايلى فى مقال له رأياً حول الابداع والاجتهاد نشرته جريدة "النهار" اللبنانية (حزيران 1992). وهو رأى يؤكد فيه دور الابداع فى عملية التطور فيقول: "إن الابداع عطاء الفرد، والتطور عطاء الجماعة. إن الأفكار الكبرى فى التاريخ عطاء أفراد، وتغيير المجتمع عطاء جماعة. قبل الثورة الفرنسية كان فولتير شخصاً، وروسو شخصاً، وغيرهم أشخاص أبدعوا أفكاراً. إنه فكر أفراد. وتظل الأفكار كذلك إلى أن تتبناها الجماعة فتصبح ثورة، أى تطوير. عندما يظل فولتير فولتيراً يكون فرداً مفكراً. عندما تصبح الجماعة فولتيرية يكون التطور".
ويؤكد شيخنا فى مقال قديم نشرته مجلة "الأديب" اللبنانية (1947) على العلاقة العضوية بين الفرد والجماعة كشرط لتحقيق التطور والتقدم: ". . . فلكى تسود لنا حالة اجتماعية ثابتة لا بدّ من العمل على التماثل الفردى فى ظل الأواصر الاجتماعية. وبذلك يقوم المجتمع على قوّتين من دفع وجذب. ففى مفهومنا أن صرختى الفردية والاشتراكية ليستا إلا تعبيرين ينمّان عما يتطلّب النوع البشرى من السعادة. . ونحن إذا حلّلنا طبيعة هاتين الفكرتين فى دقة تبعد عن الخطأ نجد ان إحداهما، أى الفردية، تعبر عن نظام الحرية، وأن الثانية، أى الاشتراكية، تعبر عن نظام العمل. . فهما تعبيران عن حاجتين. وتصحيح منزلتهما من جسم الكائن الاجتماعى يقوم على قاعدة الاستقرار. وكل انحراف عن سبيل عملهما جميعاً جعل العالم، ويجعله أبداً، كمتحف الطوفان". ويعطى العلايلى للانسان المقام الحقيقى الذى يعود له فى الحياة الدنيا. يقول فى مقال نشرته مجلة "الأديب" (كانون الأول 1944) تحت عنوان "مقام الانسان": "إن خط الإنسان من الحياة كما هو فى مرآة نفسه التى هى ينبوع المطلق، وليس كما هو فى مرآة الوجود التى لا تعكس إلا نسبية وظلالاً خادعة … وان الوجود كائن بسيط. وهو لا يملك إلا حقائق بسيطة. أما حقائق الوجود العظمى فهى من هبات الإنسان على الوجود … فالحياة وأشياؤها، والوجود المعنوى وفكرته، بدعة هذا الانسان العجيب … والإيمان بالله أو المطلق الذى دعت إليه الأديان والفلسفات انما هو فى حقيقته إيمان بالإنسان، وهدم للإيمان بالوجود الصامت الذى هو وثنية تحول بين الإنسان وبين الإيمان بنفسه ومعرفتها … والى هذا يرمز قول قديم مأثور ( من عرف نفسه فقد عرف ربه) … فإن الإنسان وحده هو الحقيقة الكبرى فى الحياة والوجود. فقد خلقه الله على صورته ومثاله". كان العلايلي، إلى جانب اهتماماته اللغوية والدينية والفكرية والأدبية والسياسية، يعالج احداثاً تاريخية ذات صلة بتاريخ الاسلام. وكان يهدف من وراء الاهتمام بذلك التاريخ تصحيح وتدقيق الكثير من الامور التى كان قد كثر اللغط حولها وكثر التشويه، سواء فى سيرة النبى أم فى سيرة الصحابة من الخلفاء الراشدين ومن سواهم. وأصاب التشويه الحروب التى خاضها النبى لنشر الدعوة إلى الدين الجديد، الاسلام. فألف كتباً صحح فيها ما شوهته كتب وأحاديث مليئة بالبدع وبالخرافات وبالأكاذيب الشعبوية. وقد لفت نظرى من بين كتبه تلك كتاباه اللذان كرسهما لسيرة الحسين بن عليّ. قرأتهما بدافع الفضول لكى اعرف كيف تعامل العلايلى مع السيرة الملحمية لتلك الشخصية الفذة فى تاريخ الاسلام. وفى الواقع فقد ادهشتنى السيرة ذاتها بوقائعها الحقيقية المختلفة بالكامل عن السائد الذى يعرض فى حفلات عاشوراء ، والذى يشوه صورة وسيرة الحسين. كما أدهشنى المنهج العلمى عند العلايلى فى كتابة التاريخ ، وفى سرد وقائعه، وفى تحليل الأسباب والنتائج ذات الصلة بتلك الاحداث والوقائع وسير الأفراد الذين يسهمون فى صنعها. فالعلايلي، اذ يتابع سيرة الحسين منذ الطفولة ، ويبين الأثر الواضح لتربية النبى محمد فى حفيده ، فانه سرعان ما يكتشف فى تلك الشخصية ملامح تشير إلى عبقرية صاحب العقيدة ورجل السياسة. . فالحسين، فى قراءة العلايلى لسيرته من أولها إلى آخرها ،هو عقائدى حازم لا يساوم فى عقيدته حتى الاستشهاد. وهو، فى الوقت عينه ، سياسى براغماتى ، يعرف كيف ومتى يتقدم ، وكيف ومتى يتراجع ، وكيف ومتى يستعد للتقدم من جديد. وقد تأكد لى من قراءة السيرة الحسينية ان الحسين لم يختر عامداً متعمداً الاستشهاد. فهو على دين والده الامام على ضد قتل النفس عمداً فيما صار يعرف بالعمليات الاستشهادية. فالنوع الوحيد من التضحية هو فى الكفاح والجهاد وليس بالعمليات الانتحارية . فالحسين كان مثل الامام عليّ يعتبر الحياة اولى بأن نعيشها ، وان الموت حين يأتى فلضرورة يتمّ خارج إرادة البشر وخارج تفكيرهم. ويشير العلايلى فى الكتاب المشار إليه إلى أن واقعة كربلاء جاءت نتيجة لظروف لم يكن للحسين دور فى توليدها على النحو المعروف تاريخياً. وقد شجعتنى رواية العلايلى لسيرة الحسين على المضى فى موقفى المعترض على العمليات الاستشهادية بكل إشكالها.
فى العودة إلى سيرة شيخنا الجليل، التى هى الترجمة العملية لفكره النظري، لا يسعنى الا أن أقف عند بعض المحطات البالغة الدلالة فيها. وهى ثلاث محطات، من جملة محطات عديدة وغنية فى حياة العلايلي، أود التوقف عندها بكلمات قليلة: المحطة الأولى تتمثل فى حدثين. الحدث الأول هو انخراطه مع كمال جنبلاط فى تأسيس الحزب التقدمى الاشتراكي. فقد كانت له مساهمة أساسية فى صياغة ميثاق الحزب. أما الحدث الثانى فهو انخراطه مع المهندس انطون ثابت فى تأسيس حركة أنصار السلم. يؤكد العلايلى فى هذين الموقفين أن الاسلام دين حياة وليس مجرد عقيدة، وانه فاعل ومتفعل مع حركة التاريخ ومع أحداثها، بخلاف ما يريده له المتزمتون. وقد أعطى العلايلى للسياسة، خلال وجوده فى هاتين الحركتين السياسيتين، مضمونا فكريا وأخلاقيا وقيمياً، بخلاف ما كان سائداً فى الحياة السياسية. المحطة الثانية هى التى تتمثل فى موقفه السلبى من الثورة الناصرية، ومن الرئيس جمال عبد الناصر، بسبب تنفيذ حكم الاعدام على العاملين خميس وبقرى لمجرد انهما قادا اضراباً عمالياً. ويعتبر العلايلى الثورة الناصرية انقلاباً عسكرياً مثل سائر الانقلابات العسكرية السابقة. ويؤكد أنها بسماتها وبتدابيرها شكلت قطعاً لتطور ديمقراطى كانت معالمه تبرز وتتعمق منذ أواسط أربعينات القرن الماضى حتى أوائل الخمسينات. كان حاسماَ فى موقفه الرافض للإستبداد أية كانت الصيغة التى اتخذها. وظل على امتداد حياته يدعو إلى تحرير البلدان العربية من أنظمة الاستبداد التى سادت فيها طويلاً. كان فى كل مواقفه عميق الإيمان بالديمقراطية. وكان يعمل من أجل أن تسود الديمقراطية عالمنا العربي، لكى يحرر القومية العربية، التى يعلن اعتزازه بالانتماء إليها، من كل ما شابها ويشوبها من تشويهات. وهو، اذ يكرر فعل ايمانه بالقومية العربية فى كثير من المناسبات، فانه يستند فى ذلك إلى موقف مبدئى كان قد صاغه وحدده فى مقال تحت عنوان "لماذا أنا قومى عربي" نشر فى مجلة "الأديب" فى عام 1944. وهو مقال لم اعثر عليه. لكننى اثبت فيما يلى ملخصاً له صاغه الأديب على سعد فى بحثه المنشور فى الكتاب المكرس للعلايلى الذى أصدره اتحاد الكتاب اللبنانيين. يقول على سعد فى تلخيصه لموقف العلايلي: "يتضمن مقال العلايلي"لماذا أنا قومى عربي" فعل إيمان بانتمائه القومى واعتزازاً بعقيدته القومية العربية. ويعبر عن المضمون نفسه رأيه حول تأثير اللغة فى تكوين الشخصية الاجتماعية والفكر القومي. ويؤكد حقيقة أن كل الأقوام التى تعيش فى البلدان العربية هى عربية، بصرف النظر عن منشئها الأصلى ومكوناتها العرقية، وذلك لمجرد أنها تتكلم اللغة العربية، وتنطبع بالآداب والتقاليد والعادات والخصائص العربية التى اقتلعت ما عداها، فى الأقطار التى سيطر عليها العرب زمناً طويلاً، بفضل لغتهم وآدابهم وأنظمتهم وتقاليدهم. فنراه يعلن فى المقالة المذكورة: "ولا شك فى أن المد العربى وتياراته كانت عنيفة جارفة، ودخلها عنصر الزمن الطويل، حتى لنستطيع القول بأن العرب، فى أية بقعة من الأرض يوجدون الآن عليها، يرجعون إلى ما قبل ألف سنة، أى أن الصفة القومية العربية فى كل بقعة أقدم وأرسخ من كل صفة قومية حية فى العالم". المحطة الثالثة تتمثل فى موقف العلايلى من الاشتراكية، ومن الحزب الشيوعى اللبنانى بالذات. فهو كان صديقاً دائماً للاشتراكيين، وصديقاً دائماً للشيوعيين. وكان، فى تقديره لدور الشيوعيين، شديد الحرص على نقد الخطأ حين كان يراه واضحاً من وجهة نظره فى سياساته، انطلاقاً من قناعة عنده بأن على الحزب الشيوعى وعلى سائر الأحزاب التى تنادى بالتغيير أن تكون أمينة لأفكارها ومبادئها المعلنة.
قد تختلف مع العلايلى فى اجتهاداته الفكرية والفقهية واللغوية والسياسية، لكنك لا تستطيع إلا أن تحترم فيه دور العالم الجليل والمفكر الكبير والفقيه المنفتح على الحياة، والسياسى المبدئي، ورجل المثل والقيم. فهذا النوع من الرجال هم الذين تحتاج إليهم بلداننا وهى تبحث عن نهضتها وعن مشروع جديد لهذه النهضة. لذلك فحين نتوقف عند جهد هذا العالم والمفكر والفقيه والمؤرخ والسياسي، سواء فى ميدان البحث والاجتهاد أم فى ساحات النضال، أى فى النصوص المكتوبة وفى السيرة، فأننا نسهم بذلك فى شق الطريق امام استلهام مثاله ونموذجه فى بحثنا الراهن عن الطريق الصحيح إلى النهضة، أى إلى الخروج من الواقع المأزوم إلى المستقبل المرتجى. لمزيد من مقالات كريم مروَّة