صورة للأزمة من داخل مجلس وزراء عبد الناصر .. استطاع جمال عبد الناصر أن يخرج من أزمة فبراير68 عندما ثار الشباب عليه لأول مرة, من خلال رؤية تعامل بها مع غضبة الشباب علي أنها ليست بسبب هزيمة ارتكبها بعض العسكريين وإنما هزيمة سياسية للنظام الذي بناه, وحلم به الشباب, وفي مواجهة ذلك أعلن عبد الناصر تشكيل حكومة دخلتها مجموعة من الوجوه الجديدة من أساتذة الجامعات. وبعد ذلك أعلن ما أطلق عليه بيان30 مارس( انظر حلقة الأسبوع الماضي) الذي حاول أن يضمنه بعض مطالب الشباب متبنيا شعار الشعب يريد وأنا معه وقد طرح برنامج30 مارس لاستفتاء يوم2 مايو68 وفي اليوم التالي أعلن وزير الداخلية أن أكثر من سبعة ملايين ناخب اشتركوا في الاستفتاء بنسبة98.2% من المقيدين في كشوف الانتخابات, وأن99.989% قالوا نعم, وهي أرقام تعني أنه لولا بعض المرضي الذين اضطرتهم الظروف لعدم الحضور لكانت نتيجة استفتاء حضورا وموافقة مائة في المائة. ولكن وقبل أن اعبر هذه الأزمة أعود الي كواليسها وأهمها مجلس الوزراء جلسة25 فبراير1968, وكان جدول اعماله المعلن من قبل مناقشة تقرير لجنة الخطة والمواصلات لكن احداث مظاهرات الطلبة فرضت نفسها علي الاجتماع الذي افرد له وزير العدل الاسبق المستشار عصام الدين حسونة صفحات في كتابه المهم الذي اصدره عام1990 وضمنه شهادته كوزيرا للعدل تحت رئاسة عبدالناصر في الفترة من اكتوبر65 الي20 مارس1968 فقد خرج حسونة من تشكيل الوزارة الجديدة التي شكلها عبد الناصر في إطار التغييرات التي جرت بعد مظاهرات الطلبة, وسيعرف القارئ عند مراجعة ما قاله عصام حسونة في الاجتماع لماذا خرج. يحكي عصام حسونة وقد كان مشهورا بالنزاهة والشخصية القضائية العادلة أنه في أول الجلسة دعا الرئيس عبد الناصر وزير الحربية( الفريق محمد فوزي) الي الكلام فقال: ثبت الإهمال ضد قائد الطيران. حكم المحكمة سليم ووقع الحكم طيب في القوات المسلحة ولهذا صدقت علي الحكم. الرئيس: نأخذ رأي المجلس د. لبيب شقير وزير التعليم العالي: مظاهرات الطلبة تحركت عقب صدور الحكم والذين حركوها عناصر يمينية رجعية, وقد تتبعنا زعماءهم وجدناهم من الجمعية الشرعية ومن الإخوان المسلمين. وقد كان موقف الشرطة عظيما ورأيي إعادة محاكمة صدقي محمود أمام محكمة ثورة أو محكمة شعبية لأن العقوبة الصادرة(15 سنة) لا تكفي. د. النبوي المهندس وزير الصحة: يجب تعليق صدقي محمود وزملائه علي المشنقة في ميدان عام. الطلبة المصابون في المظاهرات اعربوا لي عن ولائهم للرئيس وحملوني رسالة انهم يقبلون يد الرئيس وقد زرتهم في المستشفي مع الأخ سامي شرف. يضيف عصام حسونة إلي ما سبق فيقول: كنت أجلس علي اليمين بجوار الفريق محمد فوزي بيني وبينه السيد أمين هويدي عندما بدأ دوري في الكلمة بعد أن أعلن معظم اعضاء المجلس الذين سبقوني تأييدهم للرأي القائل بإلغاء الحكم وإعادة المحاكمة. أما الباقون فلاذوا بالصمت. وزير العدل( عصام حسونة): ثمة سؤال يجب طرحه بادئ ذي بدء قبل الكلام عن الحكم الصادر ضد الفريق صدقي محمود. السؤال هو هل يجوز لمجلس الوزراء ان يناقش قضية صدر فيها حكم من محكمة مختصة قانونا بإصداره؟ الجواب عندي لا يجوز لمجلس الوزراء ان يتكلم في القضية لهذا السبب ولسبب آخر, وهو أن هناك قضية أخري هي قضية شمس بدران ينظرها السيد حسين الشافعي الذي يشاركنا في حضور مجلس الوزراء وأخشي أن يشعر بالحرج من هذه المناقشة.. إنني أسأل الذين تحدثوا عن الحكم هل ألموا بالتحقيقات ؟ هل عرفوا ظروف الاتهام؟ هل قدروا مسئولية صدقي محمود ومن هم فوقه ومن هم دونه ؟ إنني لا أعرف صدقي محمود معرفة شخصية وأخمن أن سنه55 سنة والحكم محل النقاش قضي بمعاقبته15 سنة, فلو أعيدت محاكمته فإن أقصي عقوبة يسمح بها القانون هي الاشغال الشاقة المؤبدة أي نحو20 سنة, فما الفرق بالنسبة لصدقي محمود وسنه55 سنة بين15 و20 سنة. أما من حيث وقع العقوبة علي الرأي العام فإن الرأي العام لن يرضيه إلا الدم, الجمهور يريد الدم. دم النظام كله. إنني مندهش أن يطالب د. لبيب شقير بنقل القضية الي محكمة ثورة أو ما سماه محكمة شعبية لتحكم بعقوبة أشد. فهو يعرف كأستاذ قانون أن المحكمة الجديدة أيا كان إسمها لا يمكنها قانونا أن نحكم بأكثر مما تحكم به القانون. الرئيس مقاطعا: أولا حسين الشافعي لا يشعر بالحرج من هذه المناقشات في حضوره. أنا نفسي سألته عن حكم صدقي محمود قال لي هاته وانا أحكم عليه بالإعدام. وزير العدل: علي أي حال أنا أري ان يركز المجلس مناقشته علي مظاهرات الطلبة التي أعقبت صدور حكم الطيران, وأن نستخرج منها الدلالات السياسية الصحيحة. إنني أرجو من السيد وزير الداخلية بإلقاء بيان عن وقائعها وإن أمكن أن يقدم تحليلا عن حوافزها واتجاهاتها ومؤشراتها. كما أرجو من السيد الأمين العام للاتحاد الإشتراكي بوصفه المسئول عن التنظيم السياسي أن يلقي كل الأضواء الممكنة علي هذه المظاهرات. وهناك نقط يجب أن يتوقف عندها المجلس وان ينظر اليها لا بعين السلطة كما قلت. ولكن بعين الساسة ويجب أن يسهم المجلس جميعه في مناقشتها فهذه أول مظاهرات يمكن ان تسمي انتفاضة سواء من حيث النوع أو الأهداف أو الشعارات. البغل في الإبريق تفرعت المناقشة كما يحكي عصام حسونة إلي دور الإعلام في ظروف الحرب التي تعيشها البلاد وإلي مسرحية البغل في الإبريق التي عرضتها فرقة تحية كاريوكا ولقيت نجاحا كبيرا, فقد كانت تقريبا أول مسرحية سياسية دارت حول إدانة مختلف المسئولين واعتبرتهم لصوصا ومرتشين وانتهازيين عدا واحد وهو الرئيس. الرئيس: نعود الي قضية الطيران لقد اطلعت علي أقوال الشهود والغريب أن مدكور أبو العز قائد القوات الجوية الجديد شهد لمصلحة صدقي محمود. ماذا يريد الطلبة؟ ثم وجه السؤال لي: ما رأيك في إعادة محاكمة صدقي محمود. وزير العدل: ليس هناك طريق لمحاكمة أخري إلا بأسلوب ماو. الرئيس: ماو؟ وزير العدل: أسلوب الثورة في الصين. هناك ينفذون الحكم الذي تريده القيادة السياسية في المتهم ثم يسألون الجماهير في ميدان عام هل يوافقون. كيف نعلق صدقي محمود علي المشنقة في ميدان عام وأقصي عقوبة يسمح بها القانون لجريمته هي الاشغال الشاقة. الفريق محمد فوزي: يبدو لي أن الحكم كان سيئ الوقع علي القوات المسلحة. إنني أري تحوير الحكم وإعادة المحاكمة. الرئيس موجها كلامه لي: هل لك تعليق؟ أجاب وزير العدل: لا تعليق وهنا اقترب السيد عبد المجيد فريد سكرتير عام مجلس الوزراء وقدم للرئيس المنشور الصادر من طلبة كلية هندسة القاهرة والمتضمن لطلباتهم, وقد كان خالد عبد الناصر ابن الرئيس موجودا بينهم, وبعد أن قرأ الرئيس المنشور قال: يبدو أن حكم صدقي محمود ليس له أولوية لدي الطلبة. إنهم يطلبون حل الاتحاد الاشتراكي وإطلاق الحريات وإعادة تحقيق المسئولين عن النكسة. أظن أن هذا يكفينا الليلة. قال ذلك ونهض مبتئسا بعد ان فض الاجتماع. ge.gro.marha@tnomhalas