الزنازين انواع .. واحده بحرى ترد الروح، لمن تبقى فيه روح .. وواحدة من غير شبابيك، مزعجة مقرفة موحشة.. وواحدة فيها عشرون أو أربعين، وواحده فيها اتنين أو أربعة.. وواحده انفرادى ؛ أجارك الله زارها الفنان التشكيلى» عز الدين نجيب» 3 مرات « - ولا أقول استمتع بها- وهو يرسم على جدرانها وكل ما يقع عليه بصره، ليقدم لنا كتابه» رسوم الزنزانة» وكأنها فسحة وتجربة فى معتقلات مصر وسجونها تحولت فيها الزنزانة إلى مرسم وخيال وصحبة الشعراء والكتاب والمناضلين والمجانين يجمع بينهم عشق الوطن لمن يعرفها أو لا يعرفها، تتكرر أحداث ليلة القبض على من أصابه الدور: كلمتين وبس ترجع بعدها بالسلامة؛ وتفتيش فى العقول والقلوب؛ وما يشبه الاختطاف بنفس الحركات ؛ وصولا إلى القلعة وصوت» الشيخ إمام» : «واتجمعوا العشاق فى سجن القلعة «حتى مهما يطول السجن، مهما يطول القهر «مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر ؟! ونداء من وراء الابواب المغلقة يسأل عن الجار الجديد، فيعرف أنه يسكن فى زنزانة تجاور الشعراء « حلمى سالم» و» رفعت سلام» كانت 3 حبسات فى كل العصور»: عبد الناصر والسادات ومبارك» المرة الاولى لمشاركته فى لجنة دعم انتفاضة الطلبة- ديسمبر 1971- مع شيخ النقاد الدكتور» لويس عوض» والمرة الثانية لعضويته فى جمعية « كتاب الغد» التى ساندت مظاهرات العمال فى حلوان «1975» حيث تقدم وزير الثقافة وقتها « يوسف السباعي» بتقرير لمباحث أمن الدولة يتهم الجمعية بأنها واجهة اليسار الجديد والمرة الثالثة بتهمة تحريض الفلاحين ضد قانون تنظيم العلاقة بين المالك ومستأجر الأرض من جدران الزنزانة حتى البرش الليفى الخشن وأحلام اليقظة ولحظة المواجهة مع وكيل النيابة وضوضاء» أحمد فؤاد نجم» متسائلا فى حجرة مأمور السجن:» مين ده سيادته؟» وغضب الوكيل منتفضا:» أنا سيدك يا حيوان» فيندفع « نجم» نحو المكتب وكأنه سينقض عليه.. وتبلغ السخرية مداها عندما يهدده وكيل النيابة بالسجن، ليرد عليه» نجم» :» آمال أنا فين دلوقت!!» .. وصمود» عز الدين» فى التحقيق.. واحتفال فى الزنزانة يقلد فيه « نجم» المحقق بتمثيل فكاهى ينتهى فى كل مرة بإحدى شتائمه المعتادة فى الزنزانة رقم (2) بعنبر الاستقبال بسجن ليمان» طرة» كانوا أربعة فى زنزانة: الشاعر» أحمد فؤاد نجم» وكاتب القصة « ابراهيم منصور» ، رحمهما الله، والمخرج السينمائي» كامل القليوبي» والفنان التشكيلي» عز الدين نجيب» ، ادام الله عطاءهما. والزنزانة رقم (20) ضمت الكاتب « صلاح عيسي» والناقد» عبد الرحمن أبو عوف» ومبدعين آخرين، وكان النور ممنوعا- وليس مقطوعا- فكان قدوم الليل كابوسا؛ وليس هناك أطول من ليل السجين؛.. فهل يكفى دفء الصحبة لإزالة مرارة الحبس؟ كان الخلاص بالرسم.. راح يرسم كل ما تقع عليه عيناه؛ وهم يقرأون يكتبون يلعبون الورق او الشطرنج، أو حتى وهم يغطون فى نوم عميق فوق البرش متغطين بالبطاطين الخشنة وحولهم ملابسهم وأوانيهم وأحذيتهم وكل متعلقاتهم وحتى باب الزنزانة السميك المسلح بالحديد والمسامير الغليظة كألواح القلاع ، ودلو الماء وبجواره دلو البول.. أما بالنهار فكان يرسم مشاهد توزيع الجراية من الفول والعدس والخضار المطبوخ الذى لا يعرفون له صنفا وكان الخلاص بندوة « البطانية» الاسم الذى أطلقوه على جلسات العصارى فى فناء العنبر وهم جلوس فوق البطانية باستثناء شخص المحاضر الذى يكون من حقه وحده الجلوس على الكرسى الوحيد وقد عثروا عليه فى ركن بالفناء .. يتطوع أحد الزملاء باختيار موضوع يحاضر حوله فى السياسة او الاقتصاد او الأدب أو الفن؛ وعندما يتعذر ذلك تتحول الجلسة إلى ندوة شعرية ،وقد أتاحت هذه الجلسات لعز الدين نجيب ان يرسم بورتريهات سريعة لكل الزملاء ما زال بعضهم يحتفظ بها ......................... بعد الانتهاء من رسم المشاهد والشخصيات داخل العنبر لم يبق سوى دورات المياه والحمامات التى ليس لها أبواب تغلق، بل هى مثل خشبة المسرح بثلاثة جدران لا يزيد ارتفاعها عن ثلثى قامة الشخص والجدار الرابع بطانية قديمة! ومع تراكم الرسوم بدأت مشكلة إخفائها عن عيون المفتشين عندما يقتحمون الزنازين؟ كانت الرسوم تحديا للمكان والقهر والغربة وكانت الذكريات تلازمه» السير فى الطريق من امام مسجد الحسين إلى مرسمى بقصر المسافرخانة بدرب الطبلاوى قرب قسم الجمالية الذى اعتدت السير فيه يوميا طوال ست سنوات باستثناء الاجازات الرسمية، فيما تملأ خيا شيمى روائح البخار والمسك والعنبر وأنواع العطارة والبهارات والكمون والفلفل والنشوق.. محلات الأنتيكات العربية.. عربات الكشرى والفول المدمس والترمس والحمص.. محال العصير والحلوى والأرز ابو لبن.. صليل صاجات بائع العرقسوس ودقات المطارق على صوانى النحاس فى ورش النقش والتقبيب والتكفيت بالفضة والتطريز بالأسلاك الرقيقة لشغل حلى الشفتشى ..» ويكمل طريقه فى الخيال» وكان الخلاص على طريقة « صلاح عيسي» للتغلب على ملل الليالى الطويلة المظلمة وهى أن يشتركوا فى تأليف روايات مسلسلة، يبدأ أحدهم حكاية ما ويمضى فى تتبع تفاصيلها حتى نقطة معينة ثم يسلم الخيط إلى زميل آخر ليواصل السرد .. حتى ينام المستمعون أو الراوى نفسه كانت ندوات البطانية فى ساعات العصارى بفناء العنبر قد بدأت مع قدوم الربيع ودفء الجو وكان يعد لإقامتها الشاعر زين العابدين فؤاد، وتتسم بالعمق والدسامة وعلى العكس، كانت برامج الإذاعة المحلية تتسم بالتنوع والطرافة والتلقائية ولا تخلو من الدعابة.. تبدأ فى الثامنة والنصف مساء بعد تناول وجبة العشاء، بنداء بصوت جهورى: هنا إذاعة عنبر التأديب من ليمان طرة .. ثم اللحن الافتتاحى بأغنية عبد الوهاب: يا دنيا يا غرامى ، قلبى يحبك يا دنيا.. ولو سمعها عبد الوهاب لندم على أنه لحنها، وربما اعتزل الغناء! وبعدها نشرة الأخبار العامة والخاصة، تنتقل من زنزانة لأخرى ، حتى ينهمك المذيع فى لعب عشرة كومى مع محمد القليوبى الذى استحق بجدارة لقب» ملك الكومى .. واشتهر صلاح عيسى بالحيل فى لعبة « شيتنج»، أى الغش فى اللعب « مما يثير الضحك» من الأسماء التى وردت فى حديث الزنازين يتذكر « عز الدين اسماعيل» رفاقه فى يوميات مزرعة طرة، ينقلها عن كتاب اصدره قبل سنوات بعنوان» مواسم السجن والأزهار» « أحسست بالتفاؤل اثر سماع خبر الأفراج عن الصحفى « حمدين صباحي» « صليت الجمعة واستمعت الى خطبة مرعبة من الإمام الذى لم أره، لأننى جلست فى المصلى الخارجي .. كانت الخطبة مدوية بعبارات الويل والثبور وعظائم الامور. ، وأحسست أنها موجهة الى شخصيا» « لأول مرة حملت حقيبتى إلى مقرى الجديد فى عنبر السياسيين مع زملائى فى قضية الفلاحين .. استقبلنى « كمال خليل، مناضل يسارى وصديق قديم لمختلف السجون ، عمره 48 سنة ، رقيق ، دمث الخلق ، يحب المرح بغير فجاجة، ميال للوحدة ، تنتابه بين الحين والآخر حالات انطواء اقرب الى الاكتئاب .. و» السيد الطوخى محام فى الثلاثين من عمره عضو بالحزب الناصرى ، ظل هاربا لمدة شهرين، تم القبض عليه على سلم الطائرة وهو فى طريقه الى الإمارات التى كان يعمل بها، ريفى من « طوخ» خفيف الظل محب للتهريج ، حائر بين الاهتمام بمستقبله الشخصى وبين الالتزام بقضية الوطن... و» محسن هاشم» مهندس زراعي، حوالى 35 سنة، أمين الفلاحين بحزب « العمل» من القلج قليوبية، ضخم الجسم طيب القلب مخلص لقضيته، مرح عند اللزوم، ريفى حتى فى مكره غير المؤذي.. و» زكى شعراوي» -48 سنة تقريبا- أمين حزب العمل بألفشن محافظة بنى سويف يحمل كل تراث القرية فى الصعيد، هادئ متزن طويل البال محب للفكاهة، وعيه السياسى ينبع من الفطرة أكثر من الكتب والنظريات.. و» أكرم ألفى ميخائيل»، طالب بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة من بنى سويف، مشروع قنبلة سياسية موقوتة، قرأ فى ثلاث سنوات ما قرأناه فى عشرين سنة، يشمشم اخبار التنظيمات والتيارات السياسية، يتحرك فى كل مكان ك «أبو النطيط» كتلة من الحيوية واشتعال الذهن «» عنبر تأديب السياسيين، اشتهر بأنه كان مقر إقامة» الريان» وأصحابه، كما قيل ان الكاتب الراحل» مصطفى أمين» كان يقيم فيه لفترة، لاتزال بقايا العز قائمة تشهد على ذلك، مثل الحديقة التى اوشكت أشجار الجوافة والعنب فيها على الذبول وكذا أعواد الريحان، كما تشهد على ذلك آثار الأحواض الداخلية بالزنازين وتوصيلات الكهرباء للثلاجات و المكيفات والسخانات التى نزعت جميعها وبقيت أماكنها تشوه الجدران. ......................... على الصفحة الأخيرة من الغلاف الأنيق الذى رسمه الفنان «خالد سرور» كتب «عز الدين نجيب»: «هاكم كتاب السجن.. أو بالأحرى هى صفحة واحدة من سفر عظيم لسجن المثقفين المصريين والعصف بهم على امتداد أكثر من نصف القرن الماضي، وهو سفر يحتوى على فصول أعمق وأغنى مما يضمه كتابي.. سفر مليء بالعذابات التى تليق بالأنبياء وبالملاحم البطولية التى تبلغ حد الأساطير».