كان الجنرال الأسطورى الفرنسى نابليون بونابرت قائدا ثاقب النظرة، نافذ البصيرة وكان حاد العواطف فإذا أحب أغرم وكانت الكهرباء تكمن فى كلماته.. وقد نظر الجنرال إلى خارطة العالم وقال مقولته الشهيرة: إن مصر هى أهم بلد فى الدنيا، وأضاف أنه أحب مصر وأنه سوف يضعها فى مكانها اللائق بها.. وحتى يثير الجنرال الحماس فى جنوده خاطبهم قائلا: أيها الجنود إن أربعين جيلا تنظر إليكم من فوق هذه الأهرام.. نظر الجنرال إلى حال مصر فأشفق عليها فهى مجرد ولاية أو دويلة ضعيفة ممزقة يحكمها أثنا عشر ألفا من المماليك وهم من الشركس والصقالية (المغول والمجر) أما عن الشعب المصرى فقد تم عزله سياسيا وحضاريا، وأما عن الشأن المصرى فقد أهمله الحكام الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ الدولة الطولونية ثم الإخشيدية ثم الفاطمية ثم الأيوبية ثم المماليك البرجية وحتى فتحها السلطان سليم الأول عام 1517 وضمها إلى إمبراطوريته العثمانية الواسعة لمدة قاربت الخمسمائة عام! وبثاقب نظره رأى الجنرال أنه لو عهد بحكم مصر إلى حاكم وطنى مخلص رشيد صادق وصفه الجنرال بأنه رجل الأقدار، لو وقع التغير العظيم لكل المنطقة. وهذا التغيير فى رأى الجنرال يقوم أساسا على إنشاء الدولة العربية الشاملة المستقلة ذات الإطار السياسى الجامع الذى يدخل فى نطاقه الشام والعراق بل وكل مكان حتى فى إفريقيا حيثما يتكلم الناس باللغة العربية وهنا ينطلق رجل الأقدار بهذه الدوله بما لها من إمكانيات بشرية ومادية هائلة لتقود العالم، ولأن الجنرال رجل حاد العواطف فقد تصور أن هو نفسه رجل الأقدار الذى سوف يبنى الدولة العربية المستقلة الحديثة، لكن المقادير تجرى بغير ما يتمناه البشر فتقع فرنسا فى المشاكل والحروب على أثر قيام الثورة الفرنسية، وهنا ترسل حكومة الديركتوار الإدارة فى فرنسا تطلب من الجنرال العودة إلى وطنه لأن فرنسا فى حاجة إليه أكبر من حاجتها إلى وجوده فى مصر. وحينما أفل نجم الجنرال عام 1815 وانتهى إلى منفاه الشهير فى سانت هيلانه، كان نجم محمد على الألبانى الجنسية يرتفع ساطعا فى سماء مصر والعالم العربى .. ويرى المرحوم الدكتور لويس عوض أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن محمد على هو رجل الأقدار الذى يبحث عنه الجنرال والذى قيض له أن يقع على يديه هذا التغيير العظيم. لكن الجنرال الذى كان يتابع من منفاه كل ما يجرى فى مصر قبله أحلامه الأولى لم ير فى محمد على أنه رجل الأقدار وعلق قائلا إنه ربما كان محمد على ماهرا فى فن الحكم ومكائده، وفى غزو الأمصار واذلالها، لكن النهضة والطفرة العبقرية الشاملة بالمعنى الذى قصده الجنرال لن يتحقق إلى على يد رجل الأقدار، والذى سيكون حاكما من أهل هذه البلاد وإن طال الزمن لتتبلور فيه عقليتها الخاصة وأوهامها الخاصة وتاريخها الخاص وكافة المقومات التى تختلف اختلافا كليا عن مقومات الأمم الأخرى وخارج العالم العربى وتمضى السنون ومازالت مصر تبحث ليس عن مرشح الضرورة بل عن رجل الأقدار! ومن جانبنا فإنه لا يعنينا اسم هذا القائد بل نهتم أكثر بوضع المعايير والمواصفات التى يجب أن يتصف بها: فيجب أن يكون ثاقب النظرة نافذ البصيرة واثق الخطوة وتثق فيه أمته وتلمس مدى صدقه ومدى تعلقه بأهدافه السياسية ومواقفه من القضايا الوطنية والاجتماعية يقود من الهزيمة إلى النصر، ومن اليأس إلى الأمل يتقدم ولا يهاب يتكلم ولا يخاف يمتلئ صدره بالإيمان، لا يثرى ويزيد الشعب فقرا .. قائدا له إرادة لا رجلا مسلوب الإرادة قويا لا يضعف للمال رجلا بصير البؤرة الذى تتركز فيه مشاعر الشعب وأماله. وفى رأينا أن رجل الأقدار هذا يجب أن يفرغ عروق يديه الاثنين من الدماء، ويصب فى عروق يديه إحداهما رصاصا يسحق به أعداء الشعب ممن يروعونه .. ويصب فى عروق اليد الأخرى المزيد من الرحمة والحنان والعاطفة الصادقة لهذا الشعب العظيم وهو لا يخجل من دمعة عينه، فإنها لا تعبر أيضا عن ضعف بل عن أنبل المشاعر .. ولقد نعلم أن سيدنا الصديق أبو بكر كان قريب الدمع لكن حينما جد الجد فقد أمر بتسيير أحد عشر جيشا إلى أنحاء الجزيرة العربية لقتال المرتدين، وتبقى الحقيقة المؤكدة وهى أن مصر الآن فى انتظار رجل الأقدار .. لكنها لا تزال فى غرفة الانتظار.. نائب رئيس مجلس الدولة لمزيد من مقالات المستشار محمود العطار