سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملحمة بناء السد العالى ... مسيرة لم تكن كلها مفروشة بالزهور
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 05 - 2014

مع التاريخ ووثائقه نبقى... لا من أجل استباق إصدار الاحكام، او توجيه الاتهامات واستدعاء الايحاءات والاسقاطات، بل تأكيدا لحقيقة ان "التاريخ حى فى الحاضر، ومؤثر فى المستقبل".
ولما كانت "الوثائق لا تحترق"، حسب القول الروسى المأثور، فانها تضم بين دفتيها الكثير من العبر والدروس التى يتوجب استدعاءها ليس لمجرد الاحتفال بها والاشادة بنتائجها، بل وايضا تحسبا لما قد يتناثر على الطريق من عقبات، ولتفنيد ما قيل
ويقال حول "إن علاقة مصر بالاتحاد
السوفيتى طالما كانت ولا تزال علاقات
اضطرار، وليست علاقات اختيار".
والامر هنا لا يقتصر على أول صفقة سلاح مع بلدان المعسكر الاشتراكى فى عام 1955 او على بناء السد العالي، حيث تمتد المسيرة لتشمل الكثير من المشروعات التى تظل علامة مضيئة على الطريق، بعيدا عن اية اتهامات أو اسقاطات ثمة ما يشير الى انها تظل فى مخيلة الكثيرين فى روسيا ومصر على حد سواء .
البداية اليوم نستمدها من برقية بعث بها السفير السوفيتى فى القاهرة دانييل سولود الى قسم الشرقين الادنى والاوسط فى وزارة الخارجية الروسية وتحمل خاتم "سري" تحت رقم 507 بتاريخ 18 يناير 1954 حول لقائه مع مراد غالب سكرتير ثالث السفارة المصرية فى موسكو فى مقر السفارة بالقاهرة فى 14 يناير 1954 :
" اتصل غالب بالسفارة وطلب استقباله لامر بالغ الاهمية. خلال الحديث اشار الى ان نائب رئيس الحكومة المصرية جمال عبد الناصر يريد ان يلتقى معى وانه وكأنما يريد ان يكون هذا اللقاء "غير ملحوظ". ولمًح غالب ايضا الى ضرورة عدم الاشارة رسميا الى زيارته لعبد الناصر. وقد اجبته ان وزارة الخارجية المصرية حددت لنا قائمة الشخصيات التى يمكن زيارتها بموجب مقتضيات البروتوكول المعمول به فى مصر وان ناصر ليس ضمن هذه القائمة. ومع ذلك قلت اننى لا ارى ما يحول دون اجراء هذه الزيارة نظرا لانه يعتبر من رجال الدولة الرسميين، فضلا عن اننى ايضا شخصية رسمية ويمكن ان نلتقى فى اى وقت اذا تطلب الامر ذلك . وقلت انه ليس هناك ما يستدعى ان يكون اللقاء "غير ملحوظ".
السفير السوفيتى يشكك فى صدق نوايا التقارب مع موسكو.
وكان السفير دانييل سولود تطرق الى اولى خطوات القيادة المصرية على طريق التقارب بحثا عن تعاون اقتصادى غير مشروط مع بلدان المعسكر الاشتراكى او كما كانوا يسمونها آنذاك "بلدان الديمقراطية الشعبية"، وهو ما اشار اليه فى رسالته الى الخارجية السوفيتية بتاريخ 26 فبراير 1954 وتحمل خاتم "سري" تحت رقم 87 حول حديثه مع جورج زاجور القائم باعمال سفارة المجر فى القاهرة فى 13 فبراير 1954:
" قال جورج زاجور ان حسن رجب رئيس اول بعثة تجارية اقتصادية مصرية الى مجموعة بلدان الديمقراطية الشعبية وخلال زيارته لبودابست قام بدعوة وفد تجارى مجرى لزيارة القاهرة وان نائب وزير التجارة المجرى اعلن عن موافقته على تلبية الدعوة، ويسأل الان عن مدى مناسبة الوقت الراهن للقيام بهذه الزيارة مؤكدا استعداد الوفد المجرى لذلك فى وقت اقصاه العاشر من مارس المقبل. وقلت ان الامر يتعلق بهم وإن اشرت الى ان الوفد عاد من زيارة هذه البلدان (والتى كان الاتحاد السوفيتى من بينها) من زمن غير قليل وان الوفد قدم تقاريره حول هذه الزيارات ولم تتخذ الحكومة المصرية بشأنها اى قرار. زاجور قال ايضا انه التقى اللواء نجيب بمناسبة دعوته لحضور المعرض الصناعى المجرى الذى سيقام فى القاهرة، وان نجيب قال له ان الحكومة المصرية وكانما تبحث باهتمام وجدية الوضع فى بلدان الديموقراطية الشعبية وان الحكومة المصرية قريبة من استنتاج ضرورة الاعتماد فى علاقاتها مع الخارج على هذه البلدان بالدرجة الاولى ، لكن وحسب قول نجيب فان مصر لا يمكن ان تغفل وضعيتها الخاصة ولذا فان التوجه نحو ارساء العلاقات الاقتصادية مع بلدان الديموقراطية الشعبية يجب ان يتسم بالحذر الشديد". ومضى السفير السوفييتى ليقول : ان مثل هذا الراى اعرب عنه ايضا الصاغ خالد محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة فى حديثه مع اودون كالوش المستشار التجارى المجرى. ولما كان مجلس قيادة الثورة اوكل الى خالد محى الدين ملفات العلاقات الاقتصادية فقد التقى كالوش معه لبحث عدد من القضايا . وقال محى الدين انه وفى ظل ظروف الركود التى تعيشها البلدان الراسمالية فان الحل الوحيد امام مصر فى مثل هذه الظروف هو توسيع العلاقات الاقتصادية مع البلدان الديمقراطية التى وحسب قوله يجب ان تراعى الظروف التى تجعل مصر غير قادرة على التحول المكشوف تجاه هذه البلدان، لان الظروف الدولية الراهنة والوضع الذى توجد فيه مصر فى علاقاتها مع الدول الغربية يمكن ان يضعها امام موقف قد تقوم فيه هذه الدول بتحطيمها ".
المثير هنا هو الاستنتاج الذى خلص اليه السفير السوفييتى فى رسالته:
" واستنادا الى ما قاله نجيب ومحيى الدين فان زاجور (القائم باعمال سفارة المجر) يخلص الى استنتاجات خاطئة على حد اعتقادى وهو ان الحكومة المصرية وكانما تعتزم بصدق توسيع علاقاتها الاقتصادية مع البلدان الديمقراطية والاتحاد السوفيتى . فحسب الكثير من المعلومات فان علاقات مصر مع البلدان الغربية ليست قاتمة حسبما حاول نجيب ومحيى الدين تصويرها فى حديثهما مع المجريين . كما ان الولايات المتحدة وانجلترا فى حقيقة الامر لا تستطيعان اتخاذ ما من شأنه تحطيم مصر". واضاف قوله :" ان الحكام المصريين يدلون بمثل هذه التصريحات لمجرد تبرير عدم رغبتهم فى التوجه نحو توسيع ملحوظ لعلاقاتهم الاقتصادية مع بلدان الديموقراطية الشعبية والاتحاد السوفييتي. وفى نفس الوقت يعتقد هؤلاء ان تصريحاتهم النارية حول ضرورة توسيع التعاون الاقتصادى مع هذه البلدان سوف تدفع الامريكيين والانجليز الى تقديم التنازلات امام الحكومة المصرية سواء تجاه الاقضايا الاقتصادية او السياسية".
تصريحات نسوقها بدون تعليق وإن كانت تقتضى فى الوقت نفسه الكشف عما اودعه السفير السوفييتى سولود فى رسالة سابقة من تقديرات لرئيس واعضاء اول وفد اقتصادى مصرى قرر مجلس قيادة ثورة يوليو ايفاده الى الاتحاد السوفييتى وبقية بلدان المجموعة الاشتراكية.
فى رسالته التى بعث بها الى وزارة الخارجية السوفيتية وتحمل خاتم "سري" فى 31 ديسمبر 1953 وسجلها قسم الشرقين الادنى والاوسط بتاريخ 17 فبراير 1954 تحت رقم 468
وتحول سولود الى وضع تقديراته لشخصيات هذه البعثة :
" رئيس البعثة العميد حسن رجب نائب وزير الحربية . مهندس عسكري. لكنه وحسب شهادات زملائه لم يكن متفوقا خلال دراسته ولا يعرف الكثير فى مجال تخصصه. لا يتمتع بالجدية فى العمل. يتحمس بسرعة لكنه سرعان ما يتراجع ولا ينهى ما يبدأه من عمل. بدون اية معتقدات سياسية، وليس له رأى محدد. يوافق بسهولة على اراء زملائه".
ومضى سولود للحديث عن بعض جوانب السيرة الشخصية لعدد اخر من اعضاء البعثة ومنهم الصاغ صلاح الدين هدايت وابراهيم حمدى سيف النصر وكذلك عبد المجيد بدر الوزير السابق فى الحكومة المصرية ورئيس هيئة السكك الحديدية الذى قال انه جرى ضمه الى الوفد ليس لكفاءته او الحاجة اليه بل للبحث عن علاج من متاعب فى المعدة فى احدى المصحات المجرية!!. توقف سولود ايضا بالكثير من التفاصيل عند احمد فؤاد احد اعضاء تنظيم "الضباط الاحرار" واليسارى التقدمى المعروف والذى قال انه كان حلقة الوصل بين تنظيم "حدتو" وتنظيم "الضباط الاحرار" مشيرا الى وجود المعلومات التى تقول بان هناك ما يشير الى الرغبة فى التخلص منه.
ونعود الى اللقاء الذى اراده عبد الناصر "غير ملحوظ" بعيدا عن اية سجلات او اشارات رسمية حسب طلبه الذى نقله مراد غالب سكرتير ثالث السفارة المصرية فى موسكو الى السفير السوفيتى فى القاهرة، وهو ما يثير الكثير من الدهشة والتساؤلات معا. فلم يكلف عبد الناصر وكان آنذاك النائب الاول لرئيس الحكومة المصرية ووزير الداخلية، سفيره فى موسكو الفريق عزيز باشا المصري، وكان موجودا بالقاهرة، وهو ما نستدل عليه من واقع رسالة اخرى سنشير اليها فى حينه حول لقائه مع السفير السوفييتى سولود فى مقر السفارة فى القاهرة فى 13 يناير اى قبل لقائه مع مراد غالب بيوم واحد!!.كما انه لم يعهد بذلك الى مسئول ارفع مستوى من مراد غالب ولم يكن انذاك سوى"سكرتير ثالث" فى السفارة المصرية فى موسكو! .
عن هذا اللقاء الذى جرى فى 15 يونيو 1954 كتب السفير دانييل سولود فى رسالته الى وزارة الخارجية السوفيتية بتاريخ 19 يونيو تحت رقم 298 وتحمل خاتم "سري" يقول:
" فى زيارتى الى ناصر قام بتقديم عضو مجلس قيادة الثورة البكباشى جمال سالم. وقال انه مكلف بالاشراف على كل المشروعات الاقتصادية التى من المقرر ان تتضمنها خطة السنوات السبع لتطوير الاقتصاد المصرى بما فيها التى جرى الحديث عنها خلال زيارة الوفد الاقتصادى المصرى برئاسة حسن رجب . جمال سالم قال ان الحكومة المصرية ولاسباب تعود الى مشاغلها العديدة لم تستطع فى حينه دراسة تفاصيل واقتراحات الوفد المصرى بعد عودته من موسكو . واشار الى انه يريد ان يلتقى المندوب السوفيتى فى القاهرة لمناقشة عدد من الامور ومنها السد العالى وبناء انابيب النفط ومصنع لانتاج الاسمدة. وقال ايضا انه يريد اللقاء معى وليس مع المستشار التجارى فقط لان الحديث لن يقتصر على مناقشة القضايا الاقتصادية بل والسياسية ايضا. وحين ابديت استعدادى للقاء طلب ان ازوره فى مقر وزارة المواصلات الساعة السادسة من مساء 21 يونيو".
وفى رسالته التى بعث بها الى الخارجية السوفيتية فى 25 يونيو برقم 303 تحت "خاتم سري"، كتب السفير سولود :
"قمت حسب الاتفاق بزيارة جمال سالم يرافقنى المستشار التجارى ف. د.الكسيينكو. قال جمال سالم ان الحكومة المصرية تفكر فى بناء سد على النيل ومحطة كهربائية ومنظومة رى لمساحة مليونى فدان وسيطلقون على المشروع "السد العالي". تكلفة المشروع وحسب التقديرات المبدئية 180 مليون جنيها مصريا. الحكومة المصرية لا تملك الموارد المالية الكافية للبناء لكنها ايضا لا تريد اللجوء الى رؤوس الاموال الاجنبية لبناء المشروع حتى لا يكون الاجانب شركاء فى المشروع، ولذا فان الحكومة المصرية تريد الحصول على قروض بما لا يجعل لاصحاب القروض اية علاقة باستغلاله . الان المانيا الغربية وفرنسا والبنك الدولى يقترحون على الحكومة المصرية القروض لكن بشروط لا يمكن ان تقبلها الحكومة المصرية، ولذا يتعطل مشروع بناء السد العالي. وبعد ذلك سأل ناصر عما اذا كانت الحكومة السوفيتية تقبل من حيث المبدأ ان تاخذ على عاتقها تنفيذ مشروع السد الحالى من خلال تقديم قرض قيمته مائة مليون جنيه مصرى يمكن تقديمها فى صورة معدات وماكينات ومواد بناء واجور الخبراء السوفيت على ان تتعهد الحكومة المصرية بعد بناء السد العالى برد هذا القرض بما يقدر بخمسة عشر مليونا سنويا قال جمال سالم انها ستكون من عائدات المشروع بعد تشغيل الطاقة الكهربائية واستصلاح الراضى الزراعية. وقال جمال سالم ايضا ان الفترة المتوقعة لبناء المشروع ستكون فى حدود عشر سنوات ستكون الحكومة المصرية سعيدة لو استطاعت الحكومة السوفيتية تنفيذه فى خلال 3-4 سنوات . ووعدنا والكسيينكو بابلاغ طلب الحكومة المصرية الى الحكومة السوفيتية".
ومن اللافت ايضا بهذا الشان ان مصر حرصت قبل هذا اللقاء وقبيل اندلاع ازمة مارس 1954 التى اسفرت عن رحيل نجيب وخالد محيى الدين، على اتخاذ قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتى الى درجة سفارة وهو ما ابلغه سامى ابو الفتوح مساعد وزير الخارجية المصرية الى السفير السوفيتى سولود فى لقائهما بمقر الخارجية المصرية فى 15 فبراير 1954 كما جاء فى رسالة سولود الى الخارجية السوفيتية بتاريخ 10 مارس 1954 والتى حملت خاتم "سري" وسجلها قسم الشرقين والادنى والاوسط تحت رقم 1284 . وكان ابو الفتوح نقل الى السفير سولود ارتياح الوفد الاقتصادى المصرى الذى زار الاتحاد السوفيتى برئاسة حسن رجب وان اثنين من اعضاء هذا الوفد سوف يعودان ثانية الى موسكو حاملين تعليمات من الحكومة المصرية بطرح عرض مشاركة الاتحاد السوفيتى فى بناء السد العالى ومحطته الكهربائية "نظرا لان المهندسين السوفيت يعتبرون الافضل فى العالم فى هذا المجال" حسبما اشار السفير سولود نقلا عن مساعد وزير الخارجية المصرية سامى ابو الفتوح.
عبد الناصر يعتذر عن زيارة موسكو
من الوثائق ايضا نشير الى ما اوجزه السفير دانييل سولود فى رسالته الى وزارة الخارجية السوفيتية تحت خاتم ( سري) بتاريخ 9 اغسطس 1955 وقال فيها :
" بتعليمات من المركز قمت بزيارة عبد الناصر وابلغته بدعوة الحكومة السوفيتية للقيام بزيارة للاتحاد السوفييتى فى اى وقت يناسبه ومع اى من يختاره من زملائه، وهو ما رد عليه بقوله انه سبق وتلقى دعوة مماثلة من الرفيق دميترى شيبيلوف. قلت ان الدعوة الرسمية من جانب الحكومة السوفيتية تعتبر تاكيدا على الدعوة الاولى".
فى هذه الرسالة استعرض السفير السوفيتى ايضا بعض حديثه مع عبد الناصر بما فى ذلك اعتذاره عن تلبية الدعوة فى ذلك الحين، لاسباب قال انها تتعلق بضرورة بقائه فى مصر لاسباب داخلية وخارجية ومنها متابعة جلاء القوات البريطانية من منطقة قناة السويس. وأضاف:
" ان الحكومة المصرية يجب ان تراعى محاولات الامريكيين التى تستهدف فى مصر تكرار ما حدث فى اندونيسيا . ولذا فان علاقات مصر مع الاتحاد السوفييتى يجب ان تقوم على اساس كل العناصر الموضوعية. ان الحكومة المصرية ترغب صادقة فى تدعيم اواصر الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتى ، لكنها ترى ان كل الاجراءات التى تستهدف دعم العلاقات السوفيتية المصرية يمكن ان تثير رد فعل الغرب الذى قد يُقْدِم على القيام بافعال حادة قبل الانتهاء من جلاء القوات الانجليزية من منطقة قناة السويس.
وفى حال التقارب المكشوف وتوسيع التعاون الاقتصادى بين مصر والاتحاد السوفيتى يمكن ان يوقف الانجليز اجلاء قواتهم من منطقة قناة السويس واطالة امد الاحتلال الى اجل غير محدود. كما ان الولايات المتحدة وانجلترا تحذران الان الحكومة المصرية من العواقب الوخيمة لتقارب مصر مع الاتحاد السوفيتى وتلجآن الى التهديدات السياسية والاقتصادية وغيرها من مختلف انواع التهديدات. ومع ذلك تطرح الحكومة المصرية للنقاش موضوعات مشاركة الاتحاد السوفييتى فى تنفيذ عدد من المشروعات الصناعية المصرية وإن لم يكشف عبد الناصر صراحة عما يقصده تحديدا من مشروعات"!.
وفى ذات الرسالة كشف السفير السوفيتى عن انه حاول تهدئة روع عبد الناصر بقوله ان هناك مسافات طويلة بين التلويح بالتهديدات وبين الاقدام على تنفيذها. ونعود الى نفس الوثيقة المؤرخة فى 9 اغسطس 1955 لنستشهد بما قاله السفير سولود حول ان الجانبين وفى معرض تلمسهما لاولى خطوات التعاون فى مختلف المجالات خلصا الى انه "من الممكن ان يسفر التعاون الاقتصادى التدريجى بين مصر والاتحاد السوفييتى عن نتائج ايجابية للغاية بالنسبة للحكومة المصرية من مختلف وجهات النظر" . ...........
وفى الوثيقة المؤرخة فى 15 يوليو 1956 وتحمل خاتمى "سرى للغاية" و"ممنوع تصويرها"، اى قبل الاعلان عن تاميم قناة السويس كتب السفير السوفيتى الجديد فى القاهرة يفجينى كيسيليوف يقول:
"بمناسبة زيارة الرئيس المصرى جمال عبد الناصر للاتحاد السوفييتى والمباحثات السوفيتية المصرية المرتقبة اطرح الاقتراحات التالية:
فى المجالات السياسية:
• تبادل واسع للاراء حول قضايا العلاقات السوفيتية المصرية وكذلك حول القضايا الدولية مثل قضية نزع السلاح وحظر الاسلحة النووية واحترام السيادة والدعم الاقتصادى والتقنى للبلدان النامية" .
ومضى السفير السوفيتى ليسجل ما يوصى بالاشارة اليه فى البيان المشترك للزيارة ومنه "ما جرى التوصل اليه من علاقات طيبة بين البلدين تقوم على اسس ميثاق الامم المتحدة ومبادئ مؤتمر باندونج وتطابق الاراء تجاه الكثير من القضايا الدولية وقضايا الشرقين الاوسط والادنى وموقف الاتحاد السوفيتى فى حال وقوع صدام مسلح بين اسرائيل والعالم العربي"، الى جانب "اتفاق البلدين حول مناهضة قيام الاحلاف العسكرية ومنها حلف بغداد"، فضلا عن اشارته الى التالي:
"3- اما فيما يتعلق بتوقيع معاهدة الصداقة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية فانه ومراعاة لان دميترى شيبيلوف وزير الخارجية السوفيتية سبق وتناول هذه المسالة مع عبد الناصر، ولان المصريين لم يعربوا بعد عن رغبة واضحة فى عقد مثل هذه المعاهدة، فمن الواجب علينا عدم المبادرة بطرحها وترك الامر للمصريين. وعلينا فى مثل هذه الحالة ايضا ادراك ان عقد مثل هذه المعاهدة يمكن ان يخلق بعض السلبيات ذات الطابع السياسى الداخلى والخارجى للحكومة المصرية...... ".
وعن مناقشة جوانب التعاون الاقتصادى راى السفير كيسيليوف انه من الاجدى طرح الاتي:
"1- الموافقة على تقديم المعونة فى بناء المشاريع الصناعية والزراعية فى مصر ويمكن تحديدها بناء على القائمة التى جرى تسليمها للرفيق شيبيلوف وكذلك على اساس ما توصل اليه خبراء التخطيط فى البلدين وهو ما ينتظره المصريون بفارغ الصبر. وفى حال اصرار الجانب المصرى يمكن الموافقة على تقديم قرض مالى الى مصر لبناء هذه المشروعات".
وواصل السفير السوفيتى توصياته التى استند فى بعضها الى ما سبق وتوصل اليه خبراء التخطيط من المانيا الديمقراطية حول ضرورة مراعاة عدم ترحيل بناء المشروعات التى ترفع من مستوى العمال والفلاحين وعدم الانسياق وراء "ان الشعب المصرى يمكن ان يتحمل المزيد من الصعاب لخمس إلى عشر سنوات"، نظرا لان ذلك قد يوفر الفرصة امام عملاء البلدان الامبريالية والبورجوازية الكومبرادورية ممن قد يستفيدون من هذه الاوضاع لتاليب الجماهير ضد النظام الجديد. ولم يتوقف السفير عند هذه القضايا الصناعية والزراعية وحسب بل وطرح ايضا عددا من القضايا التى تخص التعاون فى مجال التعليم وبناء الاتحاد السوفييتى لعدد من المراكز الطبية وامدادها بكوادر سوفيتية للمساهمة فى علاج الامراض المستوطنة وعقد اتفاقية للتبادل التجارى خلال الزيارة المرتقبة لانستاس ميكويان عضو المكتب السياسى لمصر وبحث فتح خط طيران مباشر بين القاهرة وموسكو.
السفير السوفييتى يوصى بعدم الاستجابة لطلب تمويل السد العالي اما عن التعاون فى بناء السد العالى فقد كشف السفير يفجينى كيسيليوف عن موقف بالغ الغرابة لم يكن يستقيم مع تطور العلاقات فى خط صاعد، وهو ما اوجزه فى ذات الرسالة التى اوصى بمهرها بخاتم "سرى للغاية".
قال كيسيليوف :"انه وفى حالة اثارة المصريين لقضية بناء سد اسوان ( هكذا يسمى السوفيت رسميا السد العالي) فانه وحسب راى السفارة يكون من الارجح ان نقول بعدم حيوية بناء مثل هذا المشروع نظرا لارتفاع تكلفته ولان التطور الاقتصادى لمصر فى الفترة الراهة يستوجب التفكير اكثر حل المهام الملحة الاخرى فى مجال تصنيع البلاد. وفى حال استشهاد المصريين بعدم توفر الطاقة من فحم ونفط وغيرهما من مصادر الطاقة غير نهر النيل فانه يمكن الاعراب عن الاستعداد لتقديم المعونة فى مجال التنقيب عن ثروات باطن الارض فى مصر بحثا عن النفط والفحم. وجدير بالاشارة ان اعمال التنقيب عن النفط والفحم كان يقوم بها حتى اليوم شركات النفط الامريكية والبريطانية التى لا تبدى اهتماما بالكشف عن هذه الثروات. على انه يظل من المتوقع ان ان يحاول الجانب المصرى تاكيد الاهمية الحيوية لسرعة بناء سد اسوان لحل مشكلة الرقعة الزراعية لزيادتها بمقدار مليونى فدان تضاف الى الملايين الستة المستزرعة حاليا وامداد الصناعة والزراعة بالطاقة الكهربائية اللازمة فضلا عن مشكلة الرى. وهنا ترى للسفارة فى هذه الحالة مناقشة موضوع الدراسة المستفيضة لهذا المشروع من جانب الاقتصاديين وخبراء السدود السوفيت ومساعدة مجموعة بلدان المعسكر الاشتراكى اى الاتحاد السوفييتى وكوريا الديموقراطية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا مع احتمالات مشاركة الهند وكذلك السويد وسويسرا لمصر فى بناء هذا السد على اسس تجارية لكم مع تسهيلات تتمثل فى توريد المعدات والخبراء وغير ذلك حتى لا نمنح الولايات المتحدة وانجلترا فرصة الانفراد باكاليل الغار كبناة رفاهية مصر".
واختتم السفير السوفيتى رسالته بتاكيد انه سوف يبلغ موسكو بما يريد عبد الناصر مناقشته من موضوعات بعد عودته من يوغوسلافيا، مشيرا الى ان على صبرى وعده باللقاء لابلاغه بقائمة القضايا التى يريد الرئيس التطرق اليها على ضوء ما سوف يخلص اليه بعد مباحثاته مع يوسف بروز تيتو الذى كشف له عن زيارته المرتقبة لموسكو.
وكان السفير كيسيليوف تطرق الى هذه القضايا فى رسالته التالية الى موسكو المؤرخة فى 21 يوليو 1956 وتحمل خاتم "سرى للغاية . ممنوع تصويرها" وقال فيها:
" استقبلنا عبد الناصر فى منزله . وقد استمعت الى حديثه باهتمام . شكرته دون تعليق. قال ان داج همرشولد (الامين العام للامم المتحدة) وصل الى القاهرة وانه سوف يلتقيه غدا . وحين اشار عبد الناصر الى ردود افعال الصحافة العالمية على لقاء بريونى (بمشاركة تيتو وعبد الناصر وجواهر لال نهرو) قلت ان الخارجية الامريكية اصدرت بيانا تعلن فيه رفضها لتمويل بناء السد العالي. وقال ناصر بنبرة تتسم بالهدوء ان القيسونى وزير المالية اعلن خلال زيارته الاخيرة لواشنطن فى اواخر عام 1955عن موافقته على كل الشروط التى طرحتها الولايات المتحدة والبنك الدولى لتمويل بناء السد العالى والتى كانت طيبة من الناحية الاقتصادية لكنها كانت مجحفة سياسيا لانها كانت تمس سيادة الدولة. وقال عبد الناصر ان محافظ البنك يوجين بلاك وصل الى القاهرة فى فبراير الماضى وقام بعد لقائه معه بشطب البنود غير المناسبة لمصر من شروط البنك الدولي. واضاف ان الولايات المتحدة وانجلترا وعدتا بتقديم 70 مليون دولار لتغطية نفقات المرحلة الاولى(حوالى خمس سنوات) الى جانب المائتى مليون دولار التى وعد بها البنك والثلاثمائة مليون دولار التى كانت مصر ستدفعها . ولما كان من المطلوب ان تتعهد الولايات المتحدة وانجلترا بدفع حصتيهما فقد راحتا تطرحان شروطا اضافية ولذا قررنا ان مصر عاشت بدون السد العالى خمسمائة سنة وعليها ان تعيش بدونه 505 او 510 سنوات اخرى.واضاف عبد الناصر ان مصر كانت تنتوى البدء فى بناء السد اعتبارا من يونيو 1956 لو لم تظهر هذه الشروط المجحفة" .
واذ نكتفى اليوم هنا عند هذا الحد، نشير فقط الى ان الرسالة السابقة كانت وصلت الى موسكو فى توقيت مواكب لتصريح شيبيلوف وزير الخارجية السوفيتية الذى قال فيه ب" استعداد الاتحاد السوفيتى لتقديم معونات اقتصادية كبيرة بما فى ذلك لتمويل بناء السد العالى اذا رات الحكومة المصرية ذلك"، وهو ما اضطلعت موسكو بتنفيذه وما سنواصل الحديث عن الكثير من تفاصيله فى حلقات قادمة من واقع وثائق الخارجية السوفيتية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.