وسط بحار من الحبر واطنان من الأوراق انغمست مصر فى تفاصيل التفاصيل حول طبيعة الليبرالية والحريات فى مصر القادمة تلك النقاشات الحادة عن يناير ويونيو، وما بينهما تتلافى السؤال الأهم والأصعب ألا وهو ماهى الانحيازات الاجتماعية والاقتصادية للدولة المصرية فيما هو قادم. يعيش العالم أجمع فى ظلال النظام الرأسمالى الذى تهتز أركانه. والسؤال المسكوت عنه على أى حال وبجدية هو أن صبر وانتظار المجتمع لتساقط ثمار الرأسمالية قد نفد، وأن الشعب المصرى لم يعد قابلا برأسمالية الأساطين وأصحاب الاحتكارات فهل من أفق جديد لمصر؟ ربما لا يمكن الحديث عن عالم اليوم دون الحديث عن التجربة الصينية المعجزة، تلك التى يختلف الناس بشأنها وهل هى رأسمالية ضخمة يسيطر عليها حزب شيوعي؟ فقد تبنت الصين برنامجا طموحا للصناعة الثقيلة مثله مثل الذى تبناه الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين، تبنت الصين ذلك البرنامج على الرغم من أن الاتحاد السوفيتى ذاته كان قد أدار ظهره لرؤية ستالين العتيد وتعاليمه وتجاربه كانت نصيحة خليفة ستالين وهو خروشوف للدولة الصينية هى التركيز على الصناعات الخفيفة والاستجابة السريعة لاحتياجات المواطنين وفى وسط الخلاف الصينى السوفيتى الكبير رفضت الصين التوجه السوفيتى الجديد، واتجهت كما اتجه ستالين سابقا نحو التصنيع الثقيل بل وامتلاك السلاح النووي، كان هذا التوجه هو احد أسباب الأزمة الاقتصادية العارمة التى واجهتها الصين فى اطار ما سمى (القفزة الكبيرة للأمام) هل إعادة بناء الرأسمالية فى مصر وارد فى إطار تجربة شبيهة بالتجربة الصينية؟ وما هى أهم ملامح تلك التجربة؟ هناك ثلاثة ملامح مهمة لهذه التجربة فى الصين يتجاهلها من يتحدثون عن فقه الرأسماليةالصينية والملمح الأول هو أن الصين دولة مستقلة الإرادة السياسية تخلصت بإصرار من التبعية، واستطاعت الصين من خلال استقلال ارادتها السياسية أن تستكمل سيادتها على معظم أراضيها فاستردت هونج كونج التى كانت إحدى درر التاج البريطانى ولم تتخل عن هدفها المعلن بحتمية استرداد تايوان، والملمح الثانى هو عمق استخدام الدولة لآليات الرأسمالية وادراكها حتى الآن بما تعطيه تلك الآليات من ديناميكية ضرورية لتقدم الاقتصاد، فآليات الرأسمالية شىء وحكم الرأسمالية شىء آخر فهل ما يدور فى الصين هو رأسمالية حقا؟ هذا السؤال يطرح نفسه لأن الدولة الصينية لم تتنازل عن دورها كمالك للاصول أبدا فهى تمتلك حصصا حاكمة فى أسهم عدد ضخم من الشركات الصينية، أو على الأقل فى الشركات العملاقة منها؛ مما جعل الدولة ذاتها لاعبا ثريا قويا وأساسيا بل وحاكما فى الاقتصاد الصيني، والدولة والحزب فى الصين لهما القول الفصل والنهائى فى اقتصاديات السوق من خلال مخطط وكذلك ملكية الدولة أو مشاركتها فى الادارة لعدد هائل من الشركات الصينية فى بلد المليار و400 مليون نسمة، واختارت الدولة الصينية أن تطلق آليات السوق الرأسمالية، وأن تستثمر بنفسها فى آلاف الشركات الناشئة، وأن تفتح الباب للاستثمارات الخارجية على أن تكون شريكا مهما لا يمكن تجاوزه عبر شراكات طويلة الأمد تصل إلى الخمسين عاما، والملمح الأخير هو سياسة نشطة وغير مسبوقة فى التعامل مع الانفجار السكاني، وهذا الانفجار السكانى تعاملت معه الصين بجدية وحسم بل وتبلغ الأرقام والإحصائيات أنه لو لم تكن الصين قد تبنت تلك السياسات لكان عدد سكانها اليوم يقارب ال اثنين مليار نسمة. وتقف مصر الآن على حافة عصر جديد فى ظل مناقشات سوفسطائية واسعة، بينما لا يتحدث أحد عن مسار البلد الاقتصادى فيما بعد، فالقطاعات الاضخم القائدة فى الرأسمالية المصرية هى رأسمالية توكيلات التكنولوجيا والمنتجعات السكنية أو السياحة أو تلك التى تتاجر فى القطاع العام باسم تحرير الاقتصاد، ومصر التى بلغ عدد سكانها ال100 مليون لا تستطيع أن تحيا فى ظل نموذج الرأسمالمية المتراوح بين العقارات والسياحة او تجارة المال والمصارف. ومصر البلد الكبير أيضا لا يستطيع أن يتوقف على حافة الصناعة الخفيفة وفقط، فلم يعد هذا ممكنا ولم يعد من الممكن أن تؤدى الدولة دورها الاجتماعى فى إطار صناعات محدودة الربحية أو يخرج ربحها بالضرورة الى خارج البلاد، أو إلى جيوب عدد من الأشخاص لا يتجاوز عددهم المائة شخص، على أقصى تقدير، ثم ينتظر بقية الشعب تساقط الثمار من أشجار المائة هؤلاء الذين يرتبط مصيرهم وحياتهم وطموحاتهم بالضرورة بقوى خارج حدود البلاد. ولن تتطور مصر إلا بازدياد دور الدولة وتداخلها مع آليات السوق الرأسمالية فى ذات الوقت التى تتمرد فيه على نموذج الرأسمالية التافهة وتحطيم المفاهيم التى يروج لها رجال صندوق البنك الدولى كعجول مقدسة. ولنا فى الصين وتمردها قدوة وفرصة ففى الصين اليوم فائض مالى يتجاوز الثلاثة تريليونات دولار يتسابق عليه العالم ولعل دراسة التجربة الصينية وتمصيرها، والعمل على اجتذاب الاستثمارات الصينية يأخذ اولوية واهتمام الدولة المصرية. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي