هذه السطور دعوة لتحكيم العقل والضمير الانسانى والوطني، كما انها دعوة للتمسك بقيم الثورة المصرية وبأهدافها النبيلة فى بناء مصر عمادها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية. ولا مناص من الدعوة حتى حين يدرك الواحد منا أن تحكيم العقل ليس أمرا سهل المنال، وأن الاستقطاب السياسى الحاد واستفحال لغة العنف والتخريب -وكادت أن تتخذ شكل حربا أهلية باردة، إذا جاز التعبير- يُعطل الضمير الانسانى ويُحجر الفؤاد، وذلك فضلا عن إدراك أن ثورة تاريخية كبرى كالثورة المصرية نادرا ما تنتصر وتحقق رسالتها بالضربة القاضية، وانما بالنقاط، وأن الثورات الكبرى فى التاريخ تنهزم فى المدى المباشر أكثر مما تنتصر، وتحقق رسالتها مع ذلك وإن عبر مدى زمنى ممتد. وتكتسب مثل هذه الدعوة أهمية خاصة ونحن مقبلون على انتخابات رئاسية الاشتباك معها واجب مواطنة، ومهمة ثورية ملحة يقوم عليها الحوار بين صفوف الشعب، وتسهم فى بناء رأى عام شعبى ضاغط على الرئيس المقبل. فأهم ما ينبغى للرئيس القادم إدراكه قبل أن ينتقل إلى قصر الاتحادية انه خادم للشعب وليس سيدا له، فلا نريد رئيسا يقول مع مبارك ومرسي: «لا أقبل بلى ذراعي»، وإنما نريده رئيسا يفتخر بسرعة الاستجابة لصوت العقل والضمير والإرادة الشعبية. فى هذا الاطار نستأنف نقاشنا لسؤال طرحناه خلال المقالين السابقين على صفحات الأهرام: ماذا نحن فاعلون بالإخوان المسلمين؟ جنون وحماقة الخصم لا تصلح مبررا لجنون وحماقة مواجهته، والعنف والوحشية ليسا ذريعة مقبولة للعنف والوحشية المقابلة، إلا ربما فى ظل قانون الغاب، وليس بالتأكيد فى دولة تطمح للحرية والديمقراطية وحكم القانون. تحدثت فى المقال السابق عن استراتيجية «التصفية الشاملة» للإخوان المسلمين، ولاحظت بشأنها أمرين أساسيين، أولهما أن هذه الاستراتيجية ستقود بالضبط إلى عكس ما تدعيه هدفا رئيسيا، ألا وهو استعادة الاستقرار، أى ستقود إلى فوضى وعنف واضطرابات متواصلة. ولاحظت ثانيا أن بعض ممن يدعون لهذه الاستراتيجية لا يستهدفون استقرارا فى المحل الأول ولكن همهم الرئيسى هو استخدام المواجهة الضارية مع الإخوان لاستعادة دولة مبارك البوليسية، وإن بغير الكارت المحروق المتمثل فى الرئيس الأسبق. دعاة التصفية الشاملة يحيلوننا إلى نجاح عبد الناصر فى القضاء على الإخوان، ونعرف عن الكثيرين منهم كراهية ضارية لعبد الناصر ولعهده، فآفة حارتنا النسيان، على حد قول نجيب محفوظ. وأدعى أن اختذال عبد الناصر فى التصفية الأمنية للإخوان أو غيرهم انما هو اساءة فظيعة لعبد الناصر وللعهد الناصري، تنتصر لأكثر جوانبه سلبية على حساب ايجابياته الكبرى. عبد الناصر هزم الإخوان سياسيا وفكريا قبل أن يهزمهم أمنيا، فهل يمكنكم أن تدعوا أو تطمحوا إلى الواحد من المائة من كل هذا؟ ويبقى أن الشعوب تتعلم من خبرتها، ولقد تعلمنا جيدا، فوق المرة ألف، أن سلطوية النظام الناصرى كانت أضعف حلقاته، قادتنا إلى هزيمة يونيو وقادتنا إلى تصفية الانجازات الناصرية وقادتنا فى نهاية المطاف إلى مرسى والإخوان المسلمين. يحيلوننا أيضا إلى «هزيمة الإرهاب» فى التسعينيات. ولعلنا نسأل بداية، هل نحن مستعدون لعقد كامل آت من الفوضى والعنف والعنف المضاد؟ وماذا عن الاستقرار والسياحة والاستثمار وعجلة الانتاج، هل تحتمل عقدا كاملا من الصخب والعنف؟ والأهم من كل ذلك هو ما ترتب على الهزيمة الأمنية للإرهاب من توحش لأجهزة الأمن وهى التى تحولت خلال ذلك العقد المقيت إلى العماد الأول للنظام المباركي، ومن شيوع للتعذيب والقتل خارج القانون، وأخيرا من تشكل طغمة اوليجاركية شرهة استباحت قوت الشعب وموارده، لا ترد ولا تحاسب، فى حماية الدولة الأمنية. هل نحن فى حاجة لأن نذكركم بأن ثورة يناير اندلعت يوم عيد الشرطة، وأن استشهاد خالد سعيد على أيدى جهاز أمنى فاقد العقال كان من بين عوامل تفجير هذه الثورة؟ عقب اعلان الرئيس الأمريكى جورج بوش حربه العالمية المستمرة على الإرهاب، صدر عن الكاتبة والناشطة الكندية ناعومى كلاين كتابا مهما بعنوان «عقيدة الصدمة»، عملت فيه على تحليل ميل الطغم الرأسمالية الحاكمة فى أمريكا وغيرها من البلدان لانتهاز فرص نشوء أوضاع كارثية (سواء بفعل الطبيعة أو البشر) كذرائع للانقضاض على حقوق الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستخدمة حالات الصدمة والخوف والحمى التى تطغى على الوعى العام فى ظل تلك الأوضاع، فتشل الارادة وتغل المقاومة. ولعله من الواضح أن حرب بوش على الإرهاب شكلت النموذج الأبرز لتطبيق هذه العقيدة، حيث شكل جنون وعنف بن لادن وإخوانه الذريعة المثلى للعدوان على الحريات داخليا وعالميا، ولإعلاء صوت السلاح والحرب (الميزة النسبية الأهم لأمريكا)، بهدف مضاعفة أرباح مليارديرات المجمع الصناعى العسكرى والتأسيس ل «قرن أمريكى جديد». استخدام العنف والجنون الانتحارى للإخوان المسلمين ذريعة لاستعادة الدولة البوليسية والطغمة الأوليجاركية، ولاستعادة الخوف والرهبة، ولتأديب الشعب المصرى واتابته عن التمرد والثورة، ولتبرير وترويج التعذيب والإعدامات والاعتقالات بالجملة يبدو لدى البعض عندنا اقتداء بنموذج مواتٍ، ولعل فى الخطاب اليومى لهؤلاء ما يؤكد أوجه الشبه. ولكن هل نحيلهم بدورنا إلى ما آلت اليه تلك الاستراتيجية فى العراق وأفغانستان وباكستان وفى أمريكا نفسها؟ هل ثمة نموذج أكثر خيبة وعارا من هذا يمكنكم الاقتداء به؟ لست من دعاة «المصالحة» مع الإخوان، وهى فى الحقيقة عنوان لصفقة ما، كتلك التى شهدناها بعد 11 فبراير، تجمع بين أسوأ ما فى الإخوان وأسوأ ما فى الدولة المباركية. وادعى أن هزيمة الإخوان لن تأتى إلا بتحقيق أهداف الثورة المصرية فى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. كيف؟ هنا قلب المسألة، وهذا هو السؤال المطروح على الشعب المصرى اليوم وغدا وبعد غد. لمزيد من مقالات هانى شكرالله