بعد صمت طويل, استطاع أن يكسر حاجز الخوف وينشر رواية تكشف عن المخبوء داخل أقسام الشرطة, وألوان الظلم والقهر التي تلحق الأذي بالمواطنين, وتؤرق حياتهم. ظلت تلك الأسرار مدونة في يوميات الضابط حمدي البطران, إلي أن تجاسر وأعاد صياغتها, ونشرها ضمن سلسلة روايات الهلال, وهو لا يزال بالخدمة بعنوان' يوميات ضابط في الأرياف' مما أثار غضب حبيب العادلي وزير الداخلية وقتها فأحاله إلي التقاعد مبكرا. تفرغ البطران للأدب ونشر رواية أخري بعنوان' خريف الجنرال' جسد فيها عذابات التقاعد المبكر, وكيف رأي الحياة والناس بدون الزي الرسمي,ثم أضاف رواية جديدة لرصيده الأدبي بعنوان' ذكريات منسية' كنقلة نوعية في الشكل والمضمون لأنه يأبي أن تصنف رواياته في خانة الرواية التسجيلية أو يعد كاتبا لليوميات التي استقاها من عمله الشرطي. سألناه في بداية حوارنا معه عن تفاصيل حكايته مع الأدب.؟ دعني أولا أذكر شيئا عن ظروف نشأتي لأنها تسببت في اتجاهي للالتحاق بالشرطة.. فقد حفظت أربعة أجزاء من القرآن في سن مبكرة وبالمصادفة افتتحت أول مدرسة ابتدائيةفي قريتي بأسيوط فالتحقت بها وفي المرحلة الإعدادية قرأت لديستويفسكي وتوفيق الحكيم, وبعد حصولي علي الثانوية العامة أراد أبي أن أعمل موظفا في بنك القرية, لضمان راتب شهري ثابت ولكنني رفضت أملا في استكمال تعليمي في كلية الآداب, وهذه الرغبة لم تلق قبولا من أبي واختار لي كلية الهندسة وبالفعل تخرجت فيها, ثم تقدمت إلي أكاديمية الشرطة لأنه تعذر وجود فرصة عمل كمهندس في أية شركة. وأثناء النوبتجيات بأقسام الشرطة بدأت الكتابة في شكل يوميات, ونشرت اول رواية بعنوان اغتيال مدينة وفازت بالجائزة الأولي لمسابقة نادي القصة وجاءت انعكاسا لمتابعاتي الشخصية من خلال عملي لاعتقالات سبتمبر في عصر السادات وكذلك المناخ العام الذي أصبح أكثر تشددا مع الحريات العامة فيما بعد, وتفشي ظاهرة الإسلام السياسي, ثم كتبت رواية بعنوان ضوضاء الذاكرة, ثم اتضحت الرؤية أمامي واستشعرت أن الظلم ينبع من الشرطة والجماعات الإسلامية, وكلتاهما تتبع سياسة العقاب الجماعي الموجه ضد الناس وتبلورت هذه الرؤية في رواية يوميات ضابط في الأرياف وعقب نشرها تصادف تعيين اللواء حبيب العادلي وزيرا للداخلية وقد ظن أن هناك من دفعني لكتابة هذه الرواية بغرض تشويه صورته, ولذلك سارع بإحالتي إلي مجلس التأديب الذي بدوره قرر خصم سبعة أيام من راتبي بدون أن يكلف نفسه عناء قراءة الرواية, في حين أقصي عقوبة لعميد الشرطة( رتبتي) هي الإنذار..وهنا توقف البطران عن الكلام للحظات وهو يستعيد تلك الذكريات المؤلمة قائلا: لقد خشي العادلي أن يوقفني عن العمل لأن الرأي العام وقتها كان متعاطفا معي. لكن لم ينته الأمر عند هذا الحد فقد أصدرت وزارة الداخلية تقريرا تتهمني في بالجنون, وبأنني عندما فشلت في أن أصبح مأمورا لجأت الي كتابة رواية خيالية كتعويض عما فشلت فية واقعيا, وانتهت إلي أنني لو كنت أبلغت الوزارة برغبتي في كتابة رواية لبادرت بمساعدتي, ويومها كتبت مذكرة مضادة قلت فيها: لوكنت اعرف أن من مهام وزارة الداخلية كتابة الروايات لكنت توجهت اليها من البداية.ولم تشفع تدخلات المسئولين بوزارة الثقافة للحد من تفاقم المشكلة بما لا يسمح بإيذائي, لأن العادلي اشترط أن أعتذر في الصحف. وقد رفضت هذا العرض, وعندما تقدمت للجنة التصفية التي تفصل في عملية الترقية إلي رتبة لواء مع الاستمرار في العمل بالترقية الجديدة أو الترقية مع الإحالة إلي المعاش.وجدت قرار الخصم سالف الذكر ضمن الملف الشخصي الموجود أمام اللجنة التي قررت الاستغناء عن خدماتي. في رواية اغتيال مدينة صامتة..الجميع متهمون بلا استثناء بمن فيهم البطل نفسه!؟ رؤيتي الفكرية في تلك الرواية بدت مشوشة, لأنني كتبتها بعد اغتيال السادات, وكنت لا أعلم إلي أين تسير البلاد, خاصة في ظل رؤية عامة ضبابية نتيجة غياب الوعي الديني الحقيقي, وتحول الجماعات الدينية إلي الحوار باستخدام السلاح بدلا من الحوار بالعقل وأيضا غموض توجهات الرئيس السابق مبارك وقتها, روايتك الأخيرة' ذكريات منسية' تحررت إلي حد ما من الاستغراق في التسجيلية ولكنها شملت قصاصات من أخبار الصحف ومضمون نشرات الأخبار مما يذكرنا بأسلوب صنع الله إبراهيم؟ بالفعل أنا شديد الإعجاب بإبداعات صنع الله إبراهيم, لأن أسلوب السرد التسجيلي هو الأسلوب الذي أفضله وأجده ملائما تماما لطبيعة الرواية التي أرغب في كتابتها, وهو أيضا الطريقة المثلي التي أراها مناسبة في أغلب الأحيان للتعبير عما يدور في داخلي, والرواية المعاصرة فن يستجيب لمتغيرات الحياة والفنون المختلفة, وعموما هذا الأسلوب قابل دائما للتغيير ولست ملزما به طوال الوقت. لا تخلو رواياتك من البطل الشهواني,والسرد حافل بالحديث المفرط عن الجنس؟ الجنس يشغل حيزا كبيرا من اهتمام الناس في مختلف مستوياتهم, والإثارة لا يستطيع أحد تجاهلها, فالمظهر الخارجي للمرأة هو أول شيء يلفت النظر إليها, ولكن عندما نتحدث معها ونتعرف علي أفكارها إما أن تلفظها أو تتواصل معها,وأنا لا أتعالي علي القاريء وإنما أكتب له كل ما يجول في خاطري, وأعتبر أن الكتابة لقاء مفتوح بين الكاتب والقاريء بدون أية حواجز. الماضي دائما في الواجهة,والحاضر في الخلفية, هذا من السمات المهيمنة علي إبداعاتك؟ أنا أعتبر نفسي رجلا قادما من الماضي, خاصة بعد أن بلغت سن الستين, وكل إنسان في هذه المرحلة المتقدمة من العمر تتسع لديه مساحة الماضي وتضيق مساحة المستقبل, ويصبح عديم الفاعلية في مجتمعه وليس أمامي ككاتب غير استشراف المستقبل. لكن فاعلية الأديب لا ترتبط بالسن بل بقدرته علي التواصل مع القاريء ومدي موهبته في الكتابة ؟ أحيانا أسأل نفسي عن جدوي الكتابة, وأشعر بأنني لم أقم بدوري كما ينبغي, وهي هواجس تنتابني كثيرا, ورغم ذلك أري أن رواياتي قد أسهمت بشكل كبير في الذي حدث لوزارة الداخلية وكشف طرق عمل أجهزتها,وهذا شجع بعضا من الضباط علي كتابة روايات تنتقد الوزارة في بداية الحوار ذكرت أنك تخرجت في كلية الهندسة,هل أثرت فيك؟ لا يستطيع أي كاتب أن يدرس الهندسة دون أن تترك بصماتها علي أعماله, من حيث المعمار المحكم والعقلية المنظمة واتباع العقلانية والبعد عن الصوفية,كما أنه لا توجد أية ملامح فانتازية في كتاباتي, فيما عدا رواية اغتيال مدينة صامتة واضطررت فيها إلي الانتقالات المفاجئة للماضي لأنه لدي أشياء كثيرة لا أستطيع الحديث عنها في سياق الرواية. هل لديك أسرار جديدة عن الشرطة التي كنت جزءا منها ستتناولها في أعمالك؟ لدي مخزون كبير من الأسرار سبق أن تناولته في أعمال درامية ومقالات إضافة إلي رواياتي, وأنا لا أريد أن أحصر نفسي في هذه المنطقة الضيقة فهناك مجال رحب ومداد لا ينضب من الصور الاجتماعية أستمدها من الحياة اليومية بالصعيد وصدي الواقع السياسي علي إيقاعها.