عشرة اتهامات واجهها حمدي البطران بعد نشر روايته "يوميات ضابط في الأرياف" في الخامس عشر من فبراير عام 1998 في سلسلة روايات الهلال، كانت كافية لأن تنهي خدمته في جهاز الشرطة، وتفتح له ملفا أسود في أمن الدولة؛ يلاحقه كلما ذهب، ويمنعه من العمل في أي مكان. النوافذ المغلقة موقف عدائي تعمد المسئولين توضيحه أمام الكاتب الذي فضح أمن دولة.. المخبرين الذين نشروا الذعر في بيوت المواطنين، واقتادت إلي أقسام الشرطة وجوها بريئة يتم صفعها بالأحذية. ورفض التليفزيون أعماله الدرامية أو حتي ظهوره علي شاشته، بعد أن تعامل معه الجميع بقسوة، وظل الكاتب في دماغ مباحث أمن الدولة طيلة الوقت. اثني البطران علي ثورة 25 يناير ووصفها بالطاهرة والنظيفة والتلقائية، ووجد في الشباب صورة كاملة للإخلاص، وانتقادا للظلم والفساد الذي ساد البلاد فترة طويلة من الزمن، وانبهر مما صنعته سلميتهم في القضاء علي أصنام الفساد والتغييرات الكبيرة التي حدثت في مصر. هل تري أن الثورة فتحت المجال لإعادة قراءة "يوميات ضابط في الارياف" التي نبهت إلي خطورة الفساد؟ لا أشك في ذلك، خاصة أن الرواية تصور بعض حالات التجاوز بالرشوة والمجاملة في جهاز حساس من أجهزة الدولة، فضلا عن بعض حالات التعذيب التي تقع علي المواطنين من جانب رجال الشرطة، وتجاوزاتهم من خلال عمليات القبض والمداهمة وترويع المواطنين تحت ستار البحث عن الإرهابيين. كما تركز الرواية علي التجاوزات التي وقعت من ضباط أمن الدولة علي وجه الخصوص، وعمليات احتجاز زوجات وأمهات المطلوبين، ونبهت الرواية الي خطورة ما يحدث من جهاز الشرطة في الصعيد، وهو الأمر الذي جعل الناس تتستر علي الإرهابيين، وتأويهم في البيوت وترفض الإبلاغ عنهم. فالرواية تعد أجرأ عمل أدبي أنتقد جهاز الشرطة من خلال ضابط يعمل في هذا الجهاز، قبل احداث ثورة الشباب بسنوات وسنوات. وماذا عن قبول الرواية في الفترة التي صدرت فيها؟ لاقت "يوميات ضابط في الارياف" قبولاً كبيراً من كل أجهزة الإعلام، حتي أنه في يوم الثالث والعشرين من فبراير 1998 احتفلت مجلة روزااليوسف بالرواية بها وأفردت لها صفحتين متقابلتين، حررهما وائل عبد الفتاح، كما أن الكثير من الصحف والمجلات نوهت عنها، وقدم لها حلمي النمنم قراءة في صفحة كاملة بطريقة فنية بالغة الاحتراف في الثالث عشر من أبريل 1998 في العدد الأول والأخير من جريدة الديموقراطية التي رأس تحريرها، فقد تمت مصادرة الجريدة وتوقفت عن الصدور حتي الآن، وقد جاء عرضها بعد محاكمتي عنها بحوالي شهر. وبعد أسبوع من نشر التحقيق في مجلة روزاليوسف، فوجئت بانني مطلوب للتحقيق الإداري أمام مفتش الداخلية، ومن المعروف أن مفتش الداخلية يقوم مقام النيابة الإدارية بالنسبة للخاضعين لقانون هيئة الشرطة، وبدأت المحاكمة بناء علي مذكرة أعدها جهاز مباحث أمن الدولة، ضمنها أن الرواية جري طرحها في إطار سلبي وناقد لممارسات الشرطة بمحافظات الصعيد، واستنتج القائمون علي إعداد المذكرة أن الرواية تلمح إلي أن ضباط أمن الدولة يعدون من أقوي الشخصيات التي لها سطوتها علي مقاليد الأمور في تلك المحافظات، وبعد أسبوعين من انتهاء التحقيق أصدر وزير الداخلية قراراً بتحويلي الي مجلس تأديب ضباط الشرطة، وتم توجيه عشرة اتهامات لي، تبدأ بعدم الحصول علي إذن لتأليف ونشر رواية، فضلاً عن اتهامات الإساءة لضباط الشرطة، وتصويرهم ببصور غير مناسبة، والخروج علي مقتضي الواجب الوظيفي، والسلوك المعيب، ومخالفة التعليمات. وقد صدر حكم مجلس التأديب الابتدائي لضباط الشرطة في نوفمبر 1998 بمعاقبتي بالإيقاف عن العمل لمدة شهر، والغريب أن وزارة الداخلية في مرافعتها أمام مجلس التأديب استندت إلي نقطة مثيرة للانتباه؛ وهي أن الوزارة كانت تنتظر مني أن أعرض عليها روايتي بعد تأليفها، ويتولي القائمون عليها حذف الأجزاء التي لا ترضي عنها الوزارة، أو تضيف إليها ما تراه، أو تعدلها بما يتناسب مع سياستها، كما أن بإمكانها أن ترفضها كليا، وتمسكت بهذا القول الذي لا تدري أنه يعصف بحرية الكاتب، فضلا عما يشكله من استهانة بالمبدعين والإبداع. فهل يعقل أن تعدل وزارة الداخلية رواية كتبها مبدع ؟. رأيت أنه لا يعقل أن تعدل وزارة الداخلية رواية كتبها مبدع، رغم أنك قد عرضت قبل تلك الواقعة كتابين لك علي الوزارة للحصول علي موافقة بالنشر؟ بالفعل قمت فيما مضي بإعداد كتابين عن "تاريخ الجماعات الإسلامية"، و"حوادث العنف الديني في مصر" وقبل النشر عرضتهم علي وزارة الداخلية، ولم توافق الوزارة علي أي من الكتابين، واحترمت رغبتها، ولم أقم بنشر الكتابين الي الآن رغم العروض التي تلقيتها من خارج البلاد، والغريب أن وزارة الداخلية قد اتخذت من تلك الواقعة سبباً من أسباب إدانتي، ولكنهم نسوا أن هذين الكتابين يخرجا من نطاق الإبداع إلي نطاق كتابة التاريخ، فضلاً عن أنهما يمسا صميم عمل وزارة الداخلية، أما الرواية فهي عمل إبداعي، ولا يحق لأي شخص أن يدخل أية تعديلات علي عمل أنتجه مبدع، وإلا يكون ذلك انتهاك لحرية الإبداع، ولكن هذا العمل الروائي البسيط أحدث ذعراً في كل أجهزة الدولة، وبالأخص في جهاز الشرطة. قلت إن هذا العمل الروائي أحدث ذعراً في كل أجهزة الدولة.. ما الذي دفعك لقول ذلك؟ في تلك الأثناء التي كان يتم فيها التحقيق معي، تقدمت وزارة الداخلية لمجلس الشعب بمشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971، وفور تقديم القانون أحيل إلي لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب، يوم الثاني والعشرين من مارس 1998. وفي ذات اليوم، وبشكل مفاجئ، عقدت جلسة طارئة لم تكن مدرجة في جدول الأعمال، حيث جرت مناقشة مشروع تعديل القانون. وفي اليوم التالي كان تقرير اللجنة معداً ومكتوباً، حتي يتم تقديمه إلي المجلس في الجلسة المسائية التي ستعقد في نفس اليوم. وقد جاء في تقرير لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب، أنه يحظر إفشاء الأسرار، ويظل الإلتزام باقيا حتي بعد انتهاء خدمة الضباط، كما يحظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إفشاء المعلومات الخاصة بالوقائع التي تتصل بحكم عمله أو الوثائق والمستندات أو صورها المتعلقة بنشاط هيئة الشرطة، ومن يخالف ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، ولا تزيد علي عشرة آلاف جنيه، فكانت الأمور تجري بسرعة دون سبب معقول يبرر هذا الاستعجال. هل تتوقع أن هذا القانون سيتغير مع التغييرات الجديدة التي ستحدثها ثورة الشباب، أم أن الأمر سيستمر علي ما هو عليه؟ لا اعتقد أن تغيير هذا القانون بالأمر