عندما يحب أحدنا أن يعبر عن قيامه بتوضيح أمر من الأمور- أيا كان مجاله - توضيحا تاما يؤمن به اللبس و يزيل عنه الغموض ويميط عنه الإبهام يقول :لقد وضعت النقاط على الحروف، وهو مثل سائر يستخدمه الناس جميعا ،أيا كانت ثقافتهم أو تعليمهم ،وهذا على سبيل المجاز لا الحقيقة ؛لأنها -عادة- أمور لا حروف فيها و لا نقاط . ولكن على سبيل الحقيقة هل سأل أحدنا نفسه هل كانت الحروف يوما بلا نقاط ؟ وهل يمكن أن يتصور أحدنا حروف اللغة العربية بلا نقاط ؟ وهذا سؤال يستتبع أسئلة أخرى فكيف نتصور الباء والتاء والثاء صلعاء بلا نقاط ؟وكيف كان التمييز بينها ؟ نفس السؤال ينطبق على بقية الحر وف المتشابهة التى لا يمكن التمييز بينها وبين بعضها إلا بعدد النقاط أو بموضع النقاط فوق الحرف أم تحته ،وكيف كان الناس يقرأون القرآن أو غيره من الرسائل أو المكاتبات؟ وعلى فرض ذلك فمن هذا الذى أخذ على عاتقه وضع النقاط على الحروف؟ وفي أي زمن هذا؟ لنجيب عن كل هذه الأسئلة فلنعد إلى الماضي البعيد إلى زمن الخلافة الأموية وبالتحديد إلى القرن الأول الهجري،فحتى هذا الوقت لم تكن الحروف قد نقطت ،فكانت الحروف مهملة مجردة مما يميزها ، فكان الناس أول الأمر يعتمدون على حفظهم للقرآن شفهيا من محفظ ثم يقرأونه كما حفظوه وقلما كانوا يخطئون في تمييز الحروف والكلمات ،لاعتمادهم على السليقة اللغوية القويمة ، فكانت اللغة في عقولهم وألبابهم أكثر مما هي في كتبهم وقراطيسهم لأنهم أصل اللغة،ولكن عندما انتشر الإسلام واتسعت رقعته ودخل فيه الناس من أمم شتى وألسنة مختلفة من عجم وفرس وروم وأقباط وبربر وغيرهم احتار هؤلاء و فشا اللحن أي الخطأ في النطق والتبس عليهم كثير من الكلمات وخصوصا عند تلاوة القرآن. وذكر ابن حجر العسقلاني أنه لما انتشر اللحن في العراق فزع الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كتّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات،وعندئذ انبرى العالم الفذ نصر بن عاصم -الذي عاش حتى عام90الهجرى - لهذه المشكلة العويصة ،في محاولة لإزالة عُجْمَة هذه الحروف أي إبهامها، فقام بوضع نقاط فارقة ومميزة على الحروف اصطلح عليها بنقاط الإعجام، في مقابل مصطلح الإهمال للحروف التي تركت بلا نقاط ،كالحاء والدال والراء وغيرها ، ولعل هذا تفسير ما قد تصادفه في بعض المراجع والمعاجم القديمة عندما ينص على هجاء الحروف بقولهم مثلا :هذه الكلمة بالدال المهملة، نصا على خلوها من النقاط ،في مقابل قولهم في هجاء كلمة أخرى:بالذال المعجمة أي المنقوطة للتمييز بينهما ، ومنذ هذا اليوم وضحت الأمور بوضع النقاط فوق الحروف وزال اللبس والإبهام وصار هذا مثلا على ذلك المعنى ، وقد أدى هذا العمل الجليل إلى انقلاب عظيم فى عالم اللغة العربية على مستوى الحروف ،ودشن نظاما جديدا تماما في ترتيب الحروف الهجائية فكيف هذا؟ لقد كان ترتيب الحروف العربية حتى هذا الوقت وفقا للترتيب الأبجدي (أ-ب-ج-د-ه-و- ز-ح-ط-ى-ك-ل-م-ن- ...إلخ) وهو ما يعرف ب(أبجد - هوز- حطي- كلمن-سعفص –قرشت-ضغظ- ثخذ) ثم ما لبث أن حل محله الترتيب (الألف بائى) المعمول به الآن، حيث قامت فلسفته على البدء بالألف ثم جمع الحروف المتشابهة بجوار بعضها ،بعد أن أزالت النقاط ما كان بينها من تطابق فلاحظ هذا الترتيب (أ-ب-ت-ث-ج-ح-خ-د-ذ-ر-ز-س-ش-ص-ض-ط-ظ-ع-غ-ف-ق-) ثم أعقبها بالحروف المفردة التي لا تتكرر ولا تتماثل (ك-ل-م-ن-ه-و-ى) وقد تم بمقتضاه ترتيب المادة اللغوية في العديد من المعاجم القديمة و في كل المعاجم الحديثة . كما يتم اعتماد هذا الترتيب اعتمادا كليا في إنجاز الفهارس الملحقة بالمصنّفات و الأبحاث العلمية . بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن أمة الضاد جميعا منذ ذلك الحين أرسل رسالة تحية وتقدير لنصر بن عاصم رحمه الله ،ذلك العالم الذي غير مجرى الحروف العربية وزاد اللغة العربية وضوحا وسهولة وأكسبها ثباتا وقوة وصمودا على الزمن وحتى يوم القيامة إن شاء الله. لمزيد من مقالات صبرى زمزم