حديث التذكير والتنبيه وأيضا الاحتفاء منذ أكثر من أسبوعين وعلى امتداد الولاياتالمتحدة كان القلم الرصاص. ذلك الصديق الحبيب والبسيط السلس والحميم الودود الذي كان وما يزال رفيقا لنا في حياتنا لا نفارقه ونحن نسير به وأيضا معه لوضع حروف ولرسم خطوط على صفحات الورق، فيوم 30 مارس من كل عام هو اليوم الوطني الأمريكي للقلم الرصاص، وفي مثل هذا اليوم من 156 عاما (أي عام 1858) قام مخترع من فيلادلفيا اسمه هايمان ليبمان بتسجيل براءة اختراع لقلم رصاص وفي طرفه ممحاة (استيكة). ويقال أن ليبمان باع اختراعه بمبلغ يقدر ب 100 ألف دولار وبذلك خير ما فعل وقد استفاد ماليا من هذا الأمر..لأن المحكمة العليا بعد سنوات عديدة وتحديدا عام 1875 «محت» براءة الاختراع هذه على أساس أن ما فعله ليبمان كان الجمع بين شيئين كانا قد تم اختراعهما من قبل. وطالما نتحدث عن القلم الرصاص فالأمر المثير للانتباه في زماننا هذا ونحن في القرن الحادي العشرين أن القلم الرصاص بشكله البسيط رغم كل الاختراعات التكنولوجية المعقدة من حوله وحولنا ظل كما نراه له دور حيوي وفعال في التعليم والحياة اليومية وبالطبع له مكانته ومنزلته. كما أن الأمر الآخر الملفت للانتباه أن على الرغم من أن الرصاص (كمادة للكتابة) قد تم استبداله على نطاق واسع بالجرافيت منذ القرن السادس عشر ( وهي مادة غير سامة وليس مثل الرصاص) الا أن التسمية العربية ظلت كما هي حتى الآن. وحسب تاريخ القلم الرصاص فان نورمبرج بألمانيا تعد «مسقط رأس» لبدء انتاج كميات كبيرة من الأقلام الرصاص للاستعمال العام سنة 1662. أما بالنسبة للونه الأصفر الشهير فيحكى في هذا بأن مادة الجرافيت كانت تأتي غالبا من سيبيريا الشرق الأقصى بشكل عام ولذلك تم اختيار الأصفر المرتبط بالملكية والاحترام والتقدير في الصين. والقلم الرصاص له بالطبع تاريخ في حياتنا الابداعية والكتابية. فهذا القلم لم يفارق أغلب أدبائنا الكبار اذ نجده مثلا في حياة توفيق الحكيم وابداعه ونجده أيضا لدى عباس محمود العقاد. اذ يكتب العقاد:» ولم يكن من اليسير أن أحصل على قلم «مداد» أو قلم «أمريكاني» كما كان يسمى في تلك الأيام، فلجأت الى استخدام القلم الرصاص. وأتعبني القلم الرصاص لأنه ينقصف، ويؤلم الأصابع بضغطه، ويترك فيها مثل علامة السجدة في جباه المصلين، ولكنها علامة لا تنفع أصحابها كما تنفع علامة السجدة من ينتفعون بها في سوق الرياء!» ويضيف أيضا قائلا:» فما هو الا أن تيسر لي ثمن القلم المدام، أو القلم «الأمريكاني» حيث استبدلته بأقلام الرصاص. ومازلت أكتب به الى اليوم. واتفق أنني عملت في عدة صحف صباحية على التوالي، فظهر لي أن المداد الأحمر «أريح» للنظر في ضياء الليل، فهو المداد الذي استعملته الى عهد قريب..» ما كتبه العقاد عن «قلمه» في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي يوجد في كتابه «أنا». وفي العصر الحديث ظل الكاتب أحمد بهجت يكتب عاموده «صندوق الدنيا» بالأهرام بالقلم الرصاص .. حتى آخر عامود له. وحكايات القلم الرصاص مع مبدعي العالم عديدة ومشوقة ومنها ما يذكر عن الروائي الأمريكي جون شتاينبك الذي كان يعشق الكتابة بالقلم الرصاص وقد وصل عدد الأقلام الرصاص التي استعملها يوميا في حياته الى ما يقرب من 60 قلم رصاص. كما أنه (كما يقال) استخدم نحو 300 قلم رصاص في كتابة روايته الشهيرة «شرق عدن» الصادرة عام 1952. وللكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلهو أيضا لقطة أو لفتة مع القلم الرصاص وردت في كتابه «كالنهر الذي يجري» يكتب فيه عن «حكاية القلم الرصاص» وكيف أن جدة كانت منشغلة بكتابة رسالة بينما كان الحفيد يريد أن يعرف ماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ وفي لحظة ما توقفت الجدة عن الكتابة لتقول للصبي بأنها تكتب عنه ولكن الأهم من الكلمات التي تكتبها كما قالت القلم الرصاص الذي تستعمله وانها تتمنى أن يكون هو (الحفيد) مثل هذا القلم عندما يكبر. ثم مع دهشة الحفيد ورغبته في معرفة الفارق بين هذا القلم والأقلام الأخرى تبدأ الجدة في شرح قيمة أو ميزة القلم الرصاص. فتقول الجدة: «القيمة الأولى أن في امكانك أن تفعل أشياء عظيمة الا أنك يجب ألا تنسى أبدا بأن هناك يد ترشد خطواتك. ونحن نسمى تلك اليد الله وهو دائما يرشدنا حسب ارادته. أما القيمة الثانية أنني من حين لآخر يجب أن أتوقف عن الكتابة واستعمل مبرأة. وهذه المبرأة تجعل القلم يتألم بعض الشئ ولكن فيما بعد هذا القلم يكون أكثر حدة. وبالتالي أنت أيضا عليك أن تتحمل بعض الآلام والأحزان لأنها ستجعل منك شخصا أفضل. أما القيمة الثالثة للقلم الرصاص انه يسمح لنا دائما أن نستعمل ممحاة لمحو أي أخطاء. وهذا يعني أن تصحيح شئ فعلناه ليس بالضرورة أمرا سيئا. انه يساعدنا على أن نبقى على الطريق نحو العدالة. والقيمة الرابعة فان ما يعد قيمة في القلم الرصاص ليس خارجه الخشبي بل داخله الجرافيتي. وبالتالي عليك أن تعطي اهتماما لما يحدث بداخلك. وأخيرا القيمة الخامسة للقلم الرصاص انه يترك دائما علامة. وبنفس الطريقة يجب أن تعرف أن كل شئ تفعله في الحياة سوف يترك آثرا، اذن حاول أن تكون مدركا لذلك في كل حركة تقوم بها» .. وهكذا تنتهى حكاية الجدة وكويلهو مع القلم الرصاص.
وأثناء الحديث عن قيمة القلم الرصاص ومعناه ترد الى الذهن نصائح عدة يلجأ اليها المرء في حياته اليومية تخص أهمية البساطة وضرورة السلاسة في مواجهة تفاصيل الحياة وتعقيداتها. ومنها : عليك أن تسعى دائما وأبدا كيف أن تكون بسيطا وسلسا وثريا في نفس الوقت .. مثل الخبز والنور والماء تماما .. وأيضا مثل القلم الرصاص الذي يفتقد وجوده ودوره الكثيرون في أيامنا الحالية.. وهم في حالة انكباب وربما ادمان على «الكيبورد» أو النقر على الحروف.. بحيث لم تعد لديك الفرصة لمداعبة أو ملاعبة القلم بين أصابعك .. لعله يرضى عنك وعن ما تريد البوح به للورقة. ثم هل لاحظت مثلا كيف أن القلم يجرى بين السطور ويقترب من الهامش أحيانا وأحيانا أخرى لا يلتزم بما هو متبع ومطلوب فيخرج عن الخط ويسرح دون التقيد بتقاليد الكتابة أو الأعراف السائدة في المجتمع. وربما لأنه فعل مثل هذا .. ينال اعجاب القارئ وتقديره وربما انتقاد الحاكم وعقابه!! وكلما تحدثت مع صديق عن اهتمامي هذه الأيام بالقلم الرصاص سيرته ودوره في حياتنا أجد البهجة في العيون فهذا القلم تحديدا دون غيره يذكر أصدقائي وصديقاتي بالأيام التي مضت وببراءة الأطفال و»يا سلام ع القلم اللي يكتب ويخربش ويمكن يمسح كلامه بالممحاة أو الاستيكة.. وأحيانا ممكن نبريه بالبراية(أو المبرأة) لو اتكسر سنه أو نقصفه لو عايزين نسكته خالص ونقضي عليه». هذه هي معادلة القلم الرصاص بأبسط الكلمات.. وأيضا هذه هي عبقريته!