تضع الدول المتقدمة على رأس أولوياتها البحث العلمى، تدعمه بكل السبل، المادية والأدبية على السواء.. فلا تبخل عليه بشىء، لأسباب عديدة نذكر منها: أن البحث العلمى إذا كان متفوقا فى دولة ما فإن آليات هذه الدولة تكون منضبطة تلقائيا بشكل كبير، فهو مثل الساعة التى تضبط معها الوقت، يضبط هو الآخر إيقاع المجتمع وأدواته المختلفة (التعليم، الصحة، وسائل المواصلات.. إلخ). فهل رأى أحدكم دولة متقدمة فى مجال البحث العلمى ومتخلفة فى مجال التعليم مثلا؟ البحث العلمى على صعيد آخر يسهم فى حل مشكلات المجتمع المختلفة (الأرض، المياه، الطاقة، الصناعة، الزراعة..إلخ) ويدفع معه المجتمعات إلى الانتقال بمرونة من عصر صناعى إلى آخر، ويجعلها قادرة على مواكبة المنافسة فى المجال العالمى، وربما تبدو اليابان هنا أكبر دليل ومثال على هذا، إذ انتقلت من عصر الصناعات الثقيلة التى كانت فيما سبق مصدر الثروة وأساس الإنتاج الحديث، إلى عصر الصناعات الإلكترونية التى أضحت اليوم صناعة المستقبل، فصارت من كبريات الدول فى هذا المجال. ويحكى أن ديجول, حينما جاء إلى الحكم فى فرنسا، بدأ فى إجراء مفاوضات الاستقلال مع جبهة التحرير الجزائرية، وحينما لامه المقربون إليه متسائلين: كيف يفرط فى الجزائر بهذه السهولة؟ أجاب على الفور: علينا أن نفهم الزمن الذى نعيش فيه، لم تعد قوة الأمم تقاس بما تملكه من مستعمرات، ولكن بمدى تقدم البحث العلمى، وهذه هى معركة فرنسا المقبلة.. هكذا كان يفكر الجنرال العسكرى الفرنسى الذى أدرك مبكرا أن البحث العلمى بات يحدد، بل ويقيس عنصر التقدم والقوة بين دول العالم.. فلم تعد الدولة القوية هى الدولة التى تملك مستعمرات مترامية فى أرجاء العالم كما كان يحدث قديماً، او تملك جيشاً قويا، أو حتى موارد طبيعية ثرية فقط، بل صارت تقاس قوة الأمم بمدى تفوق البحث العلمى فيها. وقد نتساءل، هل من سبيل إلى تجاوز الفجوة الكبرى التى تفصل بيننا وبين الدول الأخرى المتقدمة فى هذا المجال التى تتمتع بموارد مالية كبرى؟ فى الواقع نحن لا نبدأ من الصفر. فالمشكلات المطروحة الآن على جدول أعمال البحث العلمى هى مشكلات عالمية وانسانية عامة تتعلق بالطب والبيئة والطاقة البديلة وغيرها. وفى هذا الإطار تتقدم فرق البحث العلمى متعددة الجنسيات والتى يمكن أن نسهم فيها بشكل كبير من خلال العناصر ذات الكفاءة التى تتكون فى قاعدة البحث العلمى الوطنية. الأمر الأخير هنا، وهو أمر مهم ومع ذلك قد لا يلتفت إليه البعض، إن مجال البحث العلمى ليس مرتبطاً بالتكنولوجيا فقط، بل مرتبط فى الحقيقة بثقافة المجتمع ككل، بالعلوم الإنسانية التى تؤصل معها الثقافات الراقية، والتى هى الخلفية التى لا يمكن لأى بحث علمى حقيقى أن ينتشر بدونها. فالتاريخ والفلسفة وعلم النفس والاجتماع تدعم معها الثقافة العقلانية المنهجية التى يقوم عليها البحث العلمى التطبيقى.والازمات العديدة التى يتعرض لها المجتمع، حلولها ليست تكنولوجية فقط. البطالة.. الإدمان.. الإرهاب.. تحديات تواجه المجتمعات المختلفة، وكلها بحاجة إلى دعم البحوث فى مجال العلوم الإنسانية. إن البحث العلمى هو الخطوة الأولى الأساسية نحو طريق التقدم والرقى، والفرصة السانحة كى نلحق بركب الأمم المتقدمة ولا بديل عنه.