لم تعد شكاوى المصريين الأخلاقية تقل عن شكاواهم الاقتصادية. لا تقلقهم فقط البطالة وغلاء الأسعار وتدبير تكاليف الحياة، وإنما يؤرقهم أيضاً الانفلات السلوكى والأخلاقى الذى لم يسبق له ربما مثيل فى حياة معظمهم. تغضبهم فوضى المرور وعشوائية الطرق. تقلقهم مشاهد العنف فى الجامعات والشوارع. يخيفهم ارتفاع معدلات الجرائم بمختلف أشكالها. يتأففون من أكوام القمامة التى تتكدس فى كل الأحياء، يؤسفهم تدنى الذوق العام واللغة الغليظة التى تنتهك أسماعهم. يتحسرون على الدماء التى تسفك وأرواح رجال الجيش والشرطة والمواطنين التى تقضى معلنةً عن وصول الانفلات إلى أقصى درجاته. لكن الشكوى من الانفلات تبقى على مرارتها فألاً حسناً، لأنها تؤكد أن المجتمع يعرف عيوبه ويدرك ما يجب عليه أن يتخلص منه. والتخلص من الانفلات يحتاج من كل فرد إلى مراجعة ومجهود لعله يصحح بنفسه بعض السلوكيات الخاطئة التى يقع فيها. لكن ذلك لا يكفى عندما يصبح التسيب ملمحاً عاماً يطغى تقريباً على المجتمع بأسره. وقتها يصبح من الصعب استعادة الانضباط بالاعتماد على الجهود الذاتية لبعض الأفراد أو بتشجيع من الشخصيات العامة ومنظمات المجتمع المدنى التى تحض الناس على التصرف بشكل مختلف. فعندما يصل الانفلات إلى حد الانفجار لا يمكن أن يستعيد الانضباط إلى المجتمع من جديد غير الدولة. والناس فى مصر ملت وكلت وهى تطالب الدولة بالقيام بوظائفها كاملةً بما فى ذلك وظيفتها الأخلاقية. وهم لا يطالبونها بذلك الآن وإنما من عقود مضت أسوأها على الإطلاق عقود مبارك الثلاثة فى السلطة. لكن الدولة لم تشأ أن تعترف بأن الناس على صواب وأنها على باطل. لم تر جيداً إلى الآن ما رأوه هم من أنها هى الوسيلةً الوحيدة لاستعادة الانضباط والتصدى لكل مظاهر الانفلات التى تهدد حياتهم. فالدولة قبل ثورتى يناير ويونيو أدت أداءً باهتاً حيال مظاهر التسيب التى تركتها تتنامى إلى أن تفشت فى كل المجالات. ليس هذا فقط بل أحياناً ما كانت الدولة أيام مبارك تشجع انفلات المجتمع على بعضه. فقد تركت الناس ينشغلون ببعضهم حتى تنفرد النخبة الفاسدة بالوطن لتخصخصه وتمصمصه وتحاصصه. دولة مبارك خذلت المصريين وشاحت بوجهها بعيداً عنهم. جعلتهم يرتشون من بعضهم ويتكسبون بأى طريقة كانت من بعضهم حتى لو بالسرقة والإكراه. وكانت حجتها دائماً جاهزة. تدعى أنها لا تملك ما يكفى من الموارد لتلبى احتياجاتهم وأنهم يزيدون كالأرانب، ولهذا عليهم تحمل حياتهم التعيسة وتصريف مشكلاتهم بعيداً عنها. إدارة مبارك كانت فاسدة ومنفلتة علمت الناس أن يكونوا مثلها فاسدين ومنفلتين. جرأتهم على الانفلات إلى أن تكرست ثقافة وقيم تشجع على الاستهتار والبلطجة وأخذ الحق، وغير الحق، بالقوة وخرق القانون وبالنفاق والاعتداء إلى أن باتت وسائل اعتاد على استعمالها كثير من الناس. لكن المصريين يدركون بالفطرة، كأى شعب، أن الحياة على هذا المنوال المنفلت ليست سليمة، وأن الدولة ستبقى مهما أخطأت الراعى الرسمى الوحيد للانضباط، وصاحبة حق الاستعمال الحصرى لكل أدوات الضبط والربط مهما غفل عن ذلك من يديرها أو ربما تغافل. ولهذا لم يعد مقبولاً أو معقولاً بعد ثورتين أسقطتا نظام مبارك الذى كرس ثقافة الانفلات ونظام الإخوان الذى تحاول بقاياه الآن إشاعة أسوأ درجات الانفلات، أن تصم الدولة أذنها عن مطالب الناس بإعادة الانضباط والتصدى لظاهرة المجتمع المنفلت. وها هى فرصة جديدة تلوح للدولة. فالانتخابات الرئاسية القادمة ستأتى بإدارة جديدة. وستكون كارثة ماحقة إن لم تستوعب لماذا سقط مبارك ولماذا خسر الإخوان. وستكون كارثة أكبر لو حاولت إعادة الانضباط إلى المجتمع بنفس الطريقة التى طبقها مبارك أو بالطريقة التى حاول الإخوان فرضها. فمبارك لم يفهم من الانضباط غير معناه الأمني. لهذا ضخّم حجم ودور قوات الأمن لتحميه هو وأسرته وأركان نظامه تاركاً الحبل للناس على الغارب لتبنى عشوائياً وتعيش عشوائياً وتمارس كل ما يحلو لها ضد بعضهم طالما أن مخالفاتهم لا تطوله. أما الإخوان فكانت الأخونة مقياس الانضباط بالنسبة لهم. فكل مؤسسة يستطيعون السيطرة عليها وكل منصب يتولاه واحد من جماعتهم اعتبر جوهر الانضباط والطريق إلى فرضه. والمنهجان المباركى والإخوانى لم يكونا ليمنعا الانفلات أو يحققا الانضباط. فالانضباط يحتاج بلا أدنى شك إلى قوة الدولة لكن ليس إلى بطشها كما فعلت دولة مبارك الأمنية. كما أنه يحتاج إلى إشراك الناس فى تحمل المسئولية وليس إلى الانفراد بها على طريقة دولة الإخوان لأن الاستئثار بالحكم هو قمة الانفلات والطريق إلى ترويج ثقافته بين الناس. القبضة الأمنية المطلقة لن تعيد الانضباط أو تكافح الانفلات برغم أن للأمن دوراً فى تحسين الأوضاع. فالانفلات كما يحدث بسبب الدولة الرخوة يحدث كذلك بسبب الدولة الرخمة. أما الدولة الرخوة فتترك الناس بلا محاسبة، بينما الدولة الرخمة هى التى تزيد فى المحاسبة. والناس بطبعها تنفلت استسهالاً لو تراخى من يحاسبها. كما أنها تنفلت احتجاجاً لو فاقت رقابة من يحكمها حد الاحتمال والمعقول. والإدارة السياسية القادمة أمامها فرصة عليها ألا تضيعها. فهى عنوان الجمهورية الثانية التى يبحث عنها المصريون وما زال ميلادها يتعثر إلى الآن. ستنال شرعيتها لو أنجزت ولو أيقنت أن التسيب الأخلاقى والسلوكى بات هماً يعانى منه المصريون يريدون له حلاً تطبقه بقوة لكى يحترموها ودون بطش حتى لا يعصوها. عليها أن تهتم بوظيفتها الأخلاقية بجانب وظائفها الأخري. وليس مطلوباً منها أن تتحول إلى شيخ يعظ أو داعية يطارد الناس فى شئونهم الخاصة، وإنما أن تعد أجهزتها لاستعادة وفرض الأخلاق المدنية والآداب العامة التى يحاسب القانون على انتهاكها سواسيةً بين الجميع. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات