تعاملت الدولة في مصر مع المجتمع من ثورة 1952 وحتى ثورة 2011 بطريقتين. والاثنتان سيئتان لا تناسبان تركيبة المجتمع وطبيعته ولا تليقان بتاريخه وتطلعاته. فطيلة الحقبة الناصرية كانت الدولة تسيطر على كل شيء وتتدخل حتى في خرم الابرة. لم تترك للمجتمع مساحة حرة يتفاعل فيها الناس بتلقائية. كان الناس يشعرون بنفس الدولة الثقيل وهي تنام معهم في البيوت ويخشون عيونها وهي تتابعهم في المكاتب ويبتعدون عن ذراعها الطويلة وهي تقتحم حياتهم الخاصة. كل شيء كان لا بد أن يبدأ من رأس الزعيم. فرض عليهم نظام الحزب الواحد فأمات القيمة السياسية للمجتمع. كان على المجتمع أن يتلقى ولا يرسل، أن يطيع ولا يسأل. كانت الدولة محسوسة بقراراتها وسياساتها حتى في ألوان الملابس المدرسية. وقتها كانت الدولة وبالتعبير العامي للمصريين رخمة جداً. لا تترك أحد في حاله لو شكت فيه ذرة. حتى ان لم تشك كانت تعتبر الرقابة على الجميع فضيلة. استنكفت أن تترك هامشاً للفعل السياسي الحر، واستحوذت على ادارة النشاط الاقتصادي فظهر قطاع عام كبير ومعه بيروقراطية هائلة. ولكي تمسك المواطنين من أرزاقهم كانت تتوسع في توظيفهم. ولما لا؟ فالقطاع العام كان يكبر مع أحلامها، والبيروقراطية تتوسع مع اتساع رغبتها في التحكم والسيطرة. ومع ارتماء أكثرية المصريين في حضن القطاع العام والبيروقراطية أصبح بمقدور الدولة أن تُرخَم كما تشاء فأصابت المصريين في أعز ما يملكون: في استقلاليتهم. جعلتهم عالة عليها. تفكر وتخطط وتنفذ لهم. هي التي تعرف الصواب والخطأ وتتخذ نيابة عنهم كل القرارات في الداخل والخارج. حولت برخامتها المصريين الى عبيد اداريين كرست فيهم ثقافة الاتكال على الدولة والتي لا تزال حية الى اليوم. كانت الدولة باختصار قوية وباطشة. شرعت الاستبداد وقننت هيمنة المخابرات والجيش فكانت ثقيلة أو رخمة بتعبير المصريين.
ثم تغيرت مصر مع موت عبد الناصر. جاء السادات من بعده بسياسات مختلفة. بدأ برنامجاً للانفتاح الاقتصادي، ومشروعاً مشوهاً للتعددية السياسية، وأعاد توجيه علاقات مصر الخارجية فجعلها تابعة لمراكز الرأسمالية العالمية. والتابع يهتم بطبعه بأمرين. الأول أن يُظهر أنه ليس تابعا. ولهذا استعمل السادات الحد الأقصى من القوة الأمنية في الداخل حتى يغطي على تبعيته وضعفه أمام الخارج. واحتفظ برغم اختلافه عن عبد الناصر ببعض الأساليب الأمنية المقيتة للدولة الرخمة. والأمر الثاني أن التابع يستعجل المتبوع في سداد قيمة الصفقة المتفق عليها. وكانت الصفقة مع الولاياتالمتحدة والمراكز الرأسمالية الأوروبية تقضي بضخ تدفقات مالية تتلاءم مع دخول مصر عصر الحرية الاقتصادية. لكن دون وجود بنية قانونية صارمة، فهم الانتهازيون تلك الحرية على طريقتهم واعتبروا أن كل فرد حر في أن يفعل ما يشاء. وبدلاً من أن تعمل الدولة كآلية لضمان توزيع عادل لفوائد تلك التدفقات تحول جهازها الاداري والسياسي الى أداة لاستنزاف الموارد لمصلحة قلة من المستفيدين ترك لهم الحبل على الغارب. وبدلاً من الدولة الرخمة تحولت مصر مع السادات ثم تكرست مع مبارك كدولة رخوة. الخارج يخترقها والداخل لا يحترمها. رخاوتها أمام الخارج كانت شديدة الوضوح. تعيش على ما يمنحه ويقرضه لها من أموال مقابل تنفيذ ما يفرضه على المنطقة من سياسات. كما تغافلت عمداً عن أحاد ثم عشرات ثم مئات من المصريين ممن اشتغلوا وكلاء داخل مصر عن القوى الخارجية. وتراخت أكثر أمام الخارج لما سمنت جيوب الصف الأول ليظهر صف ثان وثالث ورابع من السماسرة الذين يتاجرون بالقرارات فيدخلون هذه السلعة ويستبعدون تلك، يرسون هذه المناقصة وليس تلك، يستثنون هذه الشركة وليس تلك وهلم جرا من قرارات كانت عوائدها تحرم المجتمع الطيب من أرباح يستحقها جنتها بدلاً منه عناصر منحرفة من النخبة.
أما رخاوتها في الداخل فحدث ولا حرج. كل ما تعرفه عن الصلابة جعلته في عهدة جهاز شرطة نسي هموم الناس وتفرغ للحفاظ على أمن النظام ومصالح القلة المحتكرة من حوله. وفيما عدا مصفحات الشرطة التي جالت المدن والقرى كبعبع يخيف الناس، لم يكن المصريون يشعرون، وبالذات في عصر مبارك، بأن الدولة لها وجود. كانت رخوة جداً وهشة للغاية. كل مواطن كان رئيس جمهورية نفسه. يخالف بشكل صارخ قوانين البناء ثم يتصالح بسداد غرامة اسمية هزيلة. يدخل شحنات طعام ملوثة يبيعها على حساب صحة الغلابة. يختلس ثم ينوب عن الأمة في البرلمان. يقضي معاملاته الروتينية اليومية بعيداً عن القانون لاجئاً الى المحسوبية والرشوة. كانت رخاوة الدولة تثير الغضب والاشمئزاز. البرلمان رخو يمرر ما يأمر به الحاكم وكأن المحكوم لا وجود له. والمحافظات رخوة يرتع فيها الفساد. ومؤسسات القطاع العام والأجهزة الحكومية رخوة لا حساب فيها ولا تمييز بين من يعمل ومن لا يعمل. حتى جهاز الأمن، وهو الوحيد الذي حافظت الدولة الرخوة على رخامته، ثبت أيضاً أنه كان رخواً. وكان أول من سقط حينما بدأت ثورة يناير.
وهكذا كان نصيب المجتمع المصري مع الدولة لستين سنة. اما أنه عانى من دولة رخمة عذبته وأثقلت عليه فتعلم السلبية. أو كابد من دولة رخوة رفعت يدها عنه فاعتاد على التسيب. والآن وبعد ثورة يناير يبدأ المصريون رحلة شاقة للبحث عن نموذج ثالث للدولة يناسبهم ويليق بآمالهم. نموذج يفهم مصر صح وليس كما يتوهمها تيار أو آخر على هواه. وليس أمام مصر الآن في تقديري أفضل من نموذج الدولة الرخامية MARBLE STATE ملساء كنعومة سطح الرخام وصلبة مثل عوده. لا تكون رخمة الا في تطبيق العدالة وفرض القانون، ولا تكون رخوة الا بالمقدار الذي يتيح للمواطن التمتع بحرياته وتطوير ملكاته. والدولة الرخامية مثل الكعكة الرخامية التي ما أن تقطع منها قطعة وتنظر داخلها الا وتجد كل محتويات الكعكة موجودة فيها. فالدولة الرخامية هي التي تقبل بل وتستطيب كل أشكال التنوع الاجتماعي والسياسي. يعيش فيها الجميع وتتعايش فيها التناقضات والأضداد لأنها تعي أنه من المستحيل أن يزيح واحد منها الآخر. ومثل قطعة الرخام المكونة من عدة ألوان وعناصر، تحرص الدولة الرخامية على الاحتفاظ بكل لون فيها حتى لا تفقد ألقها أو تنقص من قيمتها.
والمشكلة في مصر حتى بعد ثورة 25 يناير أن كثيراً من المصريين لا يريدون أن يصدقوا أن بلدهم أكثر تنوعاً مما يعتقدون وأنه ليس متناغماً كما يتصورون. ولا عيب أو حرج في الاعتراف بالتباين والاختلاف بل العيب في تجاهله. ومصر اليوم بها تيارات فكرية وسياسية لا سابق لها من حيث العدد أو الحضور العام. ومن يقرأ خارطة الأفكار والقوى الاجتماعية والسياسية الحالية فيها ثم يشك في أن الدولة الرخامية هي الحل الوحيد الباقي لربما أضاع على نفسه وعلى مصر فرصة كبيرة لدخول المستقبل. وبجانب التنوع الهائل في الأفكار هناك انقسامات سكانية طبيعية لا يزال المصريون يقللون منها مع أنها حقيقية وعادية لا عيب فيها، والاعتراف بها أفضل من الادعاء بعدم وجودها أو الزعم بأنها مسائل سطحية لا يجب الالتفات اليها.
مشروع الدولة الرخامية هو مشروع المستقبل في مصر، وفي بلاد عربية أخرى كانت الدولة فيها منذ الاستقلال أيضاً اما رخمة يدها طويلة أو رخوة يدها مقطوعة. والزمن الثوري الحالي من أجل الحرية يناسب هذا الاختيار. فالديمقراطية هي التطور الطبيعي للسياسة مهما حاولت قوى عسكرية أو أمنية أو بيروقراطية أو دينية أن تؤخره. وجوهر الديمقراطية يُصقل عندما تعي كل أطياف المجتمع أن عليها أن تعيش معاً بالاحتكام لقواعد عامة مجردة تنطبق على الجميع دون تمييز أو استثناء.
لكن الانتقال بمصر الى نموذج الدولة الرخامية يتوقف على ارادة العيش المشترك عند المصريين وهي قوية في تقديري عند غالبيتهم. لكن النخب المصرية سواء القديمة التي لم تمت بعد أو تلك الجديدة التي لم تتشكل معالمها النهائية بعد ما زالت تعطي انطباعا مقلقا بأن مشروع الدولة الرخامية قد يطول انتظاره ما يعرض مصر لخسارة جديدة في السباق مع الزمن. فالملاحظ بمنتهى الأسف والأسى من بعد ثورة عظيمة أسهم الجميع في نجاحها أن الخطاب السياسي لقوى وتيارات مختلفة يسرف في التخوين والاقصاء. فمن يطالب بالدستور أولاً يصور على أنه علماني عميل للغرب. ومن يصر على الانتخابات أولاً يوصف بأنه متزمت ورجعي. ومن يقترح حلاً وسطاً بكتابة مبادئ عامة يرجع اليها فيما بعد عند كتابة الدستور يُتهم بأنه عدو للشعب يلتف على نتائج الاستفتاء. كما أن هناك تناطحا سخيفا حول عدد من الوثائق التي خرجت بها قوى سياسية حاول كل منها أن يسجل من خلالها تصوراته عن ما يجب أن تكون عليه مصر في المستقبل. وبدلاً من أن تجتمع تلك القوى لتبحث عن القاسم المشترك الذي يجمع تلك الوثائق، بدأ بعضها محاولات غير مطمئنة لأخذ وثيقته الى الشارع ليصارع من الميادين وثائق الآخرين. ومن يريد دليلاً فليتابع جمعة الهوية والشرعية التي تخطط بعض القوى السياسية للخروج بها في 29 من هذا الشهر للتشهير بوثائق بعينها. فليخرج من يريد ليرفض ما يريد ويفرض ما يريد. لكن مصر ستبقى هي مصر. من يعرفها جيداً ويمشي فيها بين الناس فاتحاً عينيه على ما بينهم من تباين ومتابعاً حالة الحيوية غير المسبوقة التي دبت فيهم سيتأكد أن هذا المجتمع لن يتقدم الا في ظل دولة رخامية. والمصريون الآن لو خرج عليهم أحد يقترح عودة الدولة الرخمة لمزقوه. أما الدولة الرخوة التي لا تهش ولا تنش فحال لم يعودوا أبداً يحبذوه. الدولة الرخامية هي مشروع مصر المقبل والوحيد. وطن حقيقي للجميع متعدد وبالألوان الطبيعية، الدولة فيه صلبة في الحق دون أن تكون رخمة وناعمة مع المواطن دون أن تكون رخوة. أليست الصلابة والنعومة هما ما يعطيان الرخام قيمته؟ وهكذا الحال مع الدولة الرخامية.