أى يد خبيثة تلك التى جرؤت أن تلوث شارع الجامعة بمتفجرات الكراهية والغل والحقد..أى ثورى هذا الذى يجهل تاريخ هذا الصرح العظيم، جامعة القاهرة التى استمدت اسمها (القاهرة) من نواتج الثورة والتغيير، وقهر كل مظاهر الظلم والفساد.. أى كائن هذا الذى تتلاشى فى مخيلته ذلك البين الشاسع بين الثورات والهراءات وكذلك بين دعاوى ضرورات استتباب الأمن وقتل الأمنيين.. أى كائن هذا الذى لم يحمل ذكرى جميلة فى صباه أو شبابه لهذا الشارع، أو تجول فيه مرة على الأقل ليشهد أعظم المواكب وأروع حركات الاحتجاج، وابداعات التناقضات التاريخية بين محب حالم ومغير وطنى ثائر..هذا الشارع الذى حوى أروع ابداعات الطبيعة والفن والجمال، والتاريخ.. أشجار وقفت تاريخيا، شامخة، ساكنة، مسالمة تظلل بظلها فتاة جاءت حاضنة لكراستها، تحلم بغد مستقبلها، وفتى دؤوب في مرسمه، أو معمله،أو مكتبته بين كنوز العلم والمعرفة يواصل ليله بنهاره لكى ينهى مشروع تخرجه، ويضع قدماه على بداية طريق الحياة العملية. أى كائن هذا الذى لم يتلمس ابداعات محمود مختار فى تمثال النهضة الذى يعد رمزا لمصر الحديثة، ومستقبلها، والذى ساهم الشعب المصرى بجميع فئاته بالاكتتاب لمدة عام كامل لنحته... وحرم جامعى تخرج منه عظماء هذا العصر ، ثلاثة منهم حازوا على جوائز نوبل فى الأدب والسلام ، وعلماء ابهروا العالم بعلمهم فى الفيزياء والطب وعلم الوراثة.. ان هذا الكائن لايمكن إلا أن يكون منتجا لثقافة غريبة، هى ثقافة «الاستباحة» التى نخرت فى عظام مجتمعنا طوال عقود وعقود، وتجلى قبحها فى كل مظهر من مظاهر ابداعات المكان والزمان فى مصر فشوهت روعة المنتج الفنى وشوهت معه القيم الطيبة الأصيلة من شهامة وجدية وتحضر مصرى بهر العالم طويلا... ثقافة ظلت تنشر عبر عقود تدنى لغة خطاب وغياب حجة المقال فى وسائل الاعلام المختلفة ، وتسللت فى قبح الى جميع الوسائط المجتمعية لتربية النشء من أسرة الى مدرسة الى أصحاب فى النادى والشارع الى وسائل الاعلام لتنتشر مفرداتها وتروج فى شكلها القبيح لسلوك الاباحة لتتجلى مظاهره فى صورة «مثقف دخيل» مستضاف فى احد لقاءات تعرض على الرأى العام ، ولم يهذبه العلم أو تغير فى قيمه المعرفة ، يسب الآخر، أو يرفع الحذاء فى وجهه فى أكثر المشاهد بربرية لاختلاف حول رأى، أو يتهمه بالخيانة هنا أو هناك لمجرد ان تغيرت لغة خطابه عن الخطاب المهيمن والمروج له، أو تصنيف لذلك المثقف، أو تنميط لهذا لمجرد أنه أعاد التفكير فى بعض مقولاته، أو مفرداته أو شر عن ضرورة نقد ذاته ليرتبط التغيير فى ظل ثقافة الاستباحة إما بالخيانة والوضاعة لكل من لا يرضى عن التغيير، أو القتل والسحل لكل من يقوم به وكأن النتاج فى النهاية تغيير أشخاص مستبعدين بأشخاص أخرى كانوا مستبعدين سابقا.. ثقافة الاستباحة التى استباحت كل المقدسات، فلم تعرف حدود الدين ولا مقدساته وراحت تستبيح دور العبادة إما بالتسييس وإما بالترويج، واما بالاحتماء ، وأما حتى بالاعتداء ..ثقافة تمحو تفسير الاخر وتعتدى على مفتى البلاد بين جدران الحرم الجامعى وفى مناقشة أطروحة جامعية ويقف الجميع ساكنا.. ثقافة استباحت تدنيس كلية قمم الاقتصاد والسياسة فى مصر والعالم العربى والدخول الى قاعاتها فى مناسبة لايستطيع الرعاع استيعابها وهى تأبين قمة من قممها السياسية ليدخل المدنسون بطبلهم وقباحة شعاراتهم وبذاءة ألفاظهم وليسكت مرة أخرى الجميع، ثقافة أستباحت انتهاك حرمة مكاتب عمداء الكليات، وراحت بيدها الحقيرة تكسر وتحطم وتقطع كل ما تراه فى مشهد تاترى يذكرنا بالمغول ومايخلفوه من تدمير وخراب وذبح للبشر وللتاريخ.. ان هذا الغل والحقد والبغضاء ليس وليد اليوم أو هو نتاج الخامس والعشرين من يناير أو الثلاثين من يونيو، ولكنه نتاج بذور ثقافة الاستباحة التى سيست الجامعة وخلقت فيها قيم الاستبعاد.. لايستطيع أحد أن يحدد على وجه الدقة متى تم زرع بذورها فى البيئة المصرية، ولكن يكاد يجزم بعضنا أنها سقيت وترعرعت مع الفسخ الضمنى لهذا العقد الاجتماعى بين هذه الدولة ومواطنيها حتى قبل موعد التغيير السياسى فى 2011..سقيت يوم أنقسم هذا الشعب بداية بين فقير وغنى، ساكن للمنتجعات، وساكن للعشوائيات، بين مثقف متعال يتحدث عن هياكل ونماذج لدولة الرفاهة من برجه العاجى ويستعلى على واقعه وواقع مجتمعه، ورجل شارع مطحون يبحث فى صناديق القمامة عن لقمة عيش، بين مسلم ومسيحى، رجل وامرأة، بين شمال وجنوب، ومركز وهامش، بين مع وضد، بين شعب وشعب.. من أين لهذا الكائن الذى فعلها فى شارع الجامعة سواء من هذا الفريق أو ذاك أن يدرك أو يعرف ماذا يعنى هذا الشارع، وماذا تعنى هذه الجامعة، وماذا تعنى هذه القبة وهذه الساعة، وهذا الرمز.. لقد تلاشت فى مخيلته كل هذه الرموز وأصبحت فقط «أشياء» لاتعنى لديه الا كونها أداة لتدمير «الاخر المختلف» والذى لايصح لديه أن يكون مختلفا ليستبيح قتله وتشويهه، وتشويه قدسية مكان تواجده حتى لو كان الناتج لكل ذلك هو فناءه هو شخصيا لأنه ببساطة لايعرف سوى سلوك وقيم وتوجهات الاستباحة.... ان قتل الارهاب وروح الانتقام والقضاء على هذا الوباء المجتمعى الذى يدمر الأسمنت المجتمعى وينتهك قدسية روح الدولة لن يكون الا اذا حوربت هذه الثقافة الهادمة وعرف كل منا الفرق بين حدود المجال العام والخاص واحترم ذلك، لن تتوقف هذه العمليات الا بعد استيعاب ثقافة احترام الاخر أيا كان والتخلى عن هذه المنظومة من مفردات الاباحة والاستباحة... ليت بجانب جماعات ضد الانقلاب أو تمرد أن تنشأ جماعات ضد الانفلات، وضد الفوضى... جماعة تتبنى محاربة ثقافة الاستباحة من مرحلة ماقبل التعليم الالزامى الى مرحلة الجامعة.. ليت نخبتنا الجديدة تتبنى نهضة التعليم والأخلاق بدلا من الارتزاق من السياسة والساسة.. ليتنا جميعا نرفع شعار «فلتسقط ثقافة الاستباحة» لحماية مقدساتنا من صروح علم وعبادة بدلا من حماية الأشخاص وتقديسهم..= لمزيد من مقالات د. أمانى مسعود الحدينى