منذ فترة، وأنا أتابع هذا الضجيج الصاخب عن عدم السماح بعرض فيلم زنوحس الذى يشاهده العالم فى هذه الأيام، ومعروض على الشبكة العنقودية بعض مشاهد منه. وتعجبت من الإصرار على رفض عرض الفيلم. وزاد عجبى من الذين يقولون: ليس هذا وقته، وهو تبرير غريب لا نفتأ نردده منذ سنوات بعيدة بلا هدف سوى الهروب من مواجهة الأمر بشجاعة العقل الذى ميزنا به الله عن بقية خلقه، وجعله حجة علينا، وحجتنا على أنفسنا. ومن الطريف أن مصر التى نعيش فيها، عرضت من قبل أفلاما عن أنبياء، وأنا شخصيا مسئول عن عرض فيلم زآلام المسيحس. ولم أر من أثر على نفوس الذين شاهدوه، مسلمين ومسيحيين، سوى مشاعر الألم والحزن الجليل على العذاب الذى تحمله المسيح، نيابة عن البشرية، وافتداء لها. ولكى أطمئن إلى سلامة قرارى بالسماح بعرض الفيلم، دعوت مجموعة من كبار المثقفين لمشاهدة عرض خاص للفيلم، وبعد نقاش طويل معهم واستنارة بآرائهم، أصدرت قرار السماح بعرض الفيلم لمن هم فوق 18 عاما؛ بسبب ما فى الفيلم من مشاهد تعذيب بالغة القسوة. وظل الفيلم معروضا إلى أن انتهى الوقت المخصص لعرضه. ولم يهدد أحد بشىء، ولم تثر زوابع، بل مرت أيام عرض الفيلم كما مرت أيام عرض أفلام أخرى عن أنبياء، شهدتها مصر من قبل. ولكن ها أنذا أسمع من يقول فى ثقة تشبه اليقين: زإن تجسيد الأنبياء فى الأعمال الدرامية يفضى إلى مفاسد أعظم من المصالح المتوخاة منه. ومن تلك المفاسد والمضار اهتزاز صورة الأنبياء المعصومين عند المشاهدين بسبب هذا التجسيد، إذ سيعلق فى ذهن المشاهد صورة النبى فى شخص الممثل الذى سبق له القيام بأدوار شخصيات عاصيةس. والحق أنى- مع احترامى الشديد لهذا الرأى- قد حاولت اختباره على مشاهدى فيلم زآلام المسيحس فلم أر إلا أعينا دامعة على عذاب المسيح، وشابات كثيرات لم يحتملن صور التعذيب التى تحملها المسيح، وهو يفتدى البشرية بآلامه، ويغفر حتى للذين عذبوه لأنهم لا يعلمون ما يعلم. وبعيدا عن اختلاف المعتقد الدينى الإسلامى عن المعتقد المسيحى، فإن الذى فكر فيه المشاهدون وتألموا له هو العذاب والعنف الذى يلقاه الأنبياء والرسل فى سبيل هداية البشرية، والسير بها على طريق التوحيد الذى يجمع بيننا والإخوة المسيحيين. وكان الشعور بجلال المواقف ينسى الناس شخص الممثل، فلا يرون سوى المسيح الذى تحمل ما لا يتحمله بشر من أجل سعادة البشرية وهدايتها. ولذلك استرحت إلى ما اجتهدت فيه، معملا عقلى المسلم الذى يحق له الاجتهاد فيما هو شأن عام، عليه الإسهام فيه برأى سوف يثاب عليه حتى فى حالة الخطأ. ومرت الأعوام، وجاءت الضجة المصاحبة للخوف من عرض فيلم زنوحس. وسعدت جدا عندما قرأت للفقيه الدكتور سعد الدين الهلالى ما كتبه فى حلقتين بجريدة الوطن (بتاريخ 20، 27 مارس الحالى) عن كيف يكون الاجتهاد فى المستجدات، والاجتهاد فى تجسيد الأنبياء فى الأعمال الدرامية. وكان مصدر سعادتى أننى وجدت نفسى أمام فقيه يواصل فتح باب الاجتهاد الفقهى الجسور الذى يبدو أنه انقطع فى الأزهر، بعد أن استأنفه الإمام محمد عبده وواصله تلامذته، وأشهرهم على عبد الرازق والشيخ شلتوت. واجتهاد الدكتور سعد الدين الهلالى مدعوم بالحجة، ويصل بين المعقول والمنقول وصل المتمكن من مجاله المعرفى التخصصى، وهو الفقه. والحق أننى بعد أن قرأت اجتهاده وأسانيده من القرآن الكريم والسنة المشرفة، خرجت بما زادنى اطمئنانا إلى سلامة الموقف الذى اتخذته بالسماح بعرض فيلم زآلام المسيحس. وكنت مشرفا على الرقابة بوصفى أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، ومفوضًا من الوزير بصلاحياته. وكنت أعرف خطورة قرارى الذى كان نتيجة إعمالى عقلى فيما ليس فيه نص، كما كنت أعلم أن الاجتهاد واجب على المسلم فى المجالات التى يقتضيها، وأن المجتهد مثاب حتى لو أخطأ ما خلصت نيته. ولذلك حاججت من اختلف معى، واستأنست برأى من أثق بسلامة مقصدهم، وها أنذا أجد سعد الدين الهلالى يؤازر موقفى القديم، ويخالف ما استقر عليه الأزهر، ولذلك، فليسمح لى أن أنقل لقراء الأهرام ما خرجت به من مقالتيه، لكن بلغة الناقد الأدبى وأسلوبه، فأقول: إن الهدف من تجسيد الأنبياء فى الأعمال الدرامية هو: أولا: تبصير الناس بطبيعة وغايات الرسالات السماوية التى يرسلها الله- عز وجل- بواسطة أنبيائه ورسله إلى الناس جميعا، هادفة إلى هدايتهم وسعادتهم فى الدارين. ثانيا: تصوير جميع التضحيات وأشكال الابتلاء والعذاب التى يتحملها الرسل والأنبياء، راضين، طاعة لله وتصديقا لحكمته، وابتغاء مرضاته، وضرب المثل للناس جميعا فيما يتحمله الأنبياء والرسل نيابة عنهم، وافتداء لهم. ثالثا: وضع المشاهدين لزمن معلوم فى حال تخييلى يثير فيهم مشاعر روحية ودينية متسامية، ترقى بنفوسهم وقلوبهم وعقولهم، كى تصفوا قلوبهم من مطامع الحياة وغرائزها الدنيا، وتسمو عقولهم فى عالم من الخير الخالص والنقاء الكامل، كى يعودوا إلى دنياهم أسمى وعيا وأرقى حسا. أما ما يقال من أن صور الأنبياء المعصومين تهتز عند المشاهدين بسبب هذا التجسيد، فهو رأى ينقضه الخشوع الذى يثيره حضور الأنبياء فى هالاتهم التى تجسدها تقنيات السينما الحديثة. وأما أن شخصية الممثل السابقة ستعلق بذهن الناس إذا كان مؤديا لأدوار شر. فهو رأى ظاهر البطلان لمن يعرف أصول الفن، فالمخرج لا يختار أى ممثل للقيام بمثل هذه الأدوار الجليلة. وإنما يختار من تتوافر فيه شروط بعينها، تفرضها طبيعة الدور الذى يقوم بتأديته. ومن هذه الشروط قدرة الممثل البارع على الخروج من شخصيته الواقعية، وتقمصه للشخصية المتخيلة، بما يجعل المشاهدين ينسون صورته التى عرفوا الممثل بها فى أى دور سابق، ويستغرقون مع الممثل البارع فى حال تقمصه للدور وفعل تمثيله، فلا يرون سوى صورة النبى تخييلا وليس تحقيقا. وبقدر ما تسهم خبرة الممثل فى فعل التخييل، تقوم تقنيات السينما التى تقدمت إلى درجة مذهلة بما يكمل حال التخييل التى يدخل فيها المتفرج، ناسيا حاله الواقعى ودنياه الفانية. ويزيد التخييل تأثيرا الديكور والمكياج والتقنيات الصوتية والمخايلات البصرية التى تجعل المشاهد ينسى كل شىء فى عالمه الواقعى بفعل سحر الفن السمعى والبصرى، فيبدو كأنه فى حال من التنويم المغناطيسى، لا يفيق المشاهد منه، ولا يعود إلى حياته العادية، إلا وهو أكثر رقيا فى المشاعر، وأكثر استيعابا للمغزى الجليل الذى يرتقى بإنسانية الإنسان، ويزيد مشاعره الدينية جلالا وسموا. وما أفلام الأنبياء والرسل- فى النهاية- سوى نوع تخييلى من ضرب الأمثال للناس، لعلهم يتذكرون، ولعلهم يتقون، فتخشع قلوبهم من خشية الله، ويزدادوا إيمانا بسمو رسالات الأنبياء، وبديع قدرة الخالق فى خلقه، ورحمته بالبشر عندما أرسل من الرسل من يهديهم إلى سواء السبيل، ومن ثم يدركون جمال الفن وجلاله عندما يتولى تجسيد معجزات الأنبياء، ويريهم بسحر الفن ما تعمر به القلوب من الإيمان. لمزيد من مقالات جابر عصفور