فى عدد «الأهرام» يومَ الأربعاء 19 مارس الماضى نشَر الكاتبُ والشاعرُ الكبير/أحمد عبدالمعطى حجازى مَقالًا بعُنوان «الأزهر وفِقهُ المُراجعة» يتضمَّن ما يحتاجُ إلى المناقشة الموضوعيَّة أو «المراجعة». وقد صاغَ كاتبُنا المخضرم مقالَه فى أسلوبٍ مُناسب بوجهٍ عام، وإنِ انزَلَق فى مواضعَ منه إلى عِباراتٍ غير مُناسبة سنغض عنها لنُناقِشَ الأفكار: أولا، مسألة الأساس فى هذا المقال، هى دعوة الكاتب قادة الفكر الأزهرى إلى وجوب المراجعة له بعد الحراك الثورى المصري، والواقع أنه لا يسع أيَّ مفكر جادٍّ إلا الإشادة بالمواقف الفكرية الأزهرية التى عبَّرت عنها وثائقُه الأربع كما فعَل سيادته نفسه فى ذات المقال. ثانيا، وسيادته دون أن يذكر الأمثلة التى تُثبِت أن «رجال الدين» أو بالأَحْرَى علماء الأزهر - استخدَمُوا حسب عبارة سيادته: «استخدم الضباط رجاله» والعلماء ما كانوا أداةً فى يد الحكام يومًا من الأيام، ضباطًا كانوا أو مدنيين، والتاريخ القريب يُثبِتُ أنَّ أكثر المؤسسات معارضةً فى نصف القرن الأخير للإجراءات والقوانين المتعسِّفة هم رجال الأزهر الشريف. والأمثلة كثيرةٌ تُشرِّف سجلَّ الأزهر. أمَّا شعار «مدنية الدولة» فسوف نعرض له بعد أنْ نُؤكِّد أمرًا حاسمًا، هو أن لا علاقة للأزهر ومواقفه المعبِّرة عن الفكر الإسلامى الوسطى بفصيلٍ وطنى أو دينى مُعيَّن، وما كان ينبغى إقحام ذلك فى مقال يُناقش الفكر الأزهرى والمراجعة . ويُكرِّر الكاتب فى غير تحفُّظ عبارته استعمال البعض أو استعانتهم برجال الأزهر فى مسألة مصادرة بعض الكتب، وهو يعلم مثل غيره أنَّ الأزهر لا شأنَ له بمُصادرة أيِّ عمل ثقافي، لكنَّه يُجيب على أسئلةٍ ترد إليه من مسئولين أحيانًا ومن غيرهم أحيانًا أخرى بما يتَّفق مع الفقه الشرعى والأدلة المعتبَرة، وهو دورٌ تفرضه عليه رسالته التاريخيَّة وتنوطه به كلُّ وثائقِ مصرَ الدستوريَّة والقانونيَّة، وسيظلُّ الأزهرُ يقوم به وفاءً للدِّين وللشعب المصرى والأمة الإسلامية، غير ناظرٍ إلى إرضاء أطراف، مسئولين كانوا أو مثقفين كانوا، يساريِّين أو يمينيِّين. يا سيادة الكاتب الشاعر: الأزهريون أكثر المصريين ولاءً للشعب؛ لأنهم من قاعدته الأساسيَّة والملتحِمون به فى مَعايشه ومَشاكله، وماذا يسوؤك وأنت الذى بدأ تكوينه الثقافى بحِفظ القُرآن الكريم فى نظامٍ يقومُ على البيعة أى على رأى الشعب فى حاكمه، دون أيِّ مصدرٍ آخَر من حاكمٍ سابق أو مُتغلِّب، وكل نظم العالم الديمقراطيَّة تَشجُب التغلُّب، متى استطاعت الأمَّة إلى ذلك سبيلًا وهو نفسه موقف الشريعة الإسلاميَّة، أمَّا صلاحيات الملك أو الحاكم فلا يُحدِّدها فيلسوف كالفارابى أو فقيه كابن رشد، وإنما الأدلَّة الشرعيَّة وفى المقدمة منها القُرآن الكريم، ومثلك لا يجهل أنَّ الباحث الذى بيَّن نظام الخلافة فى أرقى الأوساط القانونية المعاصِرة هو عبد الرازق السنهوري، فلتقرأ سيادتك بالفرنسية رسالته التى قدَّمها إلى السوربون منذ قرن إلا عقدًا واحدًا قبل السخرية والهجوم! وبعد صُدور بحث السنهوري، ومراجعات الأزهريين الذين لا يَعرِفون فؤادًا ولا مخططاته، بعشرين عامًا، أصدر على عبد الرازق الذى يُستَغلُّ كتابه الأول كأنَّه قميص يوسف كتابًا عن «الإجماع»، واعتُبِر أكبرَ دليلٍ لإثبات دليل الإجماع دليلاً شرعيًّا أي: الأمَّة مُمثَّلة فى فقهائها وعقولها من المجتهِدين، على اختيار أبى بكر أوَّل الخلفاء الراشدين، وبهذا اتَّفق كلٌّ من المفكِّر الأزهرى على عبدالرازق والمفكِّر القانونى الحديث السنهورى على هذا النظام الذى جعلت أكثر مقالك سخريةً به وازدراء. وهو الذى يُبيِّن ما إذا كان الفكر الأزهرى ناقلًا أو فاعلًا، أمَّا التمسُّح باسم الشيخ على عبد الرازق فإنَّ كثيرًا من قُرَّائك يعرفون كتابه من «الإجماع» الذى أصدَرَه عام 1946 أي: بعد موت فؤاد بعقدٍ كامل من السنين، وبقلم مَن لا تظنُّ به العمالة لحساب الأسرة الحاكمة، كما حاولت باتِّهام الشيخ الجيزاوي، وقد كان بدوره يُقاوم جهات أخرى خارجَ مصر، تريد استغلال سقوط الخلافة فى إسطنبول، لتحتلَّ السرير الخالى بحق أو بأى حق. والكاتب الأمين يُفرِّق بين النظام فى ذاته، والتجربة أو التجارب التاريخيَّة، وكما تَعلَمُ قد أشاد البعضُ بسموِّ التطبيق أحيانًا، فلقد ذكَر الدكتور طه حسين فى «مرآة الإسلام» وغيره أنَّ دولة الراشدين كانت أمثَلَ النُّظم الحكوميَّة، وأقربها لرعاية حقوق المحكومين، فالوقت الذى لا يُنكر أحد أنَّ الواقع يحوى العديد من نُظم القَمع، فى تاريخ المسلمين، وتاريخ غيرهم ، ومنها ما افتضح بعد حين وكانت الصفوة المصريَّة تُصفِّق له وتُروِّج له فى يومٍ من الأيَّام، ومنهم أزهرى دعَتْه الأمانة أنْ يعتذر عن ذلك وهو الأستاذ خالد محمد خالد . هذا هو النظام الذى انتصَر له كلٌّ من السنهورى وعلى عبد الرازق، وانتصر له الأزهر أخيرًا فى نموذجه المعاصر باسم: (الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة) فإن أردت تسميتها ب «الدولة المدنية» فلتفعل ولا حرَج، فهى مدنية حقًّا، ولكن الوثائق التاريخيَّة تَصدُر بلغةٍ مُحدَّدة، ومصطلح «الدولة المدنية» لا يخلو من التباسٍ فى البيئة المصرية، وأنت سيد العارفين! يا أيها الشاعر الكبير: تَوَجَّه إلى أعداء الديمقراطيَّة الحقيقيين، وقد اعترفت فى أوَّل مقالك بجهود فضيلة الإمام الأكبر. أمَّا فيلم نوح وأمثاله فالأزهر فى بيان الهيئة الأخير أوضح حجَّته بهذا الشأن، وأن السينما التى تُصوِّر الواقع المعيش لا سبيل لها إلى تصوير المعصومين من الرسل، فى علاقتهم بالسماء وتَلَقِّيهم للوحي، وكونهم مُثُلاً عُليَا فى تاريخ الإنسانية، ولعلَّ المساس بهذه المثُل يُشبِه تسميمَ الآبار الثقافيَّة؛ كى لا ترجع إليها الأجيال الجديدة، وسيادتك تعلَمُ اعتراض الجهات الدِّينية من اليهود والمسيحيين على ما تم تجسيده فعلاً من شخصيات الأنبياء، وليس علماء الأزهر بدعًا فى هذا الصدد.. وثق يا أخى أنَّ علماء الأزهر الشريف سيظلُّون أوفياء لمهمَّتهم التنويريَّة الحقيقية ودورهم الريادى دون جلَبةٍ أو ادِّعاء. لمزيد من مقالات د. حسن الشافعى