حسنا فعل د. وحيد عبد المجيد حينما تطرق إلي القضية المحورية الشائكة حول تفككّ (تحالف الثلاثين من يونيو)، في مقاله المنشور بالأهرام في 22 مارس تعقيباً نقدياً علي ما ورد في مقالنا المنشور بتاريخ 17 مارس (نداء إلي جهة وطنية متحدة) . مع اتفاقنا علي أنه لم يكن تحالفا بالمعني الدقيق في ذلك اليوم المشهود ، يثور اختلاف الرأي بشأن المسئولية عن الفشل في تشكيل »جبهة وطنية متحدة« تمثل الظهير السياسي والشعبي المفترض لحركة الثلاثين من يونيو؛ حيث يميل د. وحيد عبد المجيد إلي إلقاء العبء علي عاتق (القوي المضادة لثورة يناير) ، بينما رأينا ونري أن القوة المنوط بها حماية الثورة والاستمرار بها عبر موجاتها المتعاقبة هي المسئولة تاريخيا وبصفة أساسية عن الفشل في توفير المقومات السياسية والتنظيمية الضرورية لتحقيق تلك المهمة الجسيمة، وهي مسئولية مشتركة بين القوي الوطنية كافة، من (شباب الثورة) إلي جبهة الانقاذ وأعضائها من الأحزاب والقوي والشخصيات الوطنية وغيرها . ويهمنا أن نشير في هذا الصدد إلي عدد من الحقائق الأساسية ذات الصلة بما ذُكِر. الحقيقة الأولي تتعلق بما يثار في أدبيات اليسار العالمي والعربي حول ضرورة التفرقة بين التناقض الرئيسي والتناقضات الفرعية في كل مجتمع خلال مرحلة زمنية معينة. ويتمثل التناقض الرئيسي في مصر حالياً في التهديد بفقدان قوة (الدولة الوطنية)، من جراء الممارسة المنظمة للعنف المسلح مما ينذر بالتحول إلي نوع من الاقتتال الأهلي أو الحرب الداخلية ، وربما من يدرى: الحرب الأهلية . أما التناقضات الفرعية فإنها تتمثل في الصراعات السياسية الجارية بين النخب حول عملية السلطة ، وتجسيداتها المتعلقة باختلاف المواقف حول قضايا الحريات العامة والقيود المفروضة عليها في الآونة الأخيرة الراهنة وبصفة مؤقتة، من هنا يتبين خطأ النظر من جانب بعض القوي السياسية و الثورية إلي موضوع العنف المسلح باعتباره مجرد نوع من الصراع بين الجيش من جانب أول، والمجموعات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين (من جانب ثان)، في حين أن الموضوع المذكور يمثل صراعاً بين غالبية المجتمع (بما فيه القوات المسلحة) والتي تمثل «الإجماع» أو التراضي العام وبين فئة من المجتمع تتوسل بالعنف من أجل الوصول إلي السلطة أو استعادتها من بعد فقدانها في ظروف معينة. أما الحقيقة الثانية فيما يتعلق بالواقع المصري بعد 30 يونيو ، فإنه يمكن القول بقدر معقول من الدقة، إنه لم يوجد نظام بالمفهوم العلمي في مصر (ما بعد 30 يونيو)، وإنما هو مجرد وضع وبينما يستوعب مفهوم «النظام» البناء المؤسسي والقيادي المترابط داخل المنظومة الفاعلة للحياة السياسية في بلد ما، فإن «الوضع» هو مجرد «ترتيب مؤقت» لا تتوافر له بالضرورة خاصية الانتظام المؤسسي بالمعني الدقيق. ومن هنا، فلعله قد اختلط الأمر لدي الكثيرين وخاصة من جمهرة الشباب المثقف و(شباب الثورة) فتم الظن بأن كل ما جري ويجري في مصر بعد 30 يونيو إنما يعبرعن بناء مؤسسي وقيادي منسجم وأنه ينبع في نهاية المطاف من إرادة شخص ما أو مجموعة محددة من الأشخاص. الحقيقة الثالثة تتصل بالمفهوم الأصيل للقيادة السياسية، حيث تنصرف القيادة بهذا المعني إلي تملّك الرؤية القادرة علي القيام برسالة «التنوير» المجتمعي ووظيفة الريادة الفكرية، وليس مجرد «الانسياق» وراء موجات متحولة ذات طابع (شعبوى) في اتجاهات «الرأي العام» عبر الزمن . وقد لاحظنا بعد الثلاثين من يونيو أن عدداً من القوي السياسية قد انساقت من وراء بعض فصائل (شباب الثورة) وخاصة في موقف (اللامبالاة) إزاء الصراع السياسي الرئيسي الجارى، وهي (لامبالاة) ممزوجة بموقف يبدو «مسبقاً»، معادياً أو شبه معاد للقوات المسلحة (وجهاز الدولة عموماً) في سياق العملية المجتمعية والسياسية الجارية، وبصورة قد تكون مجافية لروح «الموضوعية الناقدة» إلي حد بعيد ، بحجة (الخشية) من قيام تسلطية جديدة أو (الخشية) من عودة نظام مبارك ، وغير ذلك من صور (الخشية) السيكولوجية غير المبررة بالقدر الكافي ، والتي قد تخفي المبالغة حولها ما تخفى. وثمة حقيقة رابعة تتعلق بموقف القوي المضادة لثورة يناير (ومن يسمّون الفلول)، من الأوضاع السياسية بعد 30 يونيو. إن القوي المضادة المذكورة لا يستغرب منها ما اتخذته من مواقف، سعياً إلي حماية مصالحها الاقتصادية والاجتماعية المستقرة، واستعادة مواقعها المفقودة علي خارطة السلطة السياسية وتوابعها ، كما لا تستغرب منها محاولة ركوب (الموجة التصحيحية) للثلاثين من يونيو والعمل علي تشويه هذه الموجة وحرفها عن مسارها الصحيح، وإرباك المسار السياسي الذي كان يفترض أن يتجه إلي تشكيل تحالف سياسي عضوي معبر عن الأهداف الأساسية لثورة 25 يناير .ويمكن القول إن بعض القوي المضادة لثورة يناير قد نجحت بمعني معين في محاولتها تلك من أجل (ركوب الموجة التصحيحية) وخاصة في مجال الإعلام الصحفي والفضائي وفي استخدام الوسائط الشبكية للتواصل الاجتماعى، شأنها في ذلك شأن (جماعة الإخوان المسلمين) وحلفائها من حيث نجاحها المشهود علي صفحات الأثير والفضاء السيبرانى. لكن (النجاح الإعلامى) لقوي الثورة المضادة ينبغي ألا يعتبر حجة معاكسة لحركة الثلاثين من يونيو وقيادتها، خاصة وقد تحول ذلك (النجاح) إلي عبء علي هذه الحركة وتلك القيادة، حتي ليمكن القول إن شطراً عظيماً من مشاعر الجفاء الشبابي الراهن إزاء (القوات المسلحة) وإنما يعود إلي حسبان الإعلام المعادي لثورة يناير في نفاقه المتزلف معبراً تعبيرا مطابقا عن القيادة السياسية والعسكرية . وذلك أمر يجب الحذر منه والنأي عنه حتي لا تترك الأجيال الشابة المثقفة فريسة (سهلة) للضبابية الفكرية والتشويش الذهني ، ورهينة بأيدي فرسان (المراهقة الثورية) و(الطفولة اليسارية) إذا صحّ هذا التعبير، ولقد كان الأوْلي بالقوي الوطنية الممثلة في (جبهة لإنقاذ) أن تسارع إلي إبطال مفعول المحاولة (الفلولية) عبر الالتقاء من طرفها بحركة الثلاثين من يونيو وتجسيدها تجسيداً موضوعياً ونقدياً في نفس الوقت، ولا نقول إنه التقاء «غير مشروط» وإنما هو مشروط بالأهداف الأساسية لثورة يناير العظيمة. الحقيقة الخامسة تتعلق بجبهة «الإنقاذ الوطنى». إن العتاب يكون علي قدر الرجاء، ولقد كنا نرجو من هذه الجبهة ومن أعضائها الكثير بعد الثلاثين من يونيو، ولكن تبين من تتابع الأحداث أن أداءها كان ولم يزل دون مستوي الآمال المعقودة عليها، و يمكن أن يتفق معنا د. وحيد عبد المجيد في القول بأن الإخفاق الراهن لتلك (الجبهة) يعتبر تجسيداً لظاهرة تاريخية ممتدة تتعلق بالمسار العام للفشل المزمن للقوي المسماة بالمدنية والحركة الوطنية إجمالاً في مضمار بناء قدرة سياسية علي المستوي الجماهيري طوال تاريخ مصر المعاصر، ومنذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر حتي الآن، ونأمل أن يتفق معنا د.عبد المجيد أيضا في القول بأن (جبهة الإنقاذ) وأعضاءها من الأحزاب والقوي السياسية والشخصيات الوطنية، لم تبذل ما يكفي من الجهد للسير علي طريق تأسيس قدرة سياسية ذات عمق جماهيري حقيقى، بحيث تشكل ما كان يفترض أن يمثل الظهير السياسي والشعبي لحركة الثلاثين من يونيو، لقد كانت هذه الجبهة من خلال أعضائها هي الجهة المعنية بصفة أساسية بتلك المهمة التاريخية، وليس غيرها ، ومن هنا يتوجه اللوم والعتاب إليها في المقام الأول ، بدلاً من أن يتم البحث عن (أكباش فداء) كالقوي المضادة للثورة لتحميلها عبء الفشل الذي ينبغي أن ينسب إلي أصحابه بالذات . لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى