وزير المالية يبحث مع نظيره السعودي تعزيز فرص التعاون الاقتصادي المشترك    بوريل: عدة دول أوروبية ستعترف بالدولة الفلسطينية بنهاية مايو    رقم سلبي يثير مخاوف برشلونة قبل مواجهة فالنسيا في الدوري الإسباني    الاتحاد السكندري يجمد مستحقات لاعبيه بسبب سوء النتائج    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    فرقة ثقافة المحمودية تقدم عرض بنت القمر بمسرح النادي الاجتماعي    برلماني: افتتاح السيسي مركز البيانات والحوسبة السحابية انطلاقة في التحول الرقمي    ب600 مليون جنيه، هيرميس تعلن إتمام الإصدار الخامس لطرح سندات قصيرة الأجل    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    سيناء السلام عبقرية الدبلوماسية المصرية.. ندوة تثقيفية بجامعة المنوفية    انتصار السيسي وقرينة رئيس البوسنة والهرسك تتفقدان غرفة الهلال الأحمر    مصرع 42 شخصا إثر انهيار سد في كينيا    محلية النواب تواصل مناقشة تعديل قانون الجبانات، وانتقادات لوزارة العدل لهذا السبب    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    كرة اليد، جدول مباريات منتخب مصر في أولمبياد باريس    رئيس جامعة أسيوط: استراتيجية 2024-2029 تركز على الابتكار وريادة الأعمال    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    تحذير قبل قبض المرتب.. عمليات احتيال شائعة في أجهزة الصراف الآلي    قرار جديد من المحكمة في اتهام مضيفة طيران بإنهاء حياة ابنتها    البورصة تربح 73 مليار جنيه بختام تعاملات اليوم    معيط: تبادل الخبرات في السياسات المالية لتعزيز فرص التعاون الاقتصادي    الخميس المقبل، رشيد مشهراوي وحكايات السينما الفلسطينية في معكم منى الشاذلي    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    هنا الزاهد بصحبة هشام ماجد داخل الجيم.. وتعلق: "فاصل من التمارين العنيفة"    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    بيت الزكاة والصدقات يطلق 115 شاحنة ضمن القافلة السابعة لحملة أغيثوا غزة    خالد عبد الغفار يناقش مع نظيرته القطرية فرص الاستثمار في المجال الصحي والسياحة العلاجية    طريقة عمل الكيك اليابانى، من الشيف نيفين عباس    يسبب ذبحة صدرية وارتشاحا بالمخ، تحذير من تناول الفسيخ في شم النسيم    أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة.. سهلة وبسيطة    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    باركود وتعليمات جديدة.. أسيوط تستعد لامتحانات نهاية العام    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    التضامن : سينما ل ذوي الإعاقة البصرية بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    تراجع أسعار الذهب عالميا وسط تبدد أمال خفض الفائدة    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    أول رد رسمي من الزمالك على احتفال مصطفى شلبي المثير للجدل (فيديو)    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمام يا فندم
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 03 - 2014

السيد عبدالفتاح السيسى.. ألف سلام مدنى وتحية شعبية تمحو ما بيننا الرتب وتُبقى مشاعر الود وكامل الاحترام..
أخيرا وليس آخرا.. فما بيننا يا سيدى ليس له أول ولن يكون له آخر، فنحن معاً حدوتة الزمان عندما تأتى الأيام للمعذبين فى الأرض بالبطل.. أخيرا رأيناك تقولها.. ذلك الذى انتظرنا سماعه منك طويلا ليمر كل يوم كل ساعة كل دقيقة بدونها كما الدهر، وذاك بعدما وعدتنا بأن تكون قدّها.. وأنت لها.. قلتها وفى نبراتك الشجن لوداع ردائك العسكرى الذى لاصق جلدك منذ الخامسة عشرة لتتسارع النجوم والأوسمة والنياشين والرتب والتيجان لتُزين صدرك وتغزو كاتفيك وتعلو هامتك تقديرًا لك.. الآن جاءتك ساعة الحسم.. البطل مع النفس وجهاً لوجه، والبطل لا يولد وحده.. البطل يُخلق ولابد كى يوجد أن يتفتح فى ظل إحساس عام بضرورة البطولة. بروعة البطولة. بتفرد البطل.. بافتقاد البطل.. البطولة قيمة ولابد أن توجد وسط محصول وافر من القيم.. الآن تتخلى ببطولة عن لمعة الزى لتهبط إلى المعترك.. تنضوه عن أكتافك بملء إرادتنا نحن من قبل إرادتك.. ناديناك بالملايين إلى صفوفنا فى الميادين والساحات وطوابير الغاز والعيش والمواصلات لتأتينا بالقميص والبنطلون الجينز الكاجوال وليس بزى الضابط وكامل الانضباط فلبيت النداء.. فإذا ما كان رداؤنا يا سيدى بلا نجوم فإن محبة الشعب وثقة الأرامل وأبناء الشهداء ومحاربى رمال سيناء وسكان ممرات السيول والمهمشين والغارمين والمظلومين والمهجرين من انهيارات زيف الخرسانات لها ضىّ النجوم والثريا والأقمار والشموس والقناديل وهالات الفخار والنور..
ويمين الله يا سيدى لن تتغير إطلالتك فى عيوننا بالبدلة الميرى أو بالزى المدنى فقد التقطنا صورتك وطبعناها من زمن على واجهة ضمير مصر الوطنى بعدما أدركنا بوعينا الفطرى تجاه بوصلة الصدق أن مسئوليتك لن تتجزأ من خلف الدبابة أو خلف المكتب، فالجيش والشعب إيد واحدة، والملامح الإنسانية واحدة، والثقة بالنفس والشعب واحدة، والمشاعر الحميمة واحدة، والوعد بالحق واحد، والشفافية واحدة، وضرب المثل بالنفس واحد، والذود عن الديار والحدود والأهل والجار واحد، والعزيمة واحدة، ونبرة الكرامة واحدة، والعزّة والإباء واحد، والعروبة واحدة، والاعتراف بالجميل واحد، وعدم نسيان من مد إلينا يده بالسلام ومن مدها بالسلاح واحد، والوعد بالأخذ بالثأر واحد، والثواب والعقاب واحد.. بالبدلة العسكرية أو فى الزى المدنى.. و..ربما الشىء الوحيد الذى سيتغير فى صورة شرخ الشباب هو ذلك المشيب الذى سيعلو ولابد المرفقين ما بين ليلة وضحاها فمسئوليتنا نحن شعبك الثائر المتأجج الذى لا يعجبه العجب.. ضخمة.. يشيب لها الوجدان والأبطال.. ولكن قلوبنا معك وسواعدنا من خلفك بعدما دقت ساعة العمل.. لتجمع شملنا وتلملم شعثنا.
هذا وقد لاحظنا فى خطاباتك لنا أن هناك بعضاً من الجُمل تحرص على تكرارها سيادتك من باب التأكيد والتوكيد والحفر فى الأذهان.. ونحن الآن وفى هذا المجال وعلى نفس الدرب نؤكد لك مرة واتنين وعشرة وتسعين مليون وزيادة أن أحلام سيادتك أوامر.. وتمام يا فندم.. وجاهزين يا باشا.. وما عليك سوى الإشارة فقد أصبحنا بعدما صدقناك جميعا مجندين فى سلاح الإشارة، وبدفقة حماسة منك فى شرايين الوطن حنكون سلاح مدرعات، صاعقة، ودفاع جوى، وبحرية، ونحلّق بالأباتشى، ونكتسح أنفاق، ونقوم بمهمات عامة وخاصة، ونحرِّم الحياة على أعداء الحياة إرهابى جبل الحلال.. ونقضى على مظاهرات الجامعات التى لم نعد ندرى فيما إذا كانت ثورة ارتدت ثوب الإجرام أم أنه الإجرام وقد ارتدى ثورة؟!
البطل لا يِعدُ بالمعجزة.. يكفيه من أجلنا ما أنجزه.. لكن الرجاء: تبَّسم يا سيدى فقد عاهدناك مبتسماً والبسمة تصنع المعجزات..
قف ل..صلاح حافظ
عندما غزت الراحلة سميرة خاشقجى الساحة الصحفية بمجلتها المصقولة «الشرقية» فى منتصف الثمانينيات اقتطفت من ميدان الكفاءة الصحفية المصرية خيرة ثمارها حتى أنها اتخذت من الكاتب الصحفى القدير صلاح حافظ مستشارا صحفيا لها، فلم يقتنع بانحصارها داخل دوائر المجلات الخليجية المخملية وماركات الساعات والبارفانات، فمنحها النفس الصحفى الجذاب، وضخ فيها موضوعات وتحقيقات ميدانية واجتماعية تجذب اهتمام القارئ العربى من الجنسين، ونفخ فيها من الروح المصرية الوثابة الحريفة.. وبمناسبة تخرج العدد الأول من الشرقية فى مدرسة صلاح حافظ الصحفية المعنية بالشكل والمضمون، ثالث مدرسة فى تحديث الصحافة المصرية المعاصرة من بعد المدرسة الأولى لمحمد التابعى المهتمة بالرأى والتحليل الدقيق، والمدرسة الثانية لمصطفى وعلى أمين باهتمامها بالخبر الصاعق المثير الذى يتضخم بالعبارات الرشيقة المدربة حتى يتحول إلى أسطورة يستقى منها نجيب محفوظ بعض رواياته مثل اللص والكلاب.. بمناسبة المولودة الجديدة وفى فمها ملعقة الذهب أقامت سميرة حفلتها فى قصرها بالزمالك وذهبنا كمدعوين نجلس فى الحدائق الغناء حول موائد عامرة بلا حساب لتشدو لنا ضمن برنامج حاشد المطربة صباح فى قمة دلالها وتألقها.. وتنتهى الشحرورة من الغناء لتهبط توزع أوراق ورد أنسها على المعجبين، وتصل إلى دائرتنا فتزيد وتعيد من ترحيبها بالذات بصلاح حافظ الأسمر الرزين الحكيم الدمث صاحب الابتسامة التى لا تغيب عنها شمس.. وقسما لو أن الجالس بين رخات تدليلها من حجر صوان لما كان رد فعله إلا مشابها لمجاملة صلاح التى غلفها حذرا مراعيا عاملا ألف حساب وحساب للزوجة الرابضة بجواره هالة الحفناوى التى لم تستطع السيطرة على جماح عصبيتها طويلا فاندفعت تغادر الحفل تاركة من خلفها فى أجواء المساء الناعم أشواكا ورعودا، خاصة بعدما هرول فى أعقابها الزوج المغلوب على أمره ململما مخلفاته من علبة السجائر والمفاتيح التى ساعدناه متعاطفين على جمعها، بعدما ودعنا من تحت نظارته بعينين مبتسمتين فيهما مزيج من الإحراج والمرارة والسخرية وغرور الرجل المغار عليه.. عينان تكملان وقع ابتسامة شفتيه الدائمة التى لا تعنى كلها سعادة!
مثل تلك الابتسامة كانت على وجه صلاح حافظ فى أواخر السبعينيات عندما اجتمع السادات بعدد من الصحفيين ورؤساء التحرير والكتاب والإذاعيين ومجلس نقابة الصحفيين لتجديد ولاية رؤساء التحرير ورؤساء المؤسسات فى استراحته بالقناطر الخيرية، وألقى السادات يومها بالقائمة التى منها إبراهيم نافع للأهرام ومكرم محمد أحمد للمصور وموسى صبرى للأخبار، ثم توقف أثناء قوله بعدما رجع إلى الخلف فى مقعده ليشعل تبغ البايب بعد تسليكه بتؤدة: ونأتى لروزااليوسف.. ما رأيك يا صلاح صلاح حافظ في18 و19 يناير.. ها.. انتفاضة شعبية يا صلاح ولا انتفاضة حرامية؟!.. وكان وراء السؤال خلفياته، فعندما خرجت المظاهرات احتجاجا على ارتفاع الأسعار فى يناير1977 واستعد وقتها السادات لترحيل أسرته إلى الخرطوم تخوفا على حياة أفرادها وانتظر يراقب التطورات فى استراحة أسوان.. أثناء تلك الأحداث اتخذت روزاليوسف برئاسة صلاح حافظ موقفا خاصا دافعت فيه عن المتظاهرين بأنها انتفاضة شعبية وليس كما تقول السلطة انتفاضة حرامية، وبعدها اتخذ الرئيس السادات قرارا بتنحية المسئولين الثلاثة عن روزااليوسف عن عملهم وهم عبدالرحمن الشرقاوى رئيس المؤسسة، ورئيسا التحرير صلاح حافظ وفتحى غانم اللذان كانا قد استمرا فى عملهما لمدة أربع سنوات كان فيها فتحى غانم يمثل الاستراتيجية، وصلاح حافظ التكتيك، ونجحت روزاليوسف وقتها نجاحا فاق كل تصور.. دوى سؤال السادات فى القاعة وانتقلت الأنظار لصلاح حافظ لتفاجئهم ابتسامته التى ترسم تعبيرا لا يعنى كله سعادة وهو يشرح بلا تلعثم من جديد كيف أن هناك عوامل موضوعية أدت للانتفاضة وأن دخول بعض العابثين فى صفوفها لا يعنى أنها انتفاضة حرامية.. وابتسم السادات فى المقابل قائلا: يعنى يا صلاح الدوجما اللى فى دماغك زى ما هي، طيب أنا كنت حاختارك رئيس تحرير لروزاليوسف.. خليك بقى المرة دى والسيد يقصد عبدالعزيز خميس رفيقه فى قضية مقتل أمين عثمان السيد سوف يكون رئيسا للتحرير.. وابتسم الجميع وترددت النكتة بأن صلاح حافظ قد رسب فى الشفهي.
الكاتب الصحفى الروائى الأديب القصصى التليفزيونجى المبتسم دوما كانت الكاميرا سببا فى سجنه خلف أسوار معتقل المحاريق فى الوادى الجديد تاركا زوجته الأولى الممثلة هدى زكى وابنه شريف وابنته تحية ليغيب فى بعد الصحراء ثمانى سنوات طوال.. كانت الكاميرا الآثمة من ماركة لوبى اشتراها له الرسام هبة عنايت بستة جنيهات ليمارس بعدستها هوايته فى تسجيل والتقاط الوقائع والأحداث، أما علاقتها بالاعتقال فهى أن البوليس السياسى الذى لم تغفل عيون مراقبته لحظة واحدة عن تحركات وخلجات بطلنا صلاح، قرر مداهمة بيته يوما فلاحظ وضع تلك الكاميرا فى مكان استراتيجى فقام بالتحفظ عليها، وعندما فتحها عثر بداخلها على دليل الإدانة، وكان مجرد ورقة صغيرة مطوية عدة مرات كأوراق برشام الغش فى الامتحانات مكتوبة بحروف غاية فى الدقة تم وضعها بين الفيلم الخام بمقاس120 الذى ينتج12 صورة بمقاس6*6 وبين شريط الورق الذى يلفه، وكانت الورقة المدانة مسودة لمنشور ثورى لتنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني.. و.. لم تغب الابتسامة عندما أدخل صلاح لسجنه الانفرادى ولا بعد أن سمح له بمخالطة زملائه ليغنى لهم أثناء قيامهم بالأعمال الثقيلة الوطأة كغسل الملابس والأطباق وتنقية الأرز الخ.. وكان يصدر فى السجن جريدته المسموعة التى أطلق عليها اسم «حميدة» قطة السجن التى تموء وتخدش كل مظهر سلبى وتقدم عروضا لغوية كاريكاتيرية ساخرة فى فقرات يعلق فيها صلاح بدعاباته على خصومه فى المنظمات السياسية الأخري.. وهناك فى تلك الحياة القاحلة كان يتقبل السجن كأمر واقع كأنه سيعيش فيه أبدا، وأنه المكان الطبيعى للإنسان، وأبدا لم يشاهد مرة وعلى وجهه أية علامة للقلق، ولم يسأل مرة متبرما متى يحين وقت الإفراج؟!.. كان مشغولا بأعماله، منشغلا بهموم الآخرين وليس لديه دقيقة تعد فائضا من الوقت، فالأعباء الملقاة على كاهله كثيرة وعليه وحده أن ينجزها، كتأليف رواية أو إخراج مسرحية أو الإعداد لحفل سمر أو إلقاء محاضرات أو علاج زملائه من المعتقلين أو الحرس الجنود.. وحدث أن جاء مأمور جديد صارم لا يتردد فى البطش والقسوة بالمعتقلين ولكن.. بعد فترة ابتلع ولداه أقراصا كانت دواء مهدئا له تركها سهوا بجوار فراشه فى البيت، فانهار الرجل وسارع يطلب معونة الأطباء المعتقلين، فراح صلاح حافظ وشريف حتاتة لإسعاف الطفلين، وبينما كانا يجريان الإسعافات الطبية كان المأمور يبكى ويتوسل إلى السماء قائلا: يارب.. انقذ لى ولو ولد واحد..!.. فرد عليه صلاح: وواحد ليه.. ده ربنا كبير ينقذ الاتنين.. وتعجب المأمور من الرد ليقول: الله انتم اليساريين بتعرفوا ربنا زينا؟! وجاء رد صلاح: نعم.. ونعرفه أكثر منكم.. نعرفه بالتصرفات لا بالكلام.. وعندما عاد صلاح حافظ إلى الحرية ظل المأمور الذى أصبح لينا متفهما بعد حادثة إنقاذ طفليه صديقا لصلاح حتى النهاية.. وفى معتقل الواحات من عام1954 حتى عام1962 بين الرمال والجفاف والأوامر والنواهى كتب صلاح رواية «المتمردون» وقدم مسرحيتى «الخبز» و«الحل الأخير» ورواية «القطار» وعشرات من القصص القصيرة التى نشر بعضها فى مجموعتى أيام القلق والولد الذى جعلنا لا ندفع..
خرج صلاح من السجن لتتسع مرارة ابتسامته بعد أن أصبح بلا قناعة فى الانضمام إلى أى من التنظيمات الشيوعية، فقد كشفت له تجربة السجن مدى التمزق والانقسام فى هذه المنظمات، وقرر أن يكون حرا يدافع بقلمه عن كل المظلومين فى الأرض ويقول الحقيقة التى يشعر بها وجدانه.. و.. لم يسلم صلاح من هجوم اليمين ولا هجوم اليسار، فاليمين هاجمه وبضراوة لأنه فى عيونهم شيوعى خطير ويسارى مغامر وماركسى منذ مولده.. واليسار هاجمه وبشراسة أيضا لأنه فى نظرهم يسارى حكومى وماركسى مرتد ويساريته من قبيل الديكور والوجاهة السياسية.. وكما أخطأ اليسار أخطأ اليمين بنفس القدر، وكان ذلك دليلا على صحة الطريق الذى اختاره صلاح لنفسه وقال عنه معبرا عن مغزى وسر الهجوم عليه: قل ببساطة ما تشعر به، فتشارك بذلك وبدون قصد فى دفع عجلة التاريخ. لا يهم موقعك من هذه العجلة.. لا يهم مستوى القضية التى أنت منشغل بها.. لا يهم أن تكون زعيما أو رئيس تحرير أو أديبا أو مجرد ريشة تصحح أخطاء الآخرين.. يكفى أن تؤدى مهمتك بإخلاص وحماس، وأن تعبر عما فى ضميرك دون زيف لكى يكون لك دور فى صياغة المستقبل.. وعند سقوط الاشتراكية السوفيتية كتب فى جريدة الأخبار في5 أكتوبر1991 يقول بلا مواراة وكأنه يتحدث عن تنظيم الإخوان: «سقطت الاشتراكية السوفيتية سقوطا لم يكن بسبب حرب أو كارثة طبيعية أو مؤامرة عالمية، وإنما فشل النظام من داخله ومات بسلام.. ولا يمكن مهما نحاول أن نفسر ما جرى إلا بالتفسير الوحيد الصحيح وهو أن النظام كان بطبيعته غير قابل للحياة، وأن بقاءه طوال سبعين عاما كان بأدوات غرف الإنعاش وبالمضخات وأنابيب الأكسجين والمنشطات الكيماوية، وإخفاء الأعراض وصور الأشعة ورسوم القلب والمخ عن أهل المريض الذى مات.. سقط لأنه كان نظاما ديكتاتوريا مطلقا ولم تكن لديه نوافذ يطل منها على واقع الحياة.. سقط لأنه كان يعيش طوال الوقت فى بيت من المرايا لا يرى فيها غير نفسه وبالحجم الذى يبغيه وفى الضوء الذى يريد».
الفتى الفيومى الذى كان على وشك التخرج فى كلية الطب مثل زملائه محمد يسرى ويوسف إدريس ومصطفى محمود.. لكنه كان قد فتن بالعمل السياسى من ناحية، وأدركته حرفة الأدب والصحافة من ناحية أخرى فأجهض بذلك حلم أبيه الفلاح المستنير الميسور الذى أتى خصيصا من الفيوم لزيارة الابن الضال ليقنعه أن يكمل تعليمه فى كلية الطب لأن المدة الباقية له لا تزيد على 6 أشهر فقط لا غير، وجلس صلاح كالتلميذ المطيع أمام والده يبتسم مصغيا وكأنه يؤمن على صحة كل ما يقوله الأب المستاء، وينبرى الصديق الكاتب سعد كامل فى دفاع يقول فيه للوالد إن ابنه صلاح أصبح رجلا مشهورا وهو من ألمع الصحفيين والكتاب فى مصر والبلاد العربية، وأن نفوذه أكبر من نفوذ الوزير. ويقاطعه والد صلاح قائلا بنبرة قاطعة: كل هذا لا يهمني، ولا يفرحني.. إن الذى يريحنى أن يحصل صلاح على بكالوريوس الطب ليحقق حلم الأسرة.. فرد صلاح أن إجراءات إعادة قيده ستكون معقدة، أقلها أن يستخرج صحيفة جنائية، وأن تكون خالية من السوابق، وهو صاحب سابقة.. وكما ينبغى أن يعد شهادة حسن سير وسلوك، وهو ليس حسن السير ولا السلوك فى رأى الحكومة.. ولم يتركهما والد صلاح إلا بعد وعد من الأصدقاء ببذل الجهد لإعادة صلاح لكلية الطب مرة أخري.. ووعدوه خيرا لكنهم فى الحقيقة لم يستطيعوا إقناعه لأنهم لم يكونوا فى حد ذاتهم مقتنعين، فصلاح أصبح دوره أكبر من دور الطبيب التقليدى فى المجتمع بعد أن ألهمته دراسته لعلوم الطب معنى آخر أروع وأسمى بأن يكون طبيبا للشعب كله، بعد أن اكتشف القانون الذى يوحد بين جسد الفرد وجسد الأمة والجسد الكونى بأكمله، ورأى أن الأمراض التى تسكن هذه الأجساد واحدة وكذلك علاجها واحد، وهكذا عاش صلاح طبيبا طوال حياته يعالج آلام الناس وآلام أمته، ويداوى جراحا طازجة ومزمنة بالمئات يحملها له بريده الصارخ كل صباح، ولم يمارس عمله العظيم هذا فى عيادة أو مستشفى بل على أرض الطبيعة فى الشوارع. فى المصانع. فى الحقول. فى التجمعات، فقد كان يحلم بشفاء الجسد الأكبر.. جسد الأمة.
صاحب الابتسامة التى لا تغيب.. بدأ مشواره العملى فى الصحافة عام1948 بنشر قصصه القصيرة فى جريدة المسائية التى رأسها كامل الشناوى بجوار نجوم جيله أنيس منصور ومصطفى محمود وحسن فؤاد، وانتقلوا منها جميعا لجريدة النداء التى يملكها ياسين سراج الدين الذى أسند رئاسة المجلة الجديدة القصة لصلاح حافظ والتى اكتشفت على صفحاتها موهبة يوسف إدريس ونشرت أولى أعماله، ومن مجلة القصة إلى روزاليوسف، حيث تم خطفه إلى أخبار اليوم ليساهم فى تأسيس جريدة الأخبار قبل اعتقاله بتهمة الشيوعية، ومن بعد آخر ساعة التى ارتفع بتوزيعها ليصل عام 1965 إلى 100 ألف نسخة، إلى روزاليوسف مرة أخرى ليتم عزله منها عام1977 ليتفرغ لزراعة حديقة منزله بالجرجير والملوخية وكتابة سيناريو وحوار رواية فتحى غانم «زينب والعرش» أروع وأنجح ما قدمه التليفزيون من مسلسلات تعكس وحدة إيقاع روح الفريق المتجانس.. الحلقات بالرقم الفردى يكتبها غانم والزوجى بقلم صلاح ولا تعلم أيها لأيهما، وكانت قدرة محمود مرسى فى دور رئيس التحرير وكمال الشناوى الضابط والرقيب تؤكد أنه لا مجال لفصل مياه النهر الواحد المتدفق.. و.. وكان يطيب لصاحب الابتسامة العزف على العود ليغنى بصوته الرخيم مقاطع من أم كلثوم وفريد ووديع الصافى وفيروز، ويستغل صاحب الخبرة عبدالقادر التلمسانى المخرج والمنتج الجوهرة الكامنة فى حنجرة صلاح فيعهد إليه بكتابة العديد من الأفلام التسجيلية والتعليق عليها بصوته المخملى فنستشعر بالمذيع المحنك الذى ضل طريقه إلى الصحافة.. صوت النغمة الصحيحة على طبلة الأذن المرهقة من الضجيج، حيث لا غلظة ولا سرسعة وإنما سلام سلام.. صوت لابد وأن يستدعيك من غفلتك لا بعنوة إيقاظ وإنما باستسلام الانقياد لتتفرغ كلية لسرده وتواريخه وشخوصه وأحداثه.. صوت مبتسم يحادثك عن كنوز البحر الأحمر وسفارى الصحراء والخط العربى وآثارنا الإسلامية وكأنه يردد قصائد الشعر..
العذب الناكر لذاته الحريص كرئيس تحرير أن تكون مهمته الأولى هى أن يكتب كل المحررين، لا أن يكتب هو.. صاحب الكتاب الفريد عن الروتين بعنوان «يا مكاتب الحكومة» المترجم للتاريخ الجنسى للإنسان من الكهف إلى حبوب منع الحمل، ومذكرات شارلى شابلن، من طارده نجاح كتابه الشهير «انتصار الحياة» حتى بات يضيق به فبعد خروجه من المعتقل الذى أمضى فيه سنوات مع الشيوعيين بجميع فصائلهم وبدأ مستأنفا كتاباته القصصية فوجئ بأن قراءه قد نسوه كأديب، وكلما ذكر اسمه أمامهم هتفوا فى تلقائية أيوه.. أيوه! صلاح حافظ بتاع انتصار الحياة، الأمر الذى آلمه تماما كما حدث ليحيى حقى مع درته «قنديل أم هاشم» وأسامة أنور عكاشة مع «ليالى الحلمية».. وكتب صلاح فى مقدمة إعادة طبع كتابه ردا على من سأله: انت صلاح حافظ بتاع انتصار الحياة؟ إذ قال: يا أخى أنا بتاع حاجات كثيرة من بينها هذا الباب.. صلاح خاطب فى مقالاته على مدى تاريخه الصحفى الطويل الكثير من رجالات السياسة والفكر ناقدا ومؤيدا بأسلوبه المحلق بجناحى الأدب والصحافة، فعلى سبيل المثال كتب لرئيس الوزراء عاطف صدقي: إننى أقدرك يا سيدي.. ويعجبنى اتزانك، وحذرك، وحرصك على أن تقدِّر لرجلك قبل الخطو موضعها، ولكننى أخشى أن يسبق الواقع سرعتك فى اتخاذ القرار، وأن نفاجأ بعد كل قرار برد واحد هو: بعد إيه، بعد إيه، بعد إيه؟ .. وكتب في7 فبراير1990 عن حسب الله الكفراوى وزير الإسكان والتعمير يقول عنه: إنه أعف الناس يدا وأكثرهم إخلاصا وصدقا، وقضية حياته هى بالفعل أن يتيح سقفا لكل مواطن، والمدن الجديدة بالنسبة إليه معركة حياة أو موت، ولكنه لا يجد وقتا يراجع فيه شئون بيته ويكتشف الذين معه والذين ضده.. وكتب عن محمد عبدالقدوس: لا أنصح محمد بالعدول عن مغامرته فى صياغة القصة الإسلامية الحديثة فهذه أول مرة يحاول فيها أديب عربى أن يجعل الإسلام بطلا فى دراما معاصرة، وأن يجعله هو الموضوع لا الخلفية التى تجرى أمامها الأحداث، وإذا نجح محمد فى تطوير هذه المحاولة وتمكن من إنتاج أدب دينى ناجح وقادر على البقاء ببلاغته الفنية والإنسانية وحدها فإنه سيكون قد حقق ما لم يسبقه إليه أحد وسيكون أول كاتب يخدم فى وقت واحد رسالة الأدب ورسالة الدين.. وكتب عن موسى صبري: كثيرا ما يدهش الناس عندما يجدوننى أدافع عن موسى صبري، وذات يوم دهش أنور السادات عندما رأى موسى صبرى ينبرى أمامه للدفاع عنى فى اجتماع لمسئولى الصحف، قبل أن يجف مداد اشتباك صحفى بيننا سبق هذا الاجتماع بأسابيع قليلة، والحق أن أحدا لم يفهم موسى مثلى فمشكلته بصرف النظر عن موهبته الصحفية الخارقة وذوقه الأدبى الرفيع أنه ولد بفطرته بالغ التطرف.. إذا اقتنع بقضية دافع عنها أكثر من أصحابها، ويستمر فى الدفاع حتى ولو تنازلوا عنها، وإذا أراد أن يهاجم لم يقنع بغزو شارع أو بيت أو مزرعة، وإنما اتجه رأسا إلى قلعة مسلحة وشرع يطعن أسوارها بقلمه وبقلة حيلته.. أليست متعة أن تختلف مع إنسان ويظل يحبك، وأن تتشاجر معه علنا وتظل تحبه، وأن تشعر فى قرارة نفسك أنه مخلص فى رأيه مثلما أنت مخلص فى رأيك، وأنكما فى حقيقة الأمر تسعيان إلى نفس الهدف: تسعيان إلى الحقيقة؟.
وكأنه يعيش يومنا هذا عندما كتب مقاله عن الصحافة المستقلة منذ 25 عاما ليقول فيه: ليس صحيحا ما يزعمه بعض أقطاب الصحافة المستقلة من أنهم مجرد باعة أبرياء يقدمون للجمهور ما يطلب، فالواقع أنهم يُعلِّمون الجمهور أن يطلب ما لديهم، ولما كان ما لديهم فاسدا فإنهم يتولون إفساد الجمهور، وهذا الإفساد هو جوهر الفن الذى يفخرون به.. ومات صلاح حافظ مرتين، الأولى بالمرض العضال فى أكتوبر 1991، والثانية بإهمال إعادة كتبه.. وهو الموت القريب من الاغتيال!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.