الاحتكام إلى المعايير هو معركة كل شريف في هذا الزمان..بأن يطالب بإعلان المعايير دومًا في كل شيء، وأن يرضى بالاحتكام إليها، وأن يبذل كل ما يملك من جهد، ومال؛ ذودًا عنها، وتحقيقًا لوجودها؛ كي يحتكم إليها الناس، وتكون ميزانا للتعامل بينهم، ومرجعية حاكمة لسلوكهم، وتصرفاتهم. وبدون وجود هذه المعايير، وهي الحق؛ تفسد الحياة، بل تفسد السماوات، والأرض. ولما كان الحق هو قانون هذه الحياة، وهو أحق أن يُتبع، قال تعالى: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْلَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ".(المؤمنون: 71). وأكبر خطر يهدد المعايير كثقاقة جماعية سلمية مدنية إنسانية دينية، ويحل بديلا لها، ويقف حائلا دونها؛ شيوع الأهواء، والميول، والانحيازات الشخصية، وتغليبها على المعايير الموضوعية، والقانونية، وتقديم "الشلة" والصُحبة على ذوي الجدارة، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، والنزوع نحو "أصحاب الولاء" على حساب "أصحاب الكفاءة". لذلك حذرنا الله -تعالى- من أن تسيطر علينا الأهواء، بل كانت وصيته لأنبيائه ورسله هي الاستمساك بالحق، مهما بلغ الثمن، وعظمت التضحية. فأوصى -سبحانه- داود عليه السلام فقال: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ*إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".(ص:26). كما أوصى -تعالى- الأمة بلزوم العدل، وإشهار الحق، وإقامة القسط، حتى لو كان ذلك على حساب المرء، ومصالحه.. قال تعالى: "يَا أَيُّهَآ 0لَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِ0لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ".(المائدة: 8). قال الزمخشري: "تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله، بهذه القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه، وأحباؤه"؟ أما اليوم فتهدد ثقافة الأهواء ثقافة المعايير، وتكاد تكون هي سبب العداوات بين الأفراد والأمم، وهو أمر ليس بجديد، بل له سوابق في التاريخ الإنساني، كأن هذا التاريخ يعيد نفسه من جديد. وقد ورد أن بعض اليهود أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقر بنبوته، لكنه لا يتخلى عن عداوته، فلما سُئل زعيمهم "حيي بن أخطب" عن موقفه من الرسول قال: "عداوته ما حييت"! هذه العداوة من قبل اليهود تجاه الرسول والإسلام، لا تبرر أبدًا أي إساءة لمعاملتهم، وأي جور على حقهم، وأي تجن عليهم، وأي ظلم لهم، وأي انتقاص من حقوقهم.. وعلى هذا ربى الإسلام المسلمين، كي تكون الشخصية الإسلامية سوية متزنة. إن أسوأ ما يصيب أمة هو أن تنعدم فيها المعايير، أو أن ترضى بازدواجها، لأن ذلك يقودها إلى فوضى عارمة، ويرتد بها إلى شريعة الغاب. وبالتالي: لا غنى للكينونة البشرية، والحضارة الإنسانية، عن إعلاء معايير ومباديء العيش المشترك، كالمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدل، والأمانة، والصدق، وسيادة القانون، ومكافحة الظُلم، والفساد، والمحسوبية.. إلخ. ولست أبالغ حين أقول إنه لا حل لمشكلات البشرية، ومتاعب الناس؛ سوى بالعودة إلى المعايير، والتحلي بالنزاهة، والتجرد، والإنصاف، وكل منها منهج إنساني للحياة، يجب إتباعه؛ حتى مع الأعداء. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد