لم يحظ تشريع داخلي في التاريخ الأمريكي المعاصر بجدل وإهتمام شعبي مثلما حظي مشروع إصلاح الرعاية الصحية الذي يقدر ب983 مليار دولار في عشر سنوات والذي وضعه بعض المحللين السياسيين في مكانة مشروع العهد الجديد لإعادة بناء أمريكا بعد الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن الماضي وفي مكانة مماثلة للجدل حول السياسة الخارجية بعد الهجوم علي الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية. وفي نهاية معركة شرسة صنع الرئيس باراك أوباما ما لم يستطع الرئيس فرانكلين روزفلت عمله قبل71 عاما عندما توسل إلي الكونجرس أن يصدر تشريعا لتغطية كل الأمريكيين صحيا دون جدوي اليمين الأمريكي هاجم بضراوة ما أطلق عليه مسحة' الإشتراكية الديمقراطية' التي غلفت مشروع الرعاية الصحية الذي تقدمت به إدارة أوباما إلي الكونجرس قبل عام بينما واقع الحال يشير إلي أن التقدم بمشروع اصلاحي لم يكن نتيجة وصول رئيس يحمل أفكارا خلاف السائد إلي قمة السلطة أوفرض غالبية برلمانية لقوانينها ولكنه في الأغلب محصلة طبيعية لأزمات الطبقة الوسطي في أكبر إقتصاديات العالم بعد مسيرة شاقة لسياسات اقتصاد السوق حيث وقع عامة الناس ضحية لغياب عدالة إقتصاد السوق ونمط منفلت من الرأسمالية وهوما أعاد للواجهة مبدأ' الصالح العام' علي يد الرئيس أوباما الذي خاطب نواب الحزب الديمقراطي أمس الأول قائلا' لا تصوتوا من أجلي.. ولكن من أجل عامة الشعب الأمريكي'. كانت الأزمة المالية الكبري قبل عامين قد أعادت الحديث عن' المسئولية الإجتماعية للدولة' في الإقتصاديات الكبري. فقد جرفت الأزمة المالية مسلمات عديدة إلي شاطئ جديد من عدم اليقين خاصة مبدأ إطلاق السوق الحر دون سلطات تنظيمية لكبح المصالح الخاصة في الوقت الذي لم تعد الحدود السياسية هي المشكلة الكبري وحدها. فقد صارت هناك الجريمة الإقتصادية العابرة للحدود والجشع في تكوين وتراكم الثروة وهوما أدي إلي مزيد من التفاوت في الدخول بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات القوية إقتصاديا. وفي القلب من مشروع الرعاية الصحية مجموعة من العوامل السابقة التي جعلت منه تحولا تاريخيا في أمريكا فالمجتمع الأمريكي هوالوحيد بين إقتصاديات الغرب الذي لا تدخل الدولة فيه شريكا في الرعاية الصحية لمواطنيها- بخلاف دولة الرفاهية والرعاية الصحية المتكاملة في معظم غرب وشمال أوروبا. والأمر الثاني تزايد نسبة المواطنين الذي لا تشملهم الرعاية الصحية أوالطبية- وهوما يشبه الحال في غالبية دول العالم من الشرق إلي الغرب- في مقابل إرتفاع' تعجيزي' في قيمة الخدمة لكل الشرائح المنخرطة تحت نظام الرعاية الصحي الحالي وهي المكاسب الطائلة التي تجنيها شركات التأمين الصحي والمستشفيات علي حساب غالبية المشتركين. والأمر الثالث أن غياب الإشراف الحكومي يؤدي إلي تفاقم جرائم النصب والإحتيال من داخل نظام الرعاية الصحية نفسه حيث تتكبد الحكومة وشركات القطاع الخاص أموالا طائلة نتيجة تفشي جرائم سرقة هويات المرضي وسحب أموال من شركات التأمين بواسطة المحتالين واللصوص ويقدر رقم السرقات السنوي بنحو مليار دولار في الولاياتالمتحدة. وهناك جوانب إيجابية للنظام الجديد في الولاياتالمتحدة ستكون مسار ترقب في دوائر سياسية عديدة في دول أخري ومنها توسيع نطاق التغطية ليشمل كل المواطنين بعد امتداد المظلة إلي النسبة المحرومة في أمريكا(15% تقريبا) وإلزام الجميع بالإشتراك في نظام الرعاية الصحية وتوقيع غرامات نقدية علي المخالفين والأهم بالنسبة لكثيرين هوعدم إشتراط شركات التأمين الصحي الخاصة رفض أوقبول حالات بعينها مثلما كان الحال في النظام القديم الذي كان يحرم فئات معينة مثل الحوامل وكبار السن من امتيازات العلاج أوالدخول في شرائح علاج بعينها خشية تحمل الشركات نفقات باهظة دون رادع لتلك المخالفة الصريحة. بلورة مبدأ المسئولية الإجتماعية للدولة من جديد في مشروع الديمقراطيين هوما دعا الجمهوريين إلي تركيز هجومهم علي ما سموه الملمح' الإشتراكي' في سياسات أوباما التي من المفترض أنها' ليبرالية' تقوم علي أسس منح الدولة قدرا من المسئولية التنظيمية في المجتمع وهوما يخالف التيار المحافظConservatism الذي يعلومن قدر الحرية الفردية ويعتبرها هي أساس المجتمع الحر. ومن المعروف أن مشروع الديمقراطيين تخلي عن فكرة البديل العامPublicOption وهودخول الدولة شريكا في تقديم الخدمة أسوة بالقطاع الخاص في الصيغة التي وافق عليها مجلس الشيوخ في ديسمبر الماضي تحت وطأة الهجوم من اليمين المحافظ ولضمان إلتفاف اكبر عدد من النواب حول مشروع القانون. القصد الذي ذهب إليه أوباما هوالإرتفاع بما يسمي بالصالح العامCommonGood فوق الأيديولوجية السياسية في المجتمع الأمريكي وهوما لا يراه البعض أمرا عمليا في ظل السباق علي فتح الأسواق وتحرير التجارة والخدمات وهومنطق يقابله خصوم أشداء يمتلكون القدرة علي تكوين جماعات الضغط والسيطرة علي المنابر الإعلامية. يمضي اوباما في طريقة تاركا لخصومه حرية تصنيفه أيديولوجيا ما بين' الماركسي' و'الإشتراكي' و'الإشتراكي الديمقراطي' وغيرها من المسميات العقائدية التي ربما يؤرخ له تجاوزها إلي إعادة إحياء الصالح العام علي طريقته.