تقاس منجزات الحركات الثقافيّة بمدى استمراريّتها من جهة، وبمدى تأثيرها فى البنية الاجتماعيّة من جهة أخرى. وقد حقّقت كتابة النساء حضوراً راسخاً فى البنية الثقافيّة الاجتماعيّة العربيّة منذ أن بدأت بجهود فرديّة للرائدات فى القرن التاسع عشر، اللواتى لولاهنّ لكان طريقنا أكثر وعورة. ساعدت حركات التحرّر العربيّة، الحركات النسويّة على الانتشار، والتطوّر، ومنحت المرأة مكتسبات كثيرة، لاسيّما فى الدول اللتى انتهجت نهجاً اشتراكيّاً أو يساريّاً، وفى الوقت ذاته حصلت المرأة بنضالها على حقوق أخرى لم تكن مدرجة فى لوائح المكتسبات. تجلّى ذلك كلّه فى الكتابة الروائيّة العربيّة المصنّفة تحت تيّار الأدب النسويّ، والذى عنى فى موجة من موجاته، أن تكتب المرأة عن قضاياها الخاصّة المختلفة، كأن تعنى بجسدها المختلف، وبأمومتها، وبدفاعها عن حقوقها فى مجتمعات تصنّفها طبقة أقلّ، وأن تمتلك حقّ تقرير مصيرها واختيارها، وأن تفتح ملفّات التحرّش الجنسيّ، والاستغلال، والطلاق، والتمييز فى فرص العمل، لتنتقل إلى الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة، بالتصاقب مع تحوّل النسويّة إلى سياسة هويّة، مثلها مثل الأقليّات الدينيّة، والإثنيّة، لها ما يعرف بال (كوتا) فى مفاصل البنية السياسيّة جميعها. تشير الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة فى الكتابة إلى حساسيّة مختلفة، تكتب من خلالها المرأة عن العالم، لاعن القضايا النسويّة فحسب، ولكن برؤيتها، أو من غرفتها الخاصّة، كما تقول فيرجينيا وولف، إنّ هذه الرؤية هى ما صنعته التجربة الاجتماعيّة المختلفة، والمبنيّة على الاختلاف البيولوجيّ، والتى تصبح معها الكتابة النسويّة مختلفة لا مضادّة. لقد خرجت الرواية النسويّة فى مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة من صدام البنى الاجتماعيّة الثقافيّة، إلى مساءلة هذه البنى المتشظية بين كلّ من الدين، والقانون، والعرف، وراحت تلك الكتابة تحفر، عبر الفنّ، فى التشريعات وقوانين الأحوال الشخصيّة، بعيداً عن خطاب مباشر يستعمل الجسد، والدين، والسياسة، تلك التابوهات التى صارت ورقة محروقة فى الكتابة السرديّة. لقد فتحت الكتابة النسويّة ملفّات من مثل: الإرث، والحضانة، ومنح الجنسيّة، وضمان العائلة الاجتماعيّ. فى الوقت ذاته الذى لم تعد تقبل المرأة فيه أن تكون بنداً فى برامج المرشّحين للبرلمانات والإدارات، فتُنسى قضاياها بمجرد وصول المرشّح إلى مبتغاه. صار لزاماً عليها أن تثق بصوتها، مثلما تثق بنصّها، وتطالب بحقوقها فى المواطنة، مثلما تؤدّى واجباتها، وفى غير ذلك تكشف زيف الأنساق الثقافيّة. من هنا ظهرت مؤخراً النسويّة الإسلاميّة، التى تحتجّ فيها الكاتبات على التفسيرات الذكوريّة للتشريع، تلك التفسيرات التى تبرز نصوصاً وتغيب أخرى لصالح السلطة الذكوريّة، كما ظهرت نسويّة "الدياسبورا"، التى تطرح فيها النساء المغتربات علاقاتهنّ الشائكة وعلاقات عائلاتهنّ بالوطن الأمّ، وبالهويّة الهجينة. تختلف طروحات الكتابة النسويّة من بلد عربيّ إلى آخر، وذلك وفاقاً لسطوة النسق الاجتماعيّ الثقافيّ، لكنّ مساءلة المرأة عموماً للنسق تعدّ شجاعة، ومحرّكاً رئيساً من محرّكات تلك البنية. إنّ الإضافة الفنيّة التى تقدّمها كلّ من رجاء عالم، وبدريّة البشر، وزينب حفنى للرواية العربيّة، هى فى الوقت ذاته قوّة دفع إيجابيّة للمجتمع السعوديّ تحديداً، ومواجهات شجاعة مع بعض الأنساق الثقافيّة الإقصائيّة، وكذلك ما تكتبه نبيلة الزبير، ونادية الكوكبانى فى اليمن، وما فعلته قبل ذلك ليلى العثمان فى الكويت . تختلف لاشكّ أولويّات الكتابة النسويّة باختلاف المواجهات مع النسق، فما تطرحه سحر خليفة أو بشرى أبو شرارفى فلسطين، يلامس فضاء آخر غير الذى تطرحه رضوى عاشور أو رباب كسّاب أو مى خالد فى مصر، وهو مغاير لما يعدّ أولويّة عند مارى رشّو أو هيفاء بيطار أو روزا حسن فى سورية، مثلما هو مختلف عمّا تكتبه رزان مغربى فى ليبيا، أو ربيعة ريحان فى المغرب. وتبدو المرحلة القادمة أكثر قتامة، وربّما ستواجه فيها المرأة الكاتبة قوى عنيفة ومتطرّفة، لاسيّما فى البنى الاجتماعيّة ذات الطابع المدنيّ التحرّري. إذ ظهرت نتيجة للحراكات العربيّة الأخيرة، مجموعات متطرّفة بغطاء دينيّ، تريد أفغنة المنطقة العربيّة، أو مدّ ما يسمّى بإسلام الصحراء. تلك الجماعات الإقصائيّة، تحلم بعصر الحريم، وترى المرأة سلعة جسديّة، أَمَة، أو سبيّة، أو ملك يمين، وتجنّد المرأة ذاتها لتكون جلاّدة لبنات جنسها. لعلّ مواجهة هذا الفكر الإقصائيّ مهمّة خطرة وشاقّة تضاف إلى ضرورات المرأة، لكنّها فرصتها التاريخيّة لتشارك مشاركة حقيقيّة فى نقل البنية الاجتماعيّة إلى دولة المواطنة الحقيقيّة، التى يقترن الواجب فيها بالحقّ، وإلاّ فسنعود إلى عهد السخرة الذى ولّى منذ زمن بعيد.