دعونا نقر أن مصر قد تعبت كثيرا فى الأعوام الثلاثة الأخيرة، فقد خرجت من ربقة نظام سياسى فاسد بعد ثورة شعبية فى يناير 2011 لتجد نفسها أسيرة من تصارعوا على اقتسام الكعكة السياسية وقوى ثورية مبعثرة وجماعة انتهازية رسمت لنفسها طريقا واضحا لكسب معركة صناديق الانتخاب بكل السبل الممكنة واستغلت القوى التى يعلو صوت بعضها اليوم بالمعارضة لكل شىء فى المرحلة الانتقالية لتحقيق الهدف الأعلى وهو الانفراد بحكم مصر. واحدة من المشكلات التى تعترض الوصول إلى مناخ سياسى ناضج اليوم هى عدم ترتيب البعض لأولوياته فى المعارضة لما هو قائم وما هو قادم من استحقاقات سواء كانت انتخابات أو سياسات عامة.. فبنظرة على خطاب الأيام الأخيرة عند بعض القوى السياسية، نجد الحكومة الجديدة وهى تعمل بجدية للتأسيس لنظام سياسى جديد «مدانة» من اليوم الأول!, ورئيس الحكومة موضع شكوك بينما تصريحاته حول وقف الخصخصة وإعادة هيكلة القطاع العام ماليا وإداريا ومواجهة الفقر تتصل بأهم شعارات ثورة يناير وهى العدالة الإجتماعية! وبواكير المشروعات الكبرى مع دول شقيقة تعتبر مصر قضية أمن قومى وخطا للدفاع عن نفسها فى مواجهة مخاطر عديدة هى وسيلة للسيطرة!... وبعضهم لا يمنح نفسه فرصة للتفكير برهة من الوقت فى مصير بلد كان على حافة خطر حقيقى تحت حكم جماعة كادت - هى ومن لف لفها من قوى مدنية انتهازية أيضا - أن تحطم الهوية وتقيم جدارا منيعا من الاستبداد على أنقاض اتفاقيات شراكة مع أحزاب وأفراد ارتضوا لعب دور «الكومبارس» قبل وأثناء وبعد الانتخابات الرئاسية السابقة. ما أقوله.. لا أريد أن يفهم على أنه مصادرة على حق أحد فى النقد أو إبداء المعارضة, ولكنه مقدمة أردت بها أن أسجل عدم استيعاب البعض لدروس ثلاث سنوات من التخبط والشطط فى الخصومة وممارسات غير ناضجة من قوى بعينها فى الداخل والخارج تريد أن نبقى فى حلقة مفرغة من الفوضى السياسية والفترات الانتقالية دون أن يكون لها إسهامات حقيقية على صعيد إثراء العمل العام أو الوجود فى الشارع وسط الجماهير، ولكنها للأسف اكتفت بمقاعد فى مقاهى وسط البلد وفى استوديوهات التحليل! ............... تلك مقدمة حتى نعتبر مما جرى فى السابق، وأن نبحث عن الأولويات ونتجنب رفاهية الحوارات وحسنا فعل الرئيس عدلى منصور عندما توجه فى حواره للقوى السياسية أمس الأول-الأربعاء- بحديث صريح مفاده أن تحصين اللجنة العليا للانتخابات هو القرار الصائب فى تلك المرحلة لاعتبارات عديدة، أهمها بالقطع أن فتح باب الطعون سيؤدى إلى تأخير إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة لمدة قد تزيد على ستة أشهر وقد يؤدى إلى إلغاء الانتخابات وإعادتها وهو ما يدفع البلاد إلى حالة جديدة من الفوضى التى يريدها البعض ممن يتكسبون منها, والتى تكلف الدولة ملايين الجنيهات. وفى حديث الرئيس عدلى منصور للسياسيين فى قصر الرئاسة هناك رسالة من قاض جليل- قبل أن يكون رئيس البلاد- تحتاج إلى وقفة وهى الخاصة بما قاله عن "ضرورة أن يكون الوضع الدستورى للانتخابات سليما، وأن تجرى الانتخابات فى حيادية ونزاهة وفى إطار قانونى سليم"، فهذا هو بيت القصيد فى العملية الانتخابية المقبلة، حيث لابد أن تتوافر فيها كل الشروط الضرورية لمشروعية رئيس قادم سيحمل عبئا ثقيلا ويضع على رأس أولوياته العمل وإعادة البناء دون أن يملك رفاهية النظر للخلف أو الانشغال بالقوى التى حكمت مسبقا على ما يجرى دون أن تمنح نفسها وشعبها فرصة لاستقراء الواقع وتحدياته وجسامة الأحداث فى الداخل وفى المحيط العربي. وقد كان السيد عمرو موسى السياسى البارز ورئيس لجنة الخمسين التى كتبت الدستور الجديد واضحا فى تصريحاته عقب اللقاء بشأن ضمانات نزاهة وحيادية وحسن إدارة العملية الانتخابية وعدم ترك فرص للتربص، على أن يقترن التنظيم النزيه والشفاف حضور واسع لفرق المراقبة الدولية خاصة فى ظل الاهتمام العالمى بالسباق الانتخابى وشخصيات المرشحين، وما سيترتب على الأوضاع الجديدة فى وقت لاحق. ............... الأهم من التحصين.. بالفعل هو سلامة العملية الانتخابية وأن نقدم للعالم صورة أكثر نضجا فى الممارسة السياسية الواعية التى يهمها المصلحة العامة وبناء مجتمع ديمقراطى سليم يقترن بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق المواطنة وليس بناء نظام يكون هدفه الأول هو تحقيق "الشكليات" فى العملية الديمقراطية بالتوجه إلى الصناديق وبعدها لا يستطيع الناخب أن يسأل أو يحاسب مسئولا. ............... نعم.. لقد ودعت مصر عقودا طويلة من الاستكانة للحكام فى ظل غياب المحاسبة وهدر قيمة المسئولية الملقاة على عاتق المسئول العام إلا أن شواهد الفترة السابقة من حكم رئيس جاء بالصناديق، وهو مدعوم من جماعة سياسية بعينها، ثم مارس صلاحيات الحكم على نحو كارثى تؤكد أن إجراءات العملية الانتخابية ليست هى وحدها التى تضمن شرعية الحكم ولكن ممارسات الرئيس فى مقعد السلطة هى الخطوة الأهم التى يجب التعويل عليها مع التسليم كما قلت بأن ضمانات العملية الانتخابية لا يجوز التهاون بشأنها. ............... الحل الأفضل.. أمام مختلف القوى السياسية قبل وضع اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية للإجراءات والآليات هو الاستقرار على خطوات عملية تحقق التوازن فى تحصين العملية الانتخابية من تعطيل إعلان النتائج وتضمن للقوى المتحفظة على قرار تحصين اللجنة سلامة جميع الخطوات المتعلقة بالدعاية الانتخابية وتأمين اللجان والصناديق ودقة ونزاهة النتائج بعيدا عن أى شائبة يمكن أن تكون مقدمة لموجة جديدة من حملات الهجوم على ما يجرى فى مصر. مسئولية المجتمع المدنى والأحزاب السياسية والحركات الشبابية أن تقوم بحماية وحراسة الخيار الديمقراطى لجموع المصريين من خلال الحوار وطرح الحقائق على مائدة النقاش والأهم الوصول إلى قطاعات أوسع من الرأى العام لتبصريهم وتثقيفهم بأهمية أن يمنحوا أصواتهم لمن يستحق وتقديم رؤى لمستقبل البلاد تتناسب مع طموحات الأغلبية الكاسحة من المصريين. لن يحل مشكلات مصر تحميل رئيس قادم كل العبء أو الجلوس على مقاعد الضيوف فى الفضائيات لنقد السياسات العامة دون مجهود حقيقى للوصول إلى دوائر صناعة القرار بالتوصيات والنصائح المرجوة من نخب عانت التهميش عقوداً. كما أن الرسالة الواجبة اليوم لبعض أفراد النخبة السياسية أن الوقت قد حان لإفساح الطريق أمام جيل شاب ينشد مكانا فى دوائر صناعة القرار على قدر وعود الثورة والتى أحسب أن الوقت قد حان لتحقيقها بما يتناسب مع طموحات جموع المصريين. ............... مما سبق.. أرى أن الرؤية الصائبة للتعامل مع مسألة تحصين قرارات اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة- وفى ضوء ما سوف تسفر عنه النقاشات بين رئيس الجمهورية والقوى السياسية- يجب أن تنصب على تهيئة المناخ لحملات انتخابية تقدم صورة راقية وشفافة لعهد جديد ينتظره المصريون، وضمانات من الحكومة الحالية بأن تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين وأن تترفع القوى السياسية والأوساط الثقافية والإعلامية عن "ثقافة النميمة" , وعن توجيه النقد غير الموضوعى وأن تلتفت إلى درس ماثل أمامنا أن الجماهير التى خرجت فى 30 يونيو وصلت بصبرها إلى نهاية الشوط من ممارسات رئيس منتخب "سابق اليوم" ومن نخب لم تحسن اختيار من تقف وراءه فى السباق الانتخابي، فقررت تلك الجماهير أن تعيد الأمور إلى نصابها وانتظرت بعدها أن تتصرف القوى السياسية برشد وعمق إلا أن المؤشرات الحالية لا تنبئ باستيعاب البعض مقتضيات المرحلة الحرجة والحساسة التى تمر بها البلاد. ............... أحد أهم نتائج ثورتى 25 يناير و30 يونيو أن الشعب لم يعد يقبل تزوير الإرادة وخرج ضدها فى السابق ويمكن أن يفعلها من جديد، إلا أن المواءمة السياسية فى قضية التحصين تحتاج إلى أن تنظر القوى السياسية فى أمور الوطن بعين أكثر حرصا على مستقبله ومقدراته وليس بعين المنافسة السياسية وحدها.. يمكن أن يكون هناك "حل وسط" أو تقبل القوى المختلفة برؤية الرئاسة فى تلك المسألة إلا أن القضية كاشفة وتشى بأشياء كثيرة عن واقع يريد البعض أن يكون مضطربا... ولا تزال فيه قوى سياسية غير قادرة على صياغة رؤى تليق بها وبمستقبل وطن وشعب لم يعد يحتمل أكثر... ويريد دولة قوية هى بالتأكيد قادمة. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام