تشهد حركات الإسلام السياسى فى المنطقة العربية ظروفا شديدة الصعوبة والتعقيد.وتبدو وكأنها حقبة الانحسار والتراجع، وتأتى بعد فترة قوة امتدت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتى أُطلق عليها تجاوزا صفة «صعود الحركات الإسلامية». لكن الأصح هو زمن «انتشار» الحركات الإسلامية، لأن الصعود يحمل دلالة الارتقاء فى الأفكار، والتنظيم، وتربية الأعضاء.بينما ما حدث هو مجرد زيادة عددية فى العضوية والمؤسسات مع غياب التجديد وترسيخ التوجه المحافظ. فقد توقفت الحركات الإسلامية فى مرحلة ما يمكن أن يسمى ب «الشعاراتية». إذ اكتفت بالترويج لشعارات جاذبة للجماهير مثل، «الإسلام دين ودولة» أو«الإسلام هو الحل» أو«لا تبديل لشرع الله». كانت الطبيعة التنظيمية لحركات الاسلام السياسى تجعل من ممارسة النقد أو النقد الذاتي، أمرا صعبا خشية إحداث الفرقة والإضرار بمباديء الوحدة والطاعة التى جنبت الجماعة الانقسامات والفتنة حسب لغتهم. ومع أن النقد هو شكل من أشكال الديمقراطية الداخلية التى يجب أن تسود أى تنظيم سياسي. وهذا ما يفسر لماذا تقود الخلافات إلى الانشقاقات داخل الجماعات الإسلامية. ورغم وحدة الهدف بل وقدسيته، وكثيرا ما أدت الخلافات الى الانقسام والتشرذم. وكانت أهم مواجهات الإسلاميين للذات بموضوعية وشجاعة،قد عبرت عن نفسها فى الكتاب الجماعى الذى أصدره وحرره (عبدالله النفيسي). وقد شارك فى الكتاب الذى ظهرت طبعته الاولى فى القاهرة عام 1989عدد من مؤسسى وقيادات الحركة الإسلامية المعاصرة، المتميزين ممثلة لأغلب الدول العربية. حين فرض الواقع، وظروف التطور ضرورة إعادة النظر أو اضافة مستحدثات لخطابهم السياسي، فضل الإسلاميون مصطلح «المراجعات»على مفهوم النقد، لأن الأخيرة توحى بالاقرار بالخطأ، بينما المراجعة هى فى مضمونها تنويع على ثوابت، حسب رؤيتهم. وهذا باكليشيهات الانقلابيين العرب «الثورة تراجع ولا تتراجع». وهذا ما يقصده الإسلاميون ضمنا حين يتحدثون عن المراجعات. لكنهم قاموا بتراجعات مست جوهر الفكرة والدعوة، حين قامت كل حركات الإسلام السياسى تقريبا، ب تغيير أسمائها، وذلك باستبعاد أى اشارة لما هو إسلامى فى التسمية. فلم نعد نسمع بتسميات تقليدية، مثل: الإخوان المسلمين أو الجبهة الإسلامية أو حتى الاتجاه الإسلامي. لكن تتكرر فى التسميات كلمات معاصرة ومرغوبة فى المجتمع الدولي،مثل: الحرية والعدالة، والتنمية والمساواة. وجاءت أسماء احزاب الإسلاميين عقب ثورات ما يسمى بالربيع العربي، خالية من صفة إسلامى أو مسلم. ومسألة الاسم ليست شكلية، فالاختيار مشحون بالرمزية والدلالات ويتم بقصدية وعناية. شرع الإسلاميون مبكرا فى مراجعة فكرية حين نظم مركز (دراسات الوحدة العربية) ما عرف بالحوار القومى الدينى خلال الفترة 25 27 سبتمبر 1989 فى القاهرة. ورغم أن المشاركة كانت شخصية وليست حزبية، فإن التنظيمات الناشطة تبنت القرارات والمداولات التى خرج بها اللقاء. وقد كان من أهم أسباب الاجتماع إزالة الجفوة التى يرونها مفتعلة بين التيارين القومى والديني، وأن تتوجه الأنظار للمستقبل. وكان من أهم القضايا التى بحثت هى التركيز على المشترك والجامع بين العروبة والإسلام، ونفى التناقض بينهما. كما ناقش اللقاء قضايا مثل حقوق المواطنة والذى يعتبر الموضوع الأكثر إثارة للجدل لأنه يعالج فى جوهره طبيعة الدولة: هل هى دينية أم مدنية؟ واستحوذ موضوع وضعية غير المسلمين أو الأقليات فى الدولة الإسلامية. وقد قدم الإسلاميون اجتهادات جديدة مثل موضوع الجزية التى قالوا إنها لم تعد واردة، لأنها فى الأصل ضريبة جندية سقطت عن الذين يعملون فى جيش الدولة.ولكن الواقع أثبت أن هذا الموقف مرتبط بظرفه فقط.لأن الإسلاميين حين حكموا فى السودان لم يطبقوا فكرة المواطنة والمساواة تجاه الجنوبيين غير المسلمين، بل حولوا الحرب الأهلية الى حرب دينية (جهاد)، انتهت بانفصال الجنوب. يمكن القول بأن الإسلاميين معارضون جيدون، ولكنهم حكام فاشلون. ويعود ذلك لعدم وجود نموذج استرشادى لديهم فى النظرية السياسية. فهم يلجأون للتجربة والخطأ، وغالبا ما تكون الأخطاء هى الغالبة والأكثر. وهذا مجال استراتيجى فكري، لكنهم يرفضون تقديم أى نقد لفكرهم السياسى رغم أن التاريخ لم يسعفهم بتراث كبير من النظريات السياسية الإسلامية. تؤكد الأوضاع الراهنة لحركات الإسلام السياسى أنها قد تراجعت كثيرا عن مواقفها، وهذا يعنى بالضرورة تراجع شعبيتها وتأثيرها الجماهيري. ويراهن كثير من الإسلاميين على عودة صورتهم السابقة كمناضلين مضطهدين ومظلومين يستحقون التعاطف والتأييد. لكن الوضع الآن مختلف تماما. كما كان الاسلاميون يرددون: لقد جربنا الاشتراكيين أو القوميين أو العروبيين وفشلوا؛ يمكن للآخرين القول: لقد جربنا (الإخوان المسلمين) وفشلوا! ويبدو أنهم مدركون لهذا التطور داخليا، لذلك زاد تعاونهم واستعانتهم ب «الأجنبي». وهذا تناقض فكرى قبل أن يكون موقفا سياسيا. فى الختام، هذه مرحلة فاصلة فى تاريخ وجود الحركات الإسلامية، وهى التى اصطلح علماء السياسة بتسميتها «ما بعد الإسلاموية». وتعنى تخطى ماضى الحركات، وتستوجب نقدا ذاتيا قاسيا وصادقا يتجاوز المنطق التبريرى ولا يختبئ خلف مراجعات لا تتحرك بعيدا مما يراه الإسلاميون من ثوابتهم التى لا تقبل المساس. فقد تحرك كل شيء خلال السنوات الثلاث الماضية فى العالم، وصارت النسبية هى الحاكمة. فلابد من الواقعية والابتعاد عن الأوهام الكبري. كاتب سودانى لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على