تشكلت حكومة جديدة، وظهر من خلال التوقعات والتكهنات التى سبقت تشكيل الحكومة أن من أضعف الوزارات التى يمكن تغييرها بسهولة هما وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالى، أى الجامعة. فالثقافة والجامعة أقل أهمية من رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز ولتر البنزين، لا يشعر بهما الناس فى حياتهم اليومية. يسود هذا الفهم الخاطئ رغم أن الثقافة والجامعة لهما أعمق الأثر - بطريقة غير مباشرة وبشكل غير ملموس - فى عقول المواطنين وفى تربيتهم وفى رؤيتهم العامة للحياة. فالثقافة تتسرب إلى المواطن منذ بداية وعيه من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، ومن خلال الحكم والأمثال العامية التى يسمعها منذ نعومة أظفاره، وهى الأسرع فى الوصول إليه من خلال الفنون الشعبية. الثقافة هى التى تبقى مع الطالب حتى وإن نسى التعليم. وتتأكد فى الجامعة حيث حرية الفكر والاختيار الحر، وتكوين الرأى والشخصية. وليست الجامعة استمرارا للدراسة فى المدارس الثانوية والمناهج التعليمية التى تقوم على الحفظ والتلقين، ومجرد معهد لإعطاء شهادات للتأهيل المهنى. والوطن لا يستقر وينهض دون ثقافة وطنية تفصل بين الدين والسياسة, وتحل التسامح محل التشدد والتعصب, وتسلم بحقنا فى أن نجتهد ونختلف ونتنوع, وتجعل الحوار وتبادل الرأى طريقا للتفاهم وبديلا عن العنف, فدون الثقافة لا ينهض اقتصاد ولا ينمو إنتاج, لأن الاقتصاد فكر وخبرة, والإنتاج علم وتقنية. وإذا أردنا أن نعرف الأسباب التى سمحت لجماعة الإخوان بأن تتقدم الصفوف, وتصنع ما صنعته بمصر خلال العقود الأربعة الماضية, فلنبحث عن الثقافة. وإذا أردنا أن نلزم هذه الجماعة الإرهابية مكانها, ونقلم أظفارها, ونردها إلى حجمها الطبيعى, فلنبحث عن الثقافة. لقد كانت الثقافة الغالبة على عقول الملايين من أبناء مصر طوال تلك الفترة هى ثقافة التخلف, يصح ذلك على الثقافة الدينية من حيث سيطرة معتقدات فاسدة, وتأويلات متعسفة لا تعرف معنى للتسامح أو الاجتهاد أو حرية الاختلاف فى فهم النصوص الدينية, إلى جانب إلغاء العقل وفرض التقاليد الجامدة على البسطاء من المواطنين. وينطبق الأمر نفسه على الثقافة السياسية, حيث يسيطر خطاب الاستبداد الذى لا يزال باقيا رغم سقوط نظام مبارك ونظام الإخوان الاستبداديين. ولذلك لا نزال بعيدين عن ثقافة الدولة المدنية التى تعتمد على الحوار الديمقراطى وتقبل الاختلاف والتعدد والتنوع بوصفه حقا من حقوق الحياة. وتغيير ثقافة التخلف تلك هو المدخل الحقيقى إلى المستقبل, فلا مستقبل لمصر وثقافة الناس على ما هى عليه من تخلف. إن مصر يصل تعداد سكانها إلى ما يتجاوز التسعين مليونا, ونسبة الأمية فيها تصل إلى 40%, والمعيشة تحت خط الفقر تصل إلى هذه النسبة أو تزيد. والتسرب من التعليم الأولى يتزايد ولا يتناقص, أى إن معدلات الأمية المقرونة بالفقر تتزايد, وذلك بالقدر الذى تتزايد به العشوائيات التى تفرخ المزيد من الفقر والجريمة. ويعنى ذلك أننا نتحدث عن ما يزيد على خمسة وثلاثين مليون مواطن مصرى يعانون الأمية والفقر. وبقدر ما يتحول الجهل إلى عامل فعال يساعد مشايخ التطرف والإرهاب على حشو أذهان البسطاء بالخزعبلات وأفكار التعصب الدينى والتشدد, فإن الفقر يورث أصحابه أخلاق العنف ونزعات الحقد على الأثرياء. من هنا فإن وضع سياسات دائمة للثقافة والجامعة هو أفضل من الاضطراب الحالى وتغيير الوجوه مع كل حكومة جديدة. وقد جرت العادة كلما تغير وزير تغير رجاله، فكل وزير له بطانته ومساعدوه ومن ينتظرون مثله الصعود والترقى. وقد تكون له سياسات مختلفة عن الوزير السابق عن صدق أو لمجرد إثبات الوجود، فتتغير سياسات الثقافة والجامعة. وإذا تغير الوزير باستمرار، فكيف يمكننا إذن وضع التخطيط السليم لمستقبل الثقافة والجامعة؟ ومتى تتم صياغة اقتراحات ومناقشتها والوزير يعلم أنه قد يغادر منصبه فى أى وقت؟ فهو الجانب الضعيف بين الوزراء. هو الذى يتغير فى أى تغيير وزارى، وهو العمود المهزوز فى البناء الذى يسهل خلعه، وهو العضو الزائد والإضافى الذى لا لزوم له. هذا ليس دفاعا عن وزراء رحلوا قبل الأوان، ولا نقدا لوزراء قادمين قد يرحلون أيضا بمجرد انتخاب الرئيس القادم، وتكليف رئيس وزراء جديد يختار وزراء جددا بمن فيهم أضعفهم وأكثرهم تنقلا للثقافة والجامعة. بل هو مجرد تحليل لرؤية النظام السياسى الحاكم للثقافة والجامعة، وغضب من مجموع المثقفين والجامعيين لأن مؤسساتهم هى الأكثر تغييرا فى الحياة السياسية. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب