عادت غيوم الخلافات لتخيم على علاقات روسيا مع واشنطن وحلفائها ما ينذر بتطورات اكثر تعقيدا على صعيد الازمة الاوكرانية. فما ان اعلنت الخارجية الامريكية عن "تكذيب" الكثير مما قاله الرئيس فلاديمير بوتين حول الازمة الاوكرانية، حتى فتحت موسكو الرسمية ملفات واشنطن "غير النظيفة" المليئة بوقائع التدخل والعدوان ضد الكثير من بلدان العالم، في الوقت الذي كشف فيه الكرملين عن تفاصيل مكالمة اوباما مع بوتين. تتواتر الاحداث عاصفةً سريعةً في اوكرانيا وما حولها، فيما تتواصل اللقاءات والاجتماعات بحثا عن حلول دبلوماسية لواحدة من اخطر الازمات التي تواجه المجتمع الدولي واكثرها تعقيدا منذ انتهاء الحرب الباردة في نهاية ثمانينات القرن الماضي. وعقد رؤساء بلدان وحكومات الاتحاد الاوروبي اجتماعهم الذي اقروا فيه فرض عقوبات ضد روسيا وعدد من رموزها وسارعت بعض البلدان الغربية الى تجميد اموال الرئيس الاوكراني يانوكوفيتش وعدد من رموز نظامه، وهو ما لم تفعله مع آخرين من الرؤساء المخلوعين في عدد من بلدان "الربيع العربي".وعلى الجانب الاخر اعلنت مصادر الكرملين عن اتصال هاتفي جرى بمبادرة الرئيس الامريكي مع الرئيس بوتين تناول مختلف جوانب الازمة الراهنة، وكشف عن "تباين موقفيهما وتقييمهما لاسباب نشوب الازمة وما يجرى من تطورات راهنة". وقالت ان الرئيس بوتين اطلع على ما طرحه نظيره الامريكي للتوصل الى تسوية سياسية للازمة الاوكرانية. ونقل الجهاز الصحفي للكرملين عن البيت الابيض بيانه حول "عودة القوات الروسية الى قواعدها في القرم والسماح لمراقبين دوليين بضمان مراعاة حقوق ذوى الاصول الروسية والاقليات والموافقة على حوار مباشر مع ممثلي السلطات الاوكرانية الجديدة". واشار الى ان الرئيس بوتين اكد على عدم شرعية النظام الحالي في اوكرانيا وقال انه جاء الى السلطة نتيجة "انقلاب غير دستوري ولا يحظي بصلاحيات معترف بها"، مؤكدا ان روسيا لا تستطيع تجاهل الدعوات التي تطالبها بتقديم العون وهو ما تقوم به بما يتفق مع بنود القانون الدولي. وقالت مصادر الكرملين ان بوتين اكد ضرورة الا يضحي البلدان روسياوالولاياتالمتحدة بسبب خلافات حول قضايا دولية معينة وإن كانت فائقة الاهمية على حد تعبيره، وان الرئيسين بوتين واوباما خلصا الى اتفاق حول تكليف وزيري خارجيتهما بمواصلة المباحثات حول هذه الامور. وفيما واصل الرئيس بوتين اتصالاته مع عدد من نظرائه الغربيين وبلدان الكومنولث، استأنف وزير خارجيته لافروف مباحثاته مع نظرائه الغربيين في محاولة لدرء اخطار الانزلاق الى حلول عسكرية بعد اعلان القرم عن اجراء استفتاء حول انفصالها عن اوكرانيا وانضمامها الى روسيا. ورغم اعلان واشنطن عن عدد من العقوبات تتعلق بحظر دخول الولاياتالمتحدة، وتجميد الاموال، ولا تنسحب على اي من جوانب العلاقات الاقتصادية، تمضي موسكو على طريق الاستجابة لطموحات مواطني القرم، حيث استقبلت بالامس (الجمعة) ممثلي البرلمان والحكومة لمناقشة المسائل المتعلقة بالاستفتاء الشعبي المقرر اجراؤه في 16 مارس الجاري، وآفاق انضمام القرم الى روسيا، في توقيت اعلنت فيه مدينة سيفاستوبول – القاعدة الرئيسية للاسطول الروسي في البحر الاسود عن اجراء استفتاء مماثل حول الانضمام الى روسيا. واعلن سيرجي ناريشكين رئيس مجلس الدوما ان بلاده "تنظر باحترام الى الخيار التاريخي لشعب القرم". وكانت موسكو كشفت نقلا عن مصادر امريكية عن ان الولاياتالمتحدة انفقت على تمويل مخططات الاطاحة بالنظام في اوكرانيا خمسة مليارات دولار خلال السنوات الاخيرة فيما القت على عاتق واشنطن بمسئولية تدهور الاوضاع هناك. وعادت العاصمة الروسية الى تاكيد ان الاحداث الاخيرة في القرم جاءت نتيجة تجاهل الغرب لنتائج اتفاق 21 فبراير الذي توصل اليه ممثلوه من وزراء خارجية فرنسا والمانيا وبولندا مع الرئيس الاوكراني يانوكوفيتش والمعارضة، بحجة ان "الشعب وراء عدم قبول هذا الاتفاق"، وهو ما استشهدت به لتاكيد ان الشعب في القرم ايضا يريد تغيير الواقع الراهن ويطالب بالانفصال عن اوكرانيا، على نحو يعيد الى الاذهان ما سبق وشهدته جورجيا المجاورة التي اعلنت ابخازيا واوسيتيا الجنوبية عن انفصالهما عنها، واقرتا ذلك في استفتائين شعبيين لم يعترف بهما الغرب. ومع ذلك فقد فرضت الجمهوريتان اللتان كانتا تتمتعان بالحكم الذاتي الامر الواقع الذي حظي بغطاء روسي عسكرى في اعقاب المغامرة الفاشلة للرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي في اغسطس 2008. وفيما يقول مراقبون في موسكو وخارجها باحتمالات ان تسير الامور في اوكرانيا وما حولها بموجب سيناريو مشابه لما حدث في عام 2008 مع جورجيا، تبدو الامور في اوكرانيا وما تمثله لكل الاطراف الخارجية من اهمية استراتيجية وجيوسياسية اكثر تعقيدا، ما تعكف موسكو اليوم على دراسته على ضوء ما يصدر عن شركائها الغربيين من ردود افعال تكشف عن بعض التباين في الرؤى والتوجهات. وفي محاولة لتاكيد مشروعية ما تتخذه موسكو من اجراءات ومواقف يستعيد الكثيرون من المراقبين بعضا من تاريخ المنطقة الذي يؤكد مشروعية عودة القرم الى روسيا وهو ما تناولناه في اكثر من تقرير سابق، الى جانب الاشارة الى ما شهدته منطقة البلقان من صراعات وانقسامات اسفرت عن ظهور العديد من البلدان في اعقاب تقسيم يوغوسلافيا، بما في ذلك كوسوفو التي لم تحظ بعد باعتراف كثير من بلدان العالم ومنها روسيا. ذلك ما يسوقونه ايضا ردا على ضرورة احترام المعاهدات والمواثيق الدولية ومنها وثيقة هلسنكي للامن الاوروبي الموقعة في عام 1975 والتي تنص ايضا على "حق الشعوب في تقرير المصير". وكانت الخارجية الروسية ردت على تكذيب نظيرتها الامريكية لتصريحات الرئيس بوتين حول تطورات الاحداث في اوكرانيا بسرد الكثير من وقائع " تدخل واشنطن في العراق وقصفها ليوغوسلافيا السابقة فضلا عن حرب فيتنام وتدخل واشنطن في لبنان في عام 1958 وجمهورية الدومنيكان في 1965 وجرينادا في 1983 وقصف ليبيا في 1986 واحتلال بنما في 1989".وقال الكسندر لوكاشيفيتش المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية:"أن واشنطن تبدو غير قادرة على فهم تطور الأحداث التي لا تتفق مع المعايير الأمريكية، وان الولاياتالمتحدة لا تستطيع قبول عدم قدرتها على إملاء إرادتها في أي وقت وفي أي مكان".ومع ذلك فمن المقرر ان يواصل وزير الخارجية الروسية مباحثاته مع نظيره الامريكي للبحث عن حلول سياسية عاجلة للازمة الراهنة بموجب الاتفاق الذي توصل اليه بوتين واوباما خلال مكالمتهما التليفونية الاخيرة، في محاولة للابتعاد عن شبح المواجهة ونزع فتيل الصدام .