هو شعاع النور الذى أراد فى مراهقته أن يجعل من نفسه شمسا أو قمرا، ورغم أنه قد صارت لديه أفكار وخطط أخرى الآن، فهذا لا يجعله يسخر من فكرته القديمة كلما تذكرها، إنما يتفهم نفسه حينها، ثم يبتسم ويقول من جديد بصوت مسموع: «ولم لا؟»، وهو سؤاله الذى يكرره كثيرا بين كلامه وأفعاله، حتى صار أثيره الذى يعرفه عنه أصحابه، ويحبون أن يسمعوه منه، لأنه يجعل كل شىء يبدو بسيطا وممكنا، لذا أطلقوا عليه لقب: «ولم لا؟»، حتى صار اسما له بدلا من اسمه الحقيقى الذى نسوه كأنهم لم يعرفوه أبدا، ولو أن أى شعاع نور يموت ويتحدث عنه أصحابه، فأول شىء سيذكرونه عن «ولم لا؟»، إن اسمه يتعدى كونه مجرد اسما، ليكون طريقه فى الحياة، وفكرة تؤمن بالخيال وتحلق فيه، ويتذكرون الكثير من المواقف العزيزة على قلوبهم معه، لكن، لأن كل شعاع نور يظل يتنقل فى العالم فيما يبدو أنه لا نهاية، سيظل «ولم لا؟» يعيش بجموحه وطريقته فى الحياة، ومهما غاب عن أصحابه، سيعرفون أنه فى مكان ما، أو مع كائن ما يعلمه الجموح والخيال. عندما قال لها اسمه، ضحكت الشابة التى ظل «ولم لا؟» يتلصص عليها خلف ستارتها لعدة ليال، وعندما سألته إن كان هذا اسمه الحقيقى قال إنه لا يعرف غيره، ولو كان الأمر باختياره سيختار أن يكون «:ولم لا؟»، فلم تستطع الشابة أن تمنع نفسها من الضحك ثانية. عندما رآها مرة وهى تمشى فى شارع يراه لأول مرة، أحس بداخلها شيئا يشبهه ورآه، فتوقف وغير طريقه ليتبعها، وبمرور الوقت كان إحساسه بها يزداد عمقا وقوة، فيقترب ويتوقف لأن يلمسها، لكنه يتراجع فى آخر لحظة خوفا أن يزعجها، ويدور حولها ليتأمل ذلك الذى يشبهه بداخلها، كم من الوقت ظل يتبعها؟ إلى أين أخذته؟ هل أحست به ورأت أنه يشبه شيئا بداخلها؟ لم يعرف أية إجابة، ظل يتبعها لعدة أيام وبلاد، يتلصص عليها فى نومها، ويرى ما يشبهه بداخلها يطفو على وجهها، فيكاد قلبه يطير إليها، إلا أنه يتمالك نفسه، بما يكفى فقط ليرتعش خلف ستارة نافذتها المفتوحة، حتى ليلة فتحت الشابة عينيها فجأة كأنما أيقظها حلم، لتلتقى عيناها مباشرة عينيه، فلا يعرف إن كانت المرة الأولى التى تنظر فيها إليه، أم أن عينيها تنظران فيه طوال عمره، نهضت من فراشها واقتربت منه بهدوء، أزاحت له ستارتها، فهزته سعادته واقترب منها قليلا، ظلت تنظر إليه صامتة ولعينيها ابتسامة يشبه السحاب بعضا منها، وعندما أحس أن عليه أن يبدأ بشىء ما، قال لها: «أنا اسمى ولم لا؟»، قالها بهذا التفصيل حتى تعرف أن «ولم لا؟» أسمه وليس شيئا آخر، فكان أول ما سمعه منها ضحكتها التى يشبه الطيران مقطعا منها. يعرف «ولم لا؟» أنه لن يعود ثانية لبيته منذ اللحظة التى يخرج فيها، هذا ما يحدث مع الجميع، أو ما يفعلونه باختيارهم، لا أحد يعرف، سيتنقل فى العالم لما يبدو أنه لا نهاية، يكون صداقات وعلاقات طوال حياته، ويظل شغفه الأكبر أن يلمس تفاصيل العالم بطريقته المميزة، التى تجعله واحدا من تلك الكائنات التى تترك أثرا عميقا فى الآخرين، وفى نفس الوقت تبدو كأنها لا تترك أى أثر، ما يمنح الحرية لهؤلاء الآخرين أن يشعر كل منهم هذا الأثر بعمق وخفة معه، فى واحدة من علاقات الكون الرائعة: أن يلمس كائن ما كائنا آخر، ويترك فيه هذا الأثر العميق دون أن يترك أى أثر. لن يبذل «ولم لا؟» أى مجهود ليقنع الشابة أن بداخلها شيئا يشبهه، فمجرد أن يخبرها بذلك تصدقه، وتشعر بما يتحدث عنه وهو يطفو من داخلها لتراه أمام عينيها، ربما كانت تراه من أول نظرة لعينيه، أو قبل ذلك عندما رآها لأول مرة ولم يعرف وقتها إن كانت قد أحست به أم لا، الآن يصحبها «ولم لا؟» فى حياتها، ورغم أن بإمكانه أن يقحم نفسه فيما كل ما تفعل، إلا أنه لا يتخطى نافذتها أو بابها قبل أن تسمح له، ودائما تحب أن تفعل، فيلقى بنفسه لأقرب مكان منها، وبعد قليل، تشعر به على ذراعيها، أو ملابسها، يدور حولها ويتأمل ما يشبهه بداخلها، ويلامسه، يتنقل فى زوايا حجرتها ويحولها لمساحات جميلة من العالم، يمزج نفسه بحاجياتها ويعيد ترتيبها، فيجعل منها أفكارا جديدة، وقبل أن يغادر يضع نفسه بين يديها، وكما علمها تشكل منه كائنات شفافة تبقى معها طوال الوقت الذى يتركها فيه ليتجول فى العالم. في بدايات تجواله بالعالم، يتوقف «ولم لا؟» أحيانا ليتأمل نفسه، ويفكر في الأفكار والأماكن التي يحملها بداخله، فمجرد خروجه للمرة الأولي من بيته تكون ذاكرته محملة بكل ما فكر فيه أسلافه ورأوه بحياتهم، وفي قلبه كل المشاعر التي عاشوها، لكن، ومنذ لحظة خروجه تلك، تتساقط تجاربهم منه تدريجيا لتحل تجربته بدلا منها، فكل مشهد جديد يعيشه يبدو كأنه يحذف مشهدا قديما لهم، وكل فكرة تمر به او يمر بها تبدو كأنها تلغي واحدة من أفكارهم، حتي يصير محملا تماما بتجربته الشخصية. فيما بعد يعرف «ولم لا » أن تجارب أسلافه وأفكارهم، وتلك المشاهد والذكريات القديمة لم تتساقط منه فعلا، وإنما تعيش داخله في مكان ما، هي فقط تفسح مكانا في المقدمة لتجربته، هناك، وفي البدايات يكتشف «ولم لا؟» سريعا، كيف أن العالم متسع ومتجدد حتي يمنح لكل كائن تجربته الشخصية، ثم يضيف لفكرته بعد فترة من التجوال، أن العالم يبدو كما لو أنه يلملم التجارب القديمة، حتي التي لم يجربها كاذن ما بنفسه، ويضعها في صندوق بلا غطاء، يلقي عليه ستارة شفافة، ويتركه داخل هذا الكائن في مكائن سري لا يعرفه عن نفسه، لكنه يشعر به، وأحيانا ما ترفع التجارب القديمة تلك الستارة الشفافة، وتتسلل من الصندوق لتتمشي هناو هناك. لايمر وقت قصير حتي يتكرر «ولم لا؟» كثيرا في كلام الشابة، لن تلاحظ ذلك في البداية، ربما لأنها تحمل بداخلها شيئا يشبهه، وعندما تلاحظ تبتسم، ثم تضحك عندما تحاول ألا تكرره ولو بشكل غير ملحوظ ولا تستطيع، كما لن يكون واضحا لها ان كانت تكرره لإعجابها بالفكرة التي يقدمها الاسم، ام بصاحب الاسم، وعندما تبدأ صاحباتها في مناداتها: «ولم لا؟»، تفهم أنهن سيجعلنه لقبا لها، فتضحك وتقول: «ليكن ، ولم لا؟» في كلامها، وتكراره بهذا الشكل، كان الأمر في البداية مثل أي شيء تمازح به الصديقات بعضهن بعضا، لكن، لايمر وقت قصير آخر، حتي يتجاوز «ولم لا؟» كونه سؤالا أثيرا لدي صاحبتهن ، ليكون فكرة يمكن التفكير فيها بجدية. لم يستقبل «ولم لا؟» الأمر بنفس البساطة عندما تقول له أن صاحباتها صرن ينادينها و«ولم لا؟»، فبينما تضحك، يصمت تماما وسعادة كبيرة تهز قلبه، وعندما تسأله، وتعيد سؤالها، يبتسم وتري في عينيه نظرة يشبهها الحنين في مساحة منها. يستطيع «ولم لا؟» أن يستلقي بطول العالم، او بحجم ورقة شجر، يمكنه أن يلملم نفسه في عيني الشابة، ويمزج نفسه بنورها وما يشبهه بداخلها، حيث يكون أكثر هدوءا وراحة، فلا شيء يشتته أكثر من أن يشعرها حزينة، عندها يضطرب، يتخبط، يصير عصبيا، حادا، ثم يتكسر حزينا واهنا، لكنه بسرعة يلملم نفسه لأجلها، ويمنحها كل ما عرفه في حياته من أسباب السعادة، ويخترع لها أسبابا جديدة حتي يعيد اليها ابتسامتها، ويشعر بسعادتها تهزها، مثلما تهزه سعادته كلما نظرت في عينيه او ازاحت له ستارتها. رغم كل ما صار بينهما من حياة لايزال «ولم لا؟» علي طريقته القديمة معها ينتظر حتي تزيح له ستارتها او تفتح بابها، فتهزه نفس السعادة القديمة بنفس القوة، وبالحب القديم نفسه يتأمل ما يشبهه بداخلها، ويعلمها كل ليلة كيف تشكل منه كائنات شفافة جديدة تبقي معها. لا يحب «ولم لا؟» أن يفكر فيما يمكن أن يحدث بعد سنوات، حيث ربما لا تكون موجوده، يتجاوز تلك الفكرة إلي أفكار اخري يحبها، ربما يفكر في شيء بسيط، مثل أن يصحبها ليتفرجا علي بحار لا يغرق، معه قارب نصف محطم، يخترق به الشمس عندما تلامس البحر وقت غروبها، ويعبر للجهة الأخري، او يدخل بها عرضا مجانيا للالعاب، يقدمه كل ليلة رجل متجول يفتح صدره للكائنات فتدخله، وتتفرج داخل قلبه علي عروض عجيبة تملأ قلوبها متعة. ربما لا يفعل «ولم لا؟» شيئا للشابة غير أن يتمشي معها في شارع يمر بأي مكان من العالم، ولا يفكر حينها إلا في أنهما سيتمشيان لما لانهاية، هكذا ببساطة وجموح، كما اعتاد أن يفكر، فليكن، لما لا نهاية، «ولم لا؟».